مقالات الأعداد السابقة

رسالة العلماء (21): اتق الله في نفسك، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك!

إعداد: مومند

 

قالوا: إن العلماء الربانيين الصادقين هم الذين يُعرفون بمواقفهم في نصرة الحق والغيرة عليه والذود عن حياضه، ليس العلماء الربانيون هم الذين يعيشون الترف والبذخ والرفاهية مع تهميش قضايا الأمة، في الوقت الذي يرون فيه أمة الإسلام تتمزّق، ودماؤها في كل مكان تسفك، وأعراض المسلمات العفيفات تُنتهك، وشريعة الله تطرح وتنبذ، وحكم الطاغوت يعلو ويُقدّم، وهم مع ذلك لا يحرّكون ساكناً.

إن العلماء الربانيين هم الذين يحركهم دينهم والعلم الذي في صدورهم فيقودون أمة الإسلام للحق والعِز والنصر بإذن الله، وينصحون لها كما فعل العالم الرباني الإمام أحمد بن حنبل حين نصر الحق ودعا إلى الكتاب والسنة على فهم السلف. وليس مِن العلماء الربانيين من لا يتكلم إلا إذا أمره السلطان، ويسكت إذا أمره السلطان، ويلتمس للحكام الأعذار والتبريرات فيما يقومون به من عمالة للكفار وخيانة لدينهم وأمتهم، بينما يطلقون لألسنتهم العنان في الطعن والتجريح والإنكار على الصادقين من هذه الأمة؛ لأنّ ذلك يوافق أهواء السلاطين، إنّ أمثال هؤلاء لا يحركهم دينهم وعقيدتهم، وإنما يحركهم السلاطين، لذلك جاء في السنة التحذير من إتيان السلاطين، وحذر السلف من إتيانهمن بل كان بعضهم لا يروي الحديث عمن يغشى أبواب السلاطين.

ومن العلماء الربانيين عطاء ابن أبي رباح مولى آل أبي خيثم الفهري القرشي، واسم أبي رباح أسلم، وُلد بالجَندَ (بلدة باليمن) وكان مولده سنة سبع وعشرين أثناء خلافة عثمان بن عفان، ولما سُئِل عن موعد مولده قال: لعامين خَلَوا من خلافة عثمان، وكان عطاء أسود أعور أشل أعرج، ثم عمي في آخر عمره، وكان من سادات التابعين فقهًا وعلمًا وورعًا وفضلاً، لم يكن له فراش إلا المسجد الحرام إلى أن مات.

تلقى عطاء ابن أبي رباح العلم على يد ثُلة من الصحابة منهم عبد الله بن عباس حبر الأمة، وتعلم على يد عبد الله بن عمر، وسمع من أبي هريرة، ونهل من علم السيدة عائشة رضي الله عنها.

دخل عطاء ابن أبي رباح على هشام بن عبد الملك، فرحب به وقال: ما حاجتك يا أبا محمد؟ وكان عنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا، فذكّره عطاء بأرزاق أهل الحرمين وأُعطياتهم.

فقال: نعم؛ يا غلام اكتب لأهل المدينة وأهل مكة بعطاء أرزاقهم، ثم قال: يا أبا محمد هل من حاجة غيرها؟

فقال: نعم، فذكّره بأهل الحجاز وأهل نجد وأهل الثغور، ففعل مثل ذلك، حتى ذكّره بأهل الذمة أن لا يكلفوا ما لا يطيقون، فأجابه إلى ذلك، ثم قال له في آخر ذلك: هل من حاجة غيرها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله في نفسك، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد.

قال: فأكب هشام يبكي، وقام عطاء. فلما كان عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس ما ندري ما فيه، أدراهم أم دنانير؟ وقال: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بهذا، فقال عطاء: {ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين} ثم خرج، ولا والله ما شرب عندهم حسوة ماء فما فوقها.

بلغ عطاء ابن أبي رباح درجة عالية من العلم، فكان يجلس للفتيا في مكة بعد وفاة حبر الأمة عبدالله بن عباس، ولما قدم ابن عمر مكة فسألوه فقال: أتجمعون لي يا أهل مكة المسائل وفيكم ابن أبي رباح؟. وكان يعرف عنه أنه لا يريد بعلمه جاهًا أو سلطانً، ولم يكن طالبًا بعلمه يومًا مالاً أو شيئًا من متاع الدنيا، بل كان يريد وجه الله ، يقول سلمة بن كهيل: ما رأيت أحدًا يريد بهذا العلم وجه الله غير هؤلاء الثلاثة عطاء وطاووس ومجاهد.

يقول أسلم المنقري: جاء أعرابي فسأل فأشاروا إلى سعيد بن جبير فجعل الأعرابي يقول: أين أبو محمد؟ فقال سعيد بن جبير: ما لنا ها هنا مع عطاء شيء.

قال ابن أبي ليلى: دخلت على عطاء فجعل يسألني، فكأن أصحابه أنكروا ذلك، وقالوا: تسأله؟ قال: ما تنكرون؟ هو أعلم مني. قلت: هذا هو التواضع ومعرفة الفضل لأهله.

قال عبد العزيز بن رفيع: سُئل عطاء عن شيء، فقال: لا أدري، قيل: ألا تقول برأيك، قال: إني أستحيي من الله أن يدان في الأرض برأيي.

وعن الأوزاعي قال: ما رأيت أحداً أخشع لله من عطاء ولا أطول حزنًا من يحيى ابن أبي كثير.

قال عمر بن ذر: ما رأيت مثل عطاء بن أبي رباح، ما رأيت عليه قميصًا قط ولا رأيت عليه ثوبًا يساوي خمسة دراهم.

وعن ابن جريج قال: كان عطاء، بعدما كبر وضعف، يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آية من البقرة وهو قائم ما يزول منه شيء ولا يتحرك. وعن ابن عيينة قال قلت لابن جريج ما رأيت مصليًا مثلك قال لو رأيت عطاء.

قال عطاء بن أبي رباح: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدون فضوله ما عدا كتاب الله أن تقرأه، وتأمر بمعروف أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشك التي لا بد لك منها أتنكرون أن عليكم حافظين كرامًا كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؟ أما يستحيي أحدكم أن لو نُشرت عليه صحيفته التي أمل صدر نهاره فإن أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى