
رسالة العلماء (19) : أشهد أنك أخذت المال من غير حقه!
لقد جعل الله قيم الحقّ والعدل ميزاناً بأيدي العلماء الربّانيّين، والأئمّة المهديّين، الذين ائتمنهم على دينه، وما سواها أهواء متناحرة، وظلمات مدلهمّة، وظلم وعدوان، وبغي وبهتان. فأوّل مسؤوليّاتهم أن يعلنوا قيم الحقّ والعدل للناس، ويعلّموهم إيّاها، وينشروا حقائقها ويشيعوها، ويبشّروا بها بكلّ وسيلة، ويدعوا الناس للالتزام بها، وإيثارها على ما سواها. وهم في ذلك يقفون على صراط الله المستقيم، وهديه القويم، يبشّرون به، ويدعون إليه، فإن عجزوا عن ذلك أو ضعفوا فلا أقلّ من أن يلزموا الصمت، ويعتزلوا الناس، ولا يعينوا الظالم على ظلمه، والباغي على بغيه. وإنّ الأئمّة المهديّين، والعلماء الربّانيّين في كلّ عصر ومصر لا يقفون بين الأمّة والحاكم على مسافة واحدة، بل هم في صف الأمّة وأقرب إليها، لا استرضاءً للعامّة وإيثاراً للأهواء، ولكن لأنّ الأمّة ـ والتاريخ شاهد صدق على ذلك ـ تنتقص حقوقها في أغلب الأحوال، ويعتدى على حرماتها، وتصوّب إليها سهام المظالم من كلّ باغ متنفّذ، ويضعف أكثر أفرادها عن المطالبة بحقوقهم، فينامون على الضيم، ويستكينون للظلم، ممّا يجرّهم إلى ألوان من الفساد لا تقف عند حدّ. ويتطلّعون إلى العلماء، وهم الفئة الرائدة الراشدة، وينتظرون منهم أن ينتصروا لهم، ويطالبوا بحقوقهم. فهل من المسؤوليّة أن يخذل العلماء الأمّة التي وثقت بهم، وعلّقت آمالها عليهم؟
إنَّ العلماءَ الرَّبانيينَ هم (النُّجوم المضيئةُ) في سماء هذا العالمِ؛ فبهم يهتدي النَّاسُ في مساربِ هذه الحياةِ؛ فإذا غابوا أو غُيِّبوا سادَ الظلامُ الدَّامسُ أرجاء الأرض، وتخبَّطَ الخلقُ في دياجيرِ الظلمةِ؛ فلا يعرفونَ طريقاً، ولا يهتدونَ سبيلاً؛ كما قال أحدُ السلفِ–رحمه الله– : (مثل العلماء مثل النجوم التي يُهتدى بها، والأعلام التي يُقتدى بها، إذا تغيَّبتْ عنهم تحيَّروا، وإذا تركوها ضَلُّوا.وكُلَّما عصفتْ بالأُمَّةِ رياحُ الفتنِ العاتيةِ، وضَربتْ بها أعاصيرُ المحنِ القاسيةِ؛ عَظُمتْ الضَّرورةُ إلى هذا الطراز الفريدِ من أهل العلمِ، وصارتْ الأُمَّةُ في مسيس الحاجة إليهِ
عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، قال: حدثني عمي محمد بن علي قال: إني لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب وكان والي المدينة الحسن بن يزيد. قال: فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبي جعفر شيئاً من أمر الحسن بن يزيد. فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، سل عنهم ابن أبي ذؤيب.
قال: نسأله.
فقال: ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب؟
فقال: أشهد أنهم يحطمون في أعراض الناس، كثيروا الأذى عليهم.
فقال أبو جعفر: أفسمعتم؟
فقال الغفاريون: يا أمير المؤمنين، سله عن الحسن بن يزيد.
فقال: يا ابن أبي ذؤيب، ما تقول في الحسن بن يزيد؟
فقال: أشهد أنه يحكم بغير الحق ويتبع هواه.
فقال: سمعت يا حسن ما قال فيك وهو الشيخ الصالح؟
فقال: يا أمير المؤمنين، سله عن نفسك.
فقال: ما تقول فيّ؟
قال: تعفيني يا أمير المؤمنين.
قال: أسألك بالله إلا أخبرتني؟
قال: تسألني بالله كأنك لم تعرف نفسك!
قال: والله لتخبرني؟
قال: أشهد أنك أخذت المال من غير حقه فجعلته في غير أهله وأشهد أن الظلم ببابك فاشٍ.
قال: فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي ذؤيب فقبض عليه.
ثم قال: أما والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم والديلم والترك بهذا المكان منك.
قال: فقال ابن أبي ذؤيب: يا أمير المؤمنين قد وُلّي أبو بكر وعمر وأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا أنوفهم.
قال: فخلّى أبو جعفر قفاه وخلى سبيله.
قال: والله لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك.