رسالة العلماء-20: إن خير الأمراء من أحب العلماء، وإن شر العلماء من أحب الأمراء
إعداد: عرفان بلخي
الحكام في أمّس الحاجة إلى من يذكرهم بالله، ويصارحهم بأخطائهم ويرشدهم إلى الخير والصلاح. وهكذا كان الخلفاء، فقد كان يُقال للخليفة: يا أمير المؤمنين أعزك الله، ويا عمرأصلحك الله. وفي المقابل فإن الحاكم إذا اتسعت الجفوة بينه وبين العلماء الربانيين، كان ذلك سبباً في شقائه بل وشقاء الأمة المسلمة التي يتولاها، وهذا بالفعل ما كان حاصلاً عند هجوم المغول على الدولة الخوارزمية حيث كان السلطان خوارزم شاه معرضاً عن نصح العلماء والتشاور معهم، بل إن الأمر عنده تعدى ذلك إلى التضييق على العلماء ووضع بعضهم تحت الإقامة الجبرية، ونفي البعض الآخر وتغريبه، فلما غزا المغول دولتهم أصبح المسلمون كالأيتام على موائد اللئام، فلما طغت شهوة الحكم وقدمت على مصلحة الأمة، أفسدت كل محاولات العلماء، ولا أدل على ذلك ما قام به الإمام محيي الدين ابن الجوزي عندما أرسله الخليفة العباسي المستعصم بالله إلى السلطان جلال الدين منكبرتي بعد استباحته لإحدى مدن المسلمين، فلما دخل ابن الجوزي عليه وجد السلطان جلال الدين يبكي وبين يديه المصحف، محاولاً خداع ابن الجوزي، فصاح ابن الجوزي في وجهه وقال له: (تقرأ في المصحف وتبكي، وأنت تفعل بالمسلمين ما تفعل، لقد قتلت عشرين ألف مسلم، وسبيت نساءهم، وفعلت ما فعلت).
قيل للإمام مالك رحمه الله: “إنك تدخل على السلطان وهم يظلمون ويجورون. فقال: يرحمك الله، فأين المكلّم بالحق”.
والإمام مالك – رحمه الله – هو من قابل الرشيد بكلمته المشهورة (لا تكن أول من وضع العلم فيضعك الله) لما قدم هارون الرشيد المدينة، وجه البرمكي إلى مالك، وقال له: احمل إليّ الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك، فقال مالك للبرمكي: “أقرئه السلام وقل له: إن العلم يُزار ولا يزور”. فرجع البرمكي إلى هارون الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين أيبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك في أمر فخالفك! أعزم عليه حتى يأتيك، فأرسل إليه، فقال: “قل له يا أمير المؤمنين لا تكن أول من وضع العلم فيضعك الله”. وهذا إن دل فإنما يدل على فقه عظيم تشبع به الإمام مالك – رحمه الله – في هذه المسألة حيث أنه ممن لا يرى حرجاً في الدخول على السلاطين إذا تحققت المصلحة في ذلك إحقاقاً للحق، لكن لما كان هذا الدخول دعوة من السلطان فيها إذلال للعلم وأهله، أراد الإمام مالك أن يعطي درساً ليس لهارون فحسب بل لكل إنسان تعمم بالعلم واحتمى بالسنة.
ولعل موقف البرمكي هنا يعد نموذجاً سياسياً خبيثاً لأساليب الزعامة الإسلامية التي تلتف حولها الأمة، فالبرمكي نظرية ثابتة في واقع الصراع بين التيار الإسلامي والتيارات المنحرفة، سيحاول ممارستها مع كل محاولة إسلامية جديدة (برمكي) جديد يتلهف إلى لحظة يكون فيها الزعيم القائد، ونحن نذكّر من كان هذا حاله بما ورد عند البخاري من حديث أبي سعيد وأبي هريرة – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف، وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله”.
فالسؤال إذاً لِما كان بعض السلف يدخلون على الحكام؟ باختصار شديد هم يدخلون رغبة منهم في إصلاح الحاكم مع عدم الإخلال بمبادئهم وعزتهم.
