رسالة العلماء16: إن هاهنا رجلاً يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه
إن تاريخ العلماء والحكام من سلف الأمة، حافل بالمواقف النيّرة ومواطن الذكرى ومملوء بالدروس النافعة الرائعة، فمعاشر العلماء في جميع أنحاء البلاد الاسلامية، أحوج ما يكونوا اليوم إلى الاتعاظ بمواقف سلفنا من السادة والعلماء رحمهم الله تعالى الذين تحلوا بصفة العلم والعمل، والتقى الزهد، والجرأة في الحق، والصلابة في التمسك بالعدل والمحافظة على حدود الشرع، وحمل الدعوة إلى الاسلام لإقامة شريعة الإسلام في الارض وتحكيم نظامه في الدنيا والوقوف في وجه الحكام الظالمين الذين أعرضوا عن الله فأعرض الله عنهم، وبئست عاقبة الظالمين.وفي التاريخ الإسلاميّ وفي الحاضر نماذج مشرقة لذلك كلّه، وعلى سبيل المثال لنا تأملات سريعة فيما يلي لحياة الإمام الجليل الشافعي رحمه الله.
الإمام الشافعي رحمه الله هو ثالث أئمة أهل السنة والجماعة الأربعة والذي عرف بذكائه وعدله، وهو صاحب المذهب الشافعي في الفقه الاسلامي، ومؤسس علم أصول الفقه، بالإضافة إلى أنه إمام في علم التفسير وعلم الحديث، هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطَّللِبي القرشيّ، ولد الإمام الشافعي في فلسطين تحديداً في غزّة سنة 150 للهجرة، انتقل مع أمه إلى مكة حيث كان يبلغ من العمر سنتان، وحفظ القران الكريم في السابعة من عمره. وطلب الشافعي العلم في مكة المكرمة، كما هاجر للمدينة المنورة طلباً للعلم أيضاً عند الإمام مالك بن أنس، ومن ثم ارتحل لليمن وعمل هناك، وفي سنة مئة وأربعة وثمانون للهجرة ارتحل الشافعي إلى بغداد لطلب العلم عند القاضي محمد بن الحسن الشيباني ودرس المذهب الحنفي.
وعند عودة الشافعي مجدداً إلى مكة عمل فيها على إلقاء دروسه في الحرم المكي، ليعود من بعد ذلك مرّة ثانية إلى بغداد سنة 195 للهجرة حيث ألّف كتابه “الرسالة” الذي وضع أساس علم أصول الفقه. وفي سنة 199 للهجرة سافر الشافعي لمصر، كما قام أيضاً بإعادة تصنيف كتابه “الرسالة”، وعمل على نشر مذهبه الجديد، وعلم الطلاب العلم، كما عمل على مناظرة من خالفه، وقد وافته المنيّة في مصر سنة 204 للهجرة.
كان الشافعي رامياً ماهراً، وفصيحاً شاعراً، ورحّالاً مسافراً، فقد قال عنه الإمام أحمد “كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس”. خاضعاً للحق ومتواضعاً، حيث تشهد له بذلك دروسه ومناظراته، كما تشهد له معاشرته للناس من تلاميذه وأقرانه. كما شُهد له بزهده وعبادته، حيث قال عنه الربيع بن سليمان “كان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرّة كل ذلك في صلاة. وكان الشافعي فصيح اللسان وبليغ حجة في لغة العرب ونحوهم. عُرف بالبلاغة والحكمة حيث نجد ما قام بكتابته يهدف لإيصال العبر للمتلقي وعلى سبيل المثال قوله:
تموت الأُسد في الغابات جوعاً *** ولحم الضأن تأكله الكلاب
وعبـــــد قد ينام على حرير *** وذو نسب مفارشــه التراب
“… إن تسعة من العلوية تحركوا وإني أخاف أن يخرجوا وإن هاهنا رجلاً من ولد شافع المطلبي لا أمر لي معه ولا نهي، يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه”.
