مقالات الأعداد السابقة

رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقه، صلته للرحم

(مختصراً من اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون)

 

الصدق

كان الصدق من صفاته -صلى الله عليه وسلم- البارزة، شهد له بذلك العدو والصديق، ولما بعثه الله تعالى إلى الناس جميعا، وأمره أن ينذر عشيرته الأقربين، صار ينادي بطون قريش، فلما حضروا قال لهم: “أرأيتكم لو أخبرتكم، أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم كنتم مصدقي؟ ” قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا قط.

ولما قال هرقل ملك الروم لأبي سفيان بن حرب -وكان لم يزل مشركا-: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ويكذب على الله.

 

صلة الرحم

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك كله، وصولا للرحم، عطوفا على الفقراء، وذوي الحاجة، ويقري الضيف، ويعين الضعيف، ويمسح بيديه بؤس البائسين، ويفرج كرب المكروبين، وقد وصفته بهذا أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها في بدء الوحي، فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.

 

ومن هذا العرض الموجز نرى أن حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة كانت أمثل حياة وأكرمها، وأحفلها بمعاني الإنسانية، والشرف، والكرامة، وعظمة النفس، ثم نبأه الله تعالى وبعثه، فنصت هذه الفضائل وترعرعت، وما زالت تسمو فروعها، وترسخ أصولها، وتتسع أفياؤها حتى أضحت فريدة في تاريخ الإنسان في هذه الدنيا.

إن هذه الحياة الفاضلة المثلى لمن أكبر الدلائل على ثبوت نبوته -صلى الله عليه وسلم-، فما سمعنا في تاريخ الدنيا قديمها، وحديثها أن حياة كلها فضل وكمال، وهدى ونور، وحق وخير، كحياة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم يعهد في تاريخ البشر أن شخصا يسمو على كل مجتمعه وهو يعيش فيه، وينشأ مبرءا من كل نقائصه ومثالبه، وهو نابع منه، ولا أن نورا ينبعث من وسط ظلمات، ولا طهارة تنبع من وسط أدناس، وأرجاس، ولا أن علما يكون من بين جهالات وخرافات، اللهم إلا إذا كان ذلك لحكمة، وأمراً جرى على غير المعهود والمألوف، وما ذلك إلا لإعداد النبي -صلى الله عليه وسلم- للنبوة.

قال ابن إسحاق في السيرة: فشب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا، وأفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا “الأمين”، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.

وقال القاضي عياض: وكان -صلى الله عليه وسلم- مجبولا عليها -أي الأخلاق الحميدة- في أصل خلقته وأول فطرته، لم تحصل له باكتساب ولا رياضة إلا بجود إلهي وخصوصيه ربانية.

وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: والذي لا ريب فيه: أن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كان معصوما قبل الوحي، وبعده، وقبل التشريع من الزنى قطعا، ومن الخيانة والكذب، والسكر، والسجود لوثن، والاستقسام بالأزلام، ومن الرذائل، والسفه وبذاء اللسان، وكشف العورة، فلم يكن يطوف عريانا، ولا كان يقف يوم عرفة مع قومه بمزدلفة، بل كان يقف بعرفة، وبكل حال لو بدا منه شيء من ذلك لما كان عليه تبعة لأنه كان لا يعرف، ولكن رتبة الكمال تأبى وقوع ذلك منه -صلى الله عليه وسلم-.

وقال الدكتور محمد أبو شهبة رحمه الله تعالى: لقد قرأنا سير الحكماء والفلاسفة، والعباقرة، والمصلحين، وأصحاب النحل، والمذاهب قديما وحديثا، فما وجدنا حياة أحد منهم تخلو من الشذوذ عن الفطرة السليمة، والتفكير الصحيح، والخلق الرضي، إما من ناحية العقيدة والتفكير، وإما من ناحية السلوك والأخلاق، وغاية ما يقال في أسماهم وأزكاهم: كفى المرء نبلا أن تعد معايبه! حاشا الأنبياء والمرسلين، فقد نشأهم الله سبحانه وتعالى على أكمل الأحوال، وعظيم الأخلاق، وقد بلغ الذروة في الكمال خاتمهم وسيد البشر كلهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى