شهداؤنا الأبطال: الشهيد البطل، الصنديد الضرغام عبدالله محمود رحمه الله
صارم محمود
حلقت طائرة أمريكية بلا طيار في السادس عشر من ذي القعدة 1440هـ.ق على سماء مديرية خاشرود بمحافظة نيمروز لتمهد أرضية الدهم الليلي على المجاهدين -وهذا الأخير هو أدهى من قصف الطائرة بمرات وأمرّ؛ لأن الطائرة لو قصفت مرة يأخذ المجاهدون بالحيطة والحذر فلاتستطيع أن تهدف ثانية، ولكن المداهمة لاسمح الله فلا مفر منها ولامناص اللهم إلا الشهادة الميسرة أو الأسر المؤبد-.
فتحوم هذه الطائرة قليلا في السماء ثم تقصف للتو عشوائيا دونما تصيب هدفا، فبعد ما تحوم بضع ساعات على حزام المجاهدين النظامي تكشف ثلة من المجاهدين فتقصف عليهم ريثما يتخفون فتتمكن قنبلة أثناء القصف من جسد مجاهد طاهر فتُسقطه شهيدا.
هذا ولا يمضي قليل إلا وتأتي طائرة أخرى وتحلق في السماء فيشتد أزيز الطائرات وتستشري حمحماتها ويدفع المجاهدين بأخذ الحيطة مهلةَ أن تقضي منهم وطرا، فتقصف الطائرة هادفة أخا مجاهدا آخر فيقضي هذا الصنديد نحبه تحت قنابلها شهیدا.
ثم تشن القوات الأمريكية حينما يجدون الفرصة مواتية لهم في ليلة الغد حملة أجبن منها بالأمس وأغلّ؛ على غِرة من المجاهدين داهمة عليهم ليليا بجمع حاشد من المرتزقين الأفغان وبأسلحة من أطور الأسلحة وأحدثها فیدق رحی الحرب المنطقة بثغاله وتشتبك بينهم حرب ضروس تستمر ساعات فیستقبل مجاهدونا الصنادید عدوَهم الجبان بصدر عارٍ وثغر باسم كأنهم كانوا على تِلكُم الأيام بموعد فينقضون على العدو انقضاض الأسد على فريسته ويستميتون في القتال مستقتلين في الحرب و يضربون أروع الأمثلة في البطولة حتى يسقط منهم في نهاية المطاف أربعة عشر مجاهدا من خيرة مجاهدينا الذين قضوا سنوات طويلة في ميادين القتال وقارعوا عدوا لايألوا فيهم إلا ولاذمة وأقلقوا مضجعهم كما حصلوا في هذه السنوات الشداد الغلاظ وفي تلك الحروب الطعناء المنهكة على حنكة ميدانية فائقة.
هذا ويسقط في هذا الدهم الليلي عدد كبير من العلوج الصليبية حسب تقرير الشهود العينية من جيران المجاهدين الذين سمعوا ضجيجهم المتصاعد إلى عنان السماء وبكاءهم الجهير على قتلاهم وجرحاهم أثناء نقل جسمانهم.
فهذه القافلة من الشهداء التي طارت أرواحهم كثلة طير إلى بارئها في هذه الغارة الجوية الجبانة كانوا من أفضل أناس وطأوا ظهر الأرض- نحسبهم كذلك والله حسيبهم- فكانت لهم حياة حافلة بالتضحيات والبطولات وتاريخ مملوء من المواقف التي تستحق بأن تكتب بماء الذهب وقصص إيمانية ماتعة نافعة لايشبع القارئ عنها كما لايستغني أي مسلم عن التزود بمزيد من المعلومات عن حياتهم الجهادية للتأسي بهم والتمشي على ممشاهم.
و نظرا إلى كامل معرفتي على بعض هؤلاء الشهداء والتعايش معهم ردحا من الزمن أسعى في هذا العمود بأن أسلط الضوء على حياة هؤلاء البدريين الذين أخطأوا مسيرهم في الزمان وخرجوا في القرن الواحد والعشرين بين ظهراني الأفغان بادئا من الأخ الشهيد الحافظ إسماعيل رحمه الله (عبدالله محمود).
عبدالله محمود وحياته الجهادية:
بزغ فجر شهيدنا الباسل إسماعيل (عبدالله محمود) ابن جمعه خان بن محمد أكبر سنة ۱۳۴۷في بیت متواضع بدار الهجرة والغربة في مدينة زاهدان.