تلك هي قولة والي اليمن، من كتابه إلى الرشيد يستعديه فيه على أولئك النفر التسعة وعلى رأسهم الإمام الشافعي. وتلك بداية المحنة التي أنزلت بإمامنا الشافعي العظيم رضوان الله عليه.
إن الرواة جميعاً قد اتفقوا على أن سبب هذه المحنة هي ولاؤه لإمام الهدى سيدنا علي وأولاده رضي الله عنهم وأرضاهم، فكان هذا الولاء هو الجريمة الكبرى، وكان هذا الحب هو الخيانة العظمى، التي يجب أن يعاقب عليها الإمام الشافعي بالإعدام ضرباً بالسيف.
وإن كان النفر التسعة قد عاقبهم الرشيد بالإعدام لمجرد التحرك لا الخروج فعلاً إن صدق الوالي بقوله فما ذنب الشافعي الذي لم يتحرك؟ ولم يشرع في الخروج؟ ولكن الأهواء إذا سيطرت على القلوب أعمتها عن رؤية الحق، وإقامة العدل.
والشيطان –نعوذ بالله من شره- إذا اتخذ إماماً وولياً ساق أولياءه بعصاه السحرية إلى الإجرام، ودفع أتباعه إلى الفساد في الأرض، وبطانة السوء الذين فقدوا التقوى، تجعل من البريء مجرماً، ومن الحب والولاء خيانة.
إن حقيقة هذا الأمر: هي أن الإمام الشافعي، عندما كان بمكة زادها الله شرفاً، مع والدته لم يكن له عمل يعتاش به. فأشار بعض القرشيين على والي اليمن الذي مر بمكة أن يشغل الشافعي في ولايته ويستعين به في أمره هناك.
يقول الشافعي: (ولم يكن عند أمي ما تعطيني ما أتحمل به، فرهنت داراً فتحملت معه (أي مع الوالي) فلما قدمنا عملت له على عمل).
وفي عمله باليمن بمدينة نجران، أقام الحق ونشر العدل فكان شخصية إسلامية بعقليتها الرائعة ونفسيتها المستقيمة حتى شاع ذكره الطيب في بطاح مكة وأطراف نجران، ورأوا فيه مثلاً صالحاً لمن يتولى أمراً من أمور الناس.
يقول الشافعي: (وليت بنجران وبها بنو الحارث بن عبد الله المدان وموالي ثقيف وكان الوالي إذا أتاهم صانعوه فأرادوني على ذلك فلم يجدوا عندي).
ولما لم يقبل مصانعة، ولم يداهن واليه ورئيسه، بل وقف له بالمرصاد يمنعه من أية مظلمة يريد إيقاعها بمن يتولى أمرهم، ولم يكتف إمامنا بذلك بل كان يحاسبه في كل أمر وينكر عليه كل سوء، وهو الذي يملك لساناً كما يقول الوالي الغشوم الظلوم: (يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه) وبهذا وحده ضاق صدر هذا الوالي وأبت نفسه إلا أن يسيء إلى الشافعي، وكيف يستطيع أن يصيبه بسوء أو يلحق به أذى، وهو قد ملك القلوب حباً وأسر النفوس، فدبر له أمراً بأن أشركه مع النفر التسعة بالتهمة الخطيرة المعروفة التي يفتح لها الرشيد أُذنيه بل حواسه جميعاً، لينزل به عقابه الصارم.
وبهذه المكيدة يتخلص الوالي من هذا الذي وقف في طريق تنفيذ أهوائه وإشباع نزواته، وحال دون تسلطه على رقاب الأمة. أُوثِق التسعة وعاشرهم الشافعي، وصفدوا بالآسار وأيديهم مغلولة إلى أعناقهم، وساروا من اليمن متوجهين إلى بغداد لملاقاة الرشيد، بصحبة ثلة من الجند للتحقيق معهم في هذه التهمة الخطيرةّ تهمة الخيانة العظمى، ليأخذ المارد الخائن نصيبه من العقاب!
