ريح المسك
ذات مساء استقلينا باصاً صغيراً، ولكثرة عدد المجاهدين؛ امتلئت المقاعد واضطر البقية إلى أن يجلسوا على متن الباص وفوقه إيثاراً من بعضهم لبعضهم الآخر. كانت الطريق غير معبدة فثار التراب والغبار فغطى وجوه المجاهدين ورؤوسهم إلا أن الفرح يغمرهم جميعأً، فلا ترى فيهم السخط أو الغضب؛ لأنهم كانوا متيقنين بأن لهذا الغبار فضل عظيم وأجر كبير “من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار” (أخرجه البخاري في الجمعة، باب المشي إلى الجمعة…: 2 / 390، والمصنف في شرح السنة: 10 / 353).
وبعد يوم كامل قضيناه في السفر، وصلنا إلى مدينة قندهار في وقت متأخر من الليل، ولكن السائق أمرنا أن نبيت الليلة في الفندق، ولما سألناه عن السبب أجاب بأن هذا أمر المجاهدين لحماية مدينة قندهار. بتنا تلك الليلة في الفندق، وكان الفندق ممتلئاً بالمسافرين والغرباء، فاستغل بعض المجاهدين ذلك للتحريض على للجهاد بتلاوة بعض الأحاديث ثم ترجمتها للحاضرين، وتحريضهم على مقاومة المحتلين والاعتصام بدين الله سبحانه وتعالى. وأول ما أثار إعجابنا هو انخفاض سعر الخبز والطعام في الفندق، حيث كان رخيصاً ووافراً.
وفي الغد عندما دخلنا مدينة قندهار ازداد تعجبنا؛ لأننا كنا نرى طائرات الأمريكان بأعيننا تقصف هنا وهناك، لكن الأوضاع كانت عادية وعلى ما يرام وهذا ما زاد تعجبنا، حيث كان الناس -في أثناء القصف- لا يبالون به ويفتحون متاجرهم وحوانيتهم للبيع والشراء، والأطفال يلعبون ويمرحون. وفي هذه الأثناء ضحك أحد رفاقنا وقال: كيف بإمكان الأمريكان والغرب أن يقاتل هذا الشعب، الشعب لا ترعبه الطائرات الحربية ولا يعبأ بها أصلاً!
ذهبنا إلى “دارالمعلمين” وتشاورنا هناك ماذا نفعل؟ فأشار علينا المجاهدون إلى أن نذهب إلى كابول ومن هناك إلى خضم المعارك، والخطوط الأمامية في الصف الأول، فذهب 2 من الأصدقاء واستقلوا حافلة صغيرة بينما انتظر الباقون في دارالمعلمين.
ولم يمض كثير من الوقت حتى رأينا سيارة اقتربت وفيها مجاهدان يلبسان العمامة السوداء، فخرج أحدهما وتحدث باللسان العربي، فاقتربت من السيارة ولما رآني السائق سألني باللغة البلوشية هل أنت أخو المولوي محيي الدين؟ فاندهشت كيف يعرف هذا المجاهد اللغة البلوشية، لعله من بلادنا، فقلت: أجل.
فقال اركب، فقلت أنا بصحبتي رفاق آخرون، فطلب من الجميع أن يركبوا معنا، فأخبرت رفاقي وأخبرناه عن المجاهدين الذين سبقانا، قال: لا تحزنوا؛ سأقول للمجاهدين أن يدلوهم نحونا، فركبنا ومشينا معه.
ووصلنا بعد نصف ساعة إلى ضواحي مدينة قندهار حيث البيوت المتواضعة، وكان هنالك جمع غفير من المجاهدين، ثم علمنا بأن المجاهدين خرجوا من المباني العسكرية – من باب الاحتياط- وأووا إلى مكان آمن.
ووجدنا في هذا المعسكر عدة خيول نجيبة تبدوا عليها الغلظة، لا يتجرّأ أحد على ركوبها إلا عدد قليل من المجاهدين.
وبعدما قضينا يوماً، بدأنا التعليمات التأسيسية في هذا المعسكر، ولا أنسى بأن ذانك الأخوين الذين افترقا عنا، وصلا بأنفسهما إلى كابول، ولم تمض إلا أيام قلائل حتى وجدنا سيارة الإسعاف تقترب نحو المعسكر وتخرج تابوتا.
كانت سيارة الإسعاف قادمة من كابول، وقد أتت بجثمان الشهيد الحافظ عبدالله، وهو من ولاية نيمروز.
فاجتمع المجاهدون الذين كانوا يعرفونه، وفتح أحدهم التابوت. وقد كان الشوق يغمرني لأرى جثمان الشهيد؛ لأنني لم أر جثمان شهيد قبل ذلك. فاقتربت فوجدت شاباً وضيئاً ووقوراً يبدو كالنائم، فقلت هذا حي! فأجابني أحد المجاهدين وقال: ألا تعلم بأن الشهداء أحياء؟
فاقتربت منه ولمست على وجهه النائم المبتسم، إلا أنني شمت وشممنا ريح المسك التي عمّت سيارة الإسعاف، ريح لم أجد أطيب منها في حياتي.
قال أحد الإخوة يالها من الكرامة لهذا الشهيد. فسألت: أو لم تعطروه بالمسك؟ قال: لا يا أخي؛ إن هذا ريح الشهادة والجنة، لا ريح هذه الدنيا. فنظر إليّ المجاهد الذي كان أستاذنا في المعسكر ثم قال: يبدو أنك تنظر متعجباً إلى جثمان الشهيد وريحه الطيب؟
قلت: أجل يا أستاذ. فقال: فلتأتِ معنا إلى المقبرة للدفن، قلت: سآتي حتماً.
مضت نحو 14 سنة من ذلك اليوم إلا أنني أذكر تماماً بأنه كان يوم الجمعة، ذهبنا إلى المقبرة لنزف الشهيد، ودفناه قريباً من الشهيد المقدام الملا بورجان رحمه الله، ذلك البطل الشهير الذي كان بحق رجلٌ بأمة.
وبعدما دفناه ذهبنا لصلاة الجمعة، ثم ذهبنا مرة أخرى إلى المقبرة وقرأنا عليهم بعض السور إيصالاً للثواب عليهم وفق مذهبنا، ثم اقتربنا من قبر الشهيد عبدالله الذي دفناه قبل قليل، فأخذ الأستاذ حفنة من التراب من قبر الشهيد عبدالله يفوح منها ريح المسك وقال شمّه.
فلما قربت التراب من أنفي، أحسست بأنني أشم باقة زهور ربيعية فواحة بل أطيب منها وأروع. كان ريح عجيب، ذلك الريح الذي صار عادياً فيما بعد في الحروب، عندما يسقط جنود الإمارة الإسلامية شهداء على ثرى المعارك.
فضحك الأستاذ وقال: هل غلبت وساوسك الآن؟
قلت: نعم أيها الأستاذ، الآن أدركت تماماً بأن هذه كرامة الشهداء، كرامة تدفع كل مؤمن نحو الشهادة والاستشهاد. إي نعم ريح الجنة وريح مسك الشهداء.