يلتحق بطلنا الصنديد بعدما ينمو ويشتد تحت رعاية أبيه الصالح المؤمن، ويترعرع ويشبّ في حضن أمه الشفوق بمدرسة إحياء العلوم العربية بمنطقة ” جزینک ” التابعة لمدينة زابل لیرتشف من معین علوم الشريعة الصافیة ويطفأ أواره العلمية بها فيتعلم دروسه الإبتدائية في هذه المدرسة کسائر أبناء الوطن المشردين منه فبعد ما يقضى ثلاث عشر ربيعا من عمره في بلاد الغربة والهجرة ويتم دروسه الابتدائية فيها يعود إلى وطنه الحبيب ويلقي رحله بين ظهراني أهل ” نيمروز ” ليحبر في قادم الأيام علی ثراها بعبيره الأحمر تاريخا يكتب له الخلود ويجعله في عداد الذين لايموتون بل ليس للموت إليهم من سبيل،( بل أحياء عند ربهم يرزقون) فيلتحق بمدرسة إحياء العلوم بمحافظة نيمروز ويسجل اسمه في قسم التحفيظ منها فيحفظ بعد مدة لا تنتسب إلى الطول كتاب الله في صدره، ويفرغ عن تحفيظه، ثم یبدأ يتعلم الدروس المقدماتية في تلك المدرسة إلى أن يصل إلى الصف الثالث من المقدمات فتلتقطه يد القدر على غفلة منه من بين مئات الطلبة كأجمل زهر بأطيب ريح وأبهى منظر من رياض الإسلام اصطفاءً من الله لمهمة عظيمة لا ينالها إلا الأفذاذ من الأمة فتسوقه إلى ساحات الوغى لتذیق به أعداء الشريعة سوء العذاب ولتسقط به علوجا من الصليبين قتلى وجرحى، ولتشفي به صدور قوم مؤمنين- فيطبق شهيدنا المقدام كتبه وكراسته بعد ما یغمر حب الجهاد جوانحه ويؤرق أجفانه فيتجه نحو ميادين القتال لتذب عن وطنه الصارخ تحت وطأة الاحتلال االصليبي الفاجر وليدافع عن الحرمات التي داستها أقدام مدّعي حقوق البشر بمرأى من العالم ومشهده.
فيرحل بقلب محترق ذاب حزنا وكمدا لأجل بني جلدته الأفغان الذين تركوا أفلاذ کبدهم ومعالم حياتهم تحت أنقاض البيت باردين جراء القصف الجوي الغاشم الذي شنته طائرات الحلف الصليبي وفي المداهمات الليلية دونما يملكوا دفعا ولامنعا. يرحل وعينه شاخصة إلى أفق بعيد يرى النصر والأيام البيضاء المشرقة ترمق من آخِره فيرى السبيل إليه ركاما من الجثث ونزعا لآلاف المهج، فيتقدم ليكون هو أول جثة تسقط في الله هامدة وأول مهجة تفدي لربها.
يتقدم ليثبت للأجيال القادمة ما ماتت الضمائر وما انطفأت جمرات الغيرة في زمان الجبن والشحّ؛ بل وما أمسكت أرحام أمهات الأفغان عن إنجاب الأبطال في زمان قلما يجود بالرجال وفي عالم عباد الذهب والفضة الذين ماتت غيرتهم الدينية وفسدت حاستهم الإنسانية وصرف بريق الدرهم ولمعان الدينار عيونهم وملكت شكشكة الدولار وصكصكة الصك عليهم قلوبهم ومشاعرهم وجعلتهم هياكل جوفاء لاروح فيهم ولادم حيث لا تثير المجازر الكارثية فيهم كامنا ولا تحرك المحارق الوحشية منهم خامدا.
فيطأ على الدنيا متاعها ويجعلها موطئ القدم ويغادر دفئ البيت ولمّة الأهل ناحيا إلى جبهات القتال ليشارك المجاهدين في خوض الملامح الحمراء حيث الدماء والأشلاء ويعاشرهم في ساعات العسرة والمكاره.
فيأتي إلى مديرية خاشرود ويتعلم الفنون الحربية وحل الأسلحة وفكها ويأخذ من التدريب والإعداد حظه ويشترك في عدة عمليات عصابية ثم يجبره عوز أهله وفقرهم ليرجع إليهم تارة أخرى ليسد حاجاتهم وليأمّن مصارفهم وفوق كل ذلك ليقوم بخدمة الأب والأم مهلةَ ما ينذر حياته للجهاد وخدمته فيأتي إلى النيمروز ويُستخدم بصفة أستاذ لقسم التحفيظ في إحدى المدارس فيشتغل سنة واحدة في المدرسة ويقوم طوالها بسد ما يعوز أهل بيته وما ينقصهم من المال واقتناء الحطب وغيره من الحاجات..