وحضر القاضي عمر بن حبيب مجلس الرشيد فجَرت مسألة فتنازعها الخصوم، وعلت الأصوات فيها، فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – فدفع بعضٌ الحديث، وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: أبو هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فنظر إليّ الرشيد نظر مغضب، وانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث أن جاءني غلام فقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنط وتكفن. فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، وأدخلت على الرشيد، وهو جالس على كرسي حاسراً ذراعيه، بيده السيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال: يا عمر بن حبيب، ما تلقّاني أحد من الدفع والرد بمثل ما تلقيتني به وتجرأت عليّ، فقلت يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته ودافعت عنه، وملت إليه، وجادلت عنه ازدراء على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعلى ما جاء به، فإنه إذا كان أصحابه ورواة حديثه كذابين، فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والحدود، مردودة غير مقبولة. فالله الله يا أمير المؤمنين أن تظن ذلك، أو تصغي إليه، وأنت أولى أن تغار لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الناس كلهم، فلما سمع كلامي رجع إلى نفسه ثم قال: “أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله”.
شاء الله أن يختص ذاته بالكمال، وأراد بحكمته أن يكون لدى الإنسان مثالب وجوانب قصور مهما بلغ! وجراء ذلك حدث بعض الاختلاف عند السلف في كيفية التعامل مع هذه القضية الحساسة. فمنهم من اجتهد وأصاب فله أجران، ومنهم من اجتهد فأخطأ فله أجر واحد. فهم دائرون في فلك الاجتهاد. لكن ينبغي أن يعلم أنه بالرغم من وجود هذه الاختلافات إلا أن هناك أصولاً وأساليب مشتركة اعتمدها العلماء في دعوتهم مع الحكام.
قال الحارث المحاسبي (عرف بذلك لكثرة محاسبته لنفسه): “الأصل الذي بنوا به طريقتهم، التزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصدق، وتقديم العلم على حظوظ النفوس، والاستغناء بالله عن جميع خلقه”.
ليس المخاطب في النصوص والآثار الواردة في هذه المسألة العلماء فحسب، بل هوخطاب للعلماء يدخل فيه، ضمناً، المحتسب والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فكلهم إخوة وإن كانوا لعلات، فالخطاب يشملهم والعادة تجمعهم، والنقص يغمرهم، وإن اختلفت منازلهم، وتباينت أحوالهم.
إن الدخول على السلاطين والإكثار منه هو في حد ذاته بلاء وابتلاء، وهنا يأتي دور المصالح والمفاسد. وهنا تتمحص النوايا. وهنا ينبغي أن يتأمل العالم والمحتسب النصوص والآثار المرهبة في الدخول على السلاطين، وكل ما ساقه الإمام السيوطي رحمه الله (ت: 911هـ ) في كتابه: “ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين ” يعتبر من هذا الباب.
فمن ذلك ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن، وما ازداد أحد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً”.
قال ابن المبارك – رحمه الله -: “من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما موت يذهب علمه، وإما ينسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه”. وقال أبو حازم ( سلمة بن دينار ): “إن خير الأمراء من أحب العلماء، وإن شر العلماء من أحب الأمراء”.
لكن هل كل السلاطين داخلون في هذا المعنى من التحذير والترهيب أم أن المراد بذلك هو السلطان الجائر الظالم الذي استباح بيضة المسلمين واستحل دمائهم ولم تعصم عنده أموالهم؟ يقول ابن عبد البر- رحمه الله – مبيناً هذا المعنى ومجيباً على هذا التساؤل -بعد أن أورد الأحاديث والآثار الواردة في النهي عن المجيء إلى السلاطين-: “معنى هذا كله في السلطان الجائر الفاسق، وأما العدل منهم الفاضل فمداخلته وعونه على الصلاح من أفضل أعمال البر، ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز إنما كان يصحبه جلّة العلماء” وقال علامة الأندلس ابن حزم وهو ينصح العالم في رسالته (مراتب العلوم ): “وإن ابتلي بصحبة سلطان فقد ابتلي بعظيم البلايا، وعرض للخطر الشنيع في ذهاب دينه وذهاب نفسه، وشغل باله، وترادف همومه”. وهذا كلام عالم من أفقه الناس بأخلاق الملوك وصفاتهم.