دخل العشرة على الرشيد وهم مصفدون بالأغلال، والنطع والسيف بين يديه، والجند شاكي السلاح قد أخذوا أماكنهم في قاعة المحكمة بقصر الخلافة ينتظرون إيماء الرشيد لهم، لا يعصونه في أمر ويفعلون ما يأمرون.
بهذا الجو الإرهابي الفظيع الذي ينطق بقطع الرؤوس عن أجسادها ويصرخ بأن النصر للقوي! جرت المحاكمة فقتل التسعة رحمهم الله أجمعين.
أما الشافعي: فقد أنجاه الله ونصره. وهو الضعيف الذي طلب المدد من الحي القيوم فأمده وأنقذه في ساعة عسرته واستجاب له فكان من الناجين، حيث آتاه الله براعة اللسان وقوة الحجة ومنطقها السليم المقنع، وبما قذفه في قلب قاضي القضاة محمد بن الحسن من شفقة وطلب شفاعة وتقديم شهادة.
قال الشافعي وهو بين النطع والسيف والموت يفغر فاه. وقد وجهت إليه التهمة: (يا أمير المؤمنين ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه والآخر يراني عبده أيهما أحب إلي. قال الرشيد الذي يراك أخاه. فقال ذلك أنت يا أمير المؤمنين إنكم ولد العباس وهم ولد علي ونحن بنو المطلب، فأنتم ولد العباس تروننا إخوانكم وهم يروننا عبيدهم).
أما شهادة قاضي القضاة وشفاعته، فقد حضر محمد بن الحسن محاكمته، وكان بين الشافعي وابن الحسن التقاء سابق في بغداد والتقاء العلماء يكون دائماً للعلم ومدارسة الفقه وبحث في المسائل الشرعية وإدلاء كل منهم بدلوه.
فبعد أن قال الشافعي مقالته تلك. أخذ يبين أن له حظاً من العلم والفقه وإن محمد بن الحسن يشهد على ذلك. فسأله الرشيد فأجاب: (له من العلم حظ كبير). ثم أتبع قائلاً (وليس الذي رفع عليه من شأنه). وتلك شفاعته. فقال الرشيد (فخذه إليك حتى أنظر في أمره). وبهذا تخلص الشافعي من ذلك الاتهام الخطير، ونجا من عقوبته.
وتلك محنة الشافعي، الأيدي مغلولة إلى الأعناق بمعية جند الرشيد من اليمن إلى بغداد، ثم الموت يقترب منه. وقد لاح بين عينيه لولا عناية الله وحسن توفيقه. والسبب الحقيقي في نجاته هو قيامه بالواجب الملقى عليه باعتباره عالماً أخذ الله منه الميثاق لبيان أحكام الشرع والوقوف في وجه الظالمين الطغاة، ومن ثم قيامه بعمله في نجران الذي أحسن فيه وقطع به الطريق على واليه وحال دون شهواته ونزواته.
ذلك السبب الذي أفرغه الوالي الغشوم الظلوم بقالب آخر، وهو ولاؤه للإمام علي وأبنائه البررة، وحسبه بذلك جريمة يعاقب عليها في دنيا الحكام اللئام.
لقد كانت هذه المحنة محنة ساقها الله لإمامنا، ليختبره في إيمانه. ولينصرف إلى العلم ومدارسة الفقه واستخراج الأحكام لمعالجة مشاكل الحياة. وليأخذ ما عند محمد بن الحسن من علم وفقه وهو صاحب الإمام العظيم أبي حنيفة ورفيق الإمام أبي يوسف. وقد كان ذلك والحمد لله. ولئن ولت محنة الشافعي ونجى منها، فإن المحن الأخرى بأشكالها لا زالت بانتظار رجالها من السادة العلماءالعاملين فرج الله كربهم أجمعين.