لكن حب الجهاد وشغفه به يعوقه عن استمرار التدريس ويجتذبه ثانية إلى ساحات الوغى فلا يطيق في المدرسة صبرا ولايهدأ في البيت بالا فيأتي مرة أخرى إلى أرض الجهاد ليخدم الجهاد و المجاهدين إلى أن يلقى الله وهو راضٍ عنه غير ساخط فيقضي بعد ذلك مع المجاهدين مدة ثمانية سنوات أو أكثر وخلال هذه السنوات الثمانية يضرب أروع الأمثلة في البطولة، والتضحية، والإيثار حتى يصبح فيما بين المجاهدين أيقونة الإيثار و أمثولة الخدمة الصادقة حيث يحكي أخ مجاهد زامله في الجبهات سنوات واصفا إياه : كان الشهيد دائم الأهبة للخدمة فأي مسؤولية فُوضت إليه قام به خير قيام صعبت كانت هذه المسؤولية أم سهلت وكان رهينا لإشارة الإمراء لينفذ أمرهم فإن قيل إفعل كذا أو اذهب كذا كان يفعل دونما يسأل يمشي على الشوكة أم على الشفرات.
ويقول أخ مجاهد أخر: كان عبدالله محمود رحمه الله من أسرة فقيرة معوزة لكن كان في الإيمان، واليقين، والتوكل على الله، والتضحية، والهيام بالجهاد، والحنين إلى الشهادة لامثيلا.
وهكذا كان شأنه في الوفاء والصداقة وحسن الخلق.
وكان الشهيد رحمه الله يتمتع من صفة الإستغاء العظيمة في أوج الفقر والعوز حتى لم يعد يوجد أحيانا في بيتهم خبز بائت ولكن عفته واستغنائه وإيثاره أصبحت مضرب الأمثال.
وكان في حسن الخلق والتمازح على صفة يجعل المجاهدين متسربلين بالفرح فلم يكد يحزن أحد من المجاهدين في مجلسه ويشعر بالكآبة.
مع أنه كان في الظاهر من عامة المجاهدين لكن كان في تنسيق العمليات وفي التخطيطات النظامية وفي ذكاوة النفس وخفتها قائدا له فكر القادة والرؤية الوسيعة “.
رحمه الله بطلنا ولقد استطلعت كثيرا من زملائه الذين رافقوه في الحل والترحال لقد اتفقت كلمتهم على إيثاره، ووفائه، وصداقته للأمراء وللجهاد والمجاهدين ولإستعداده لخوض المعارك أية معركة كانت.
كان بطلنا المغوار بحق خلوقا فكِها بساما جدا ماكان مجاهد ليشبع عن مجالسته رحمه الله حتى أنه كان عندما يأتي بين حين وآخر إلى نيمروز لزيارة أهله أو لعمل آخر كان المجاهدون يصبحون كئيبا له ولمجلسه ويتمنون ليحضر سريعا فكان يخفف عنهم ويرسم على شفاهم البسمة بخلقه الكريم فلم تنل شدائد الجهاد وصعوبات الدرب من بسماته رحمه الله بل و لم تسلب أسنة الفراق والغربة من فكاهته.
ويقضي سنوات طوالا في ميادين الجهاد ويجعل من كل يوم عيدا للمجاهدين فكم كانوا من تواجده بينهم فرحين حتى لم يشعر بوجوده أحد من المجاهدين فراق الأهل بل ولم يلمسوا شدة المآسي ودواليك هذه كانت حاله يخدم المجاهدين ويدخل السرور في قلوبهم، ويشاركهم في العمليات بل ويرأسهم في تنسيقها وتمريرها حتى يأتي يوم الموعود الذي انتظره سنوات طويلة فنفوض قصة شهادته وبطولاته إلى أحد من أقربائه:
كان الشهيد رحمه الله قبل أن يذهب إلى ميادين القتال للمرة الأخيرة يسدحاجيات البيت ويوفرلهم مصارفهم وما يحتاجون إليه إلى مدة، ويودي الأمانات إلى أهلها، ويجرد نفسه تماما عن الحقوق آخرين ويقول: لا أعود هذه المرة. كما يقول لبعض أصدقائه قبل يوم أو يومين وحتى يقول في ليلية التي يستشهد بكل فرح أنا استشهد قريبا وألحق بقافلة الشهداء.
يقول أحد رفاقه الذي أصيب في نفس المعركة: لما هجم المحتلون وأذنابهم من المرتزقة الأفغان وأطلقوا النيران علينا هربل عبدالله محمود واقتحم في صفوفهم وفتح عليهم وابل النيران وأسقط منهم القتلى والجرحى حتى يتوجه إليه وابل من النيران فيسقط شهيدا رحمه الله رحمة واسعة”.
هكذا يسلم الروح إلى خالقها بعدما تفقد عن الشهادة في كل ثغر مظانة وهكذا حارب وقاتل وقتل وقتُل في نهاية المطاف في الله شهيدا تقبل الله شهادته وجعل من كل قطرة من دمه ألف (عبدالله محمود) وجعل دماءه نارا ونورا نارا لتلفح وجوه الصليبين ونرا يضيء درب المجاهدين.