شهداؤنا الأبطال

شهدائنا الأبطال: الفارس المقدام محمد رحمه الله

ذلك الفارس الذي لا یُباری، والضرغام الذي لا یهدأ، ولا یعرف الراحة والدعة والسكون، یلقي بنفسه بین أحضان الموت لعله یرزق الشهادة، ولقد شطب من قاموس حیاته كلمات عدیدة مثل: «الخوف» «الجبن» «الهروب» یشهد بذلك معظم من رآه في المعارك والعملیات بأنه كان لا یرضی بالمناوشة من بعید؛ بل كان رحمه الله ینغمس في أتون المعارك وخضم المعمعات حیث یحمي الوطیس ویشتد، ولسان حاله یتردد: «وعجلت إلیك رب لترضی».

فالأنامل لتحتار، والحروف لتختلف حین یقف مثلي كي یكتب عن هذا الجبل، والطود الأشم في البحر الخضم، والعَلَم في أرض الجهاد، إلا وأنه لیس ثمّ هنالك من يكتب لنا من ذكریاته المباركة الرائعة علی ثری الجهاد، فبادرت مع ذلك أن اكتب شیئاً بسیطاً من ذكریاته الحسنة التي أذكرها أو بقیت علی ذهني.

أحببت بأن أعرف كیف التحق محمد رحمه الله بقافلة الجهاد، فلم یكن لي بد إلا أن أذهب إلی أستاذه الذي أرشده إلی هذا الطریق المبین، فجلست لدی أستاذه سائلاً من سماحته: یا فضیلة الشیخ كیف وجدت محمد رحمه الله، وكیف انطلق هو إلی میادین القتال؟

جلس شیخه خاشعاً بعدما كان متكئاً وأسرد قصته: قد وفق الله سبحانه وتعالی الأخ أبا سیاف أن ینخرط في سلك حركة الدعوة والتبلیغ، بعدما كان غیر ملتزماً، وهنالك قالوا له: اذهب وتعلم العلوم الشرعیة.

فأتی إلی مدرستي فكنت أدرسه القرآن الكریم، وأطلبه بعد العصر للشاي وأتكلم معه حتی أكشف عن معدنه، وأعرف ما یدور في خلد هذا الفتی.

 

فوجدت الفتی مشغفاً توّاقاً لأرض الجهاد والرباط والنضال، وذلك الحین كانت أحداث العراق ملتهبة، وجدته یعاني شدیداً عن الأحداث الدامیة ثم خوض الحكومات والشعوب العربیة في الأوحال، لا یهمهم شأن أمتهم وأبناء دینهم، فأخذت لواعج صدره تشتعل غیظاً علی الظالمین، وتضطرم شوقاً لساحات القتال.

فدللته علی أرض الجهاد علی ثری الأفغان فما مكث أن التحق بأرض الجهاد.

نعم؛ صار الفارس محمد رحمه الله یتقلب علی الشوك، وأرقت أجفانه صرخات المظلومین، وأنات الثكالی، وأنین الیتامی، وصیحات العذاری التي تدوي في سفوح الهندوكوش فلم یطق الحیاة مع الكلمات الباردة التي یخزنها قوالب في ذهنه ثم یفرغها علی ورقة كیما ینال ورقة یعمل بها.

التحق أخونا بالقافلة، فدخل إحدى معسكرات “برافشة” بهلمند، ثم أخذ یتعلم المتفجرات، نظرا إلی ما أمره الله سبحانه وتعالی بأخذ الإعداد في قوله: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون»
( 60 ) {الأنفال}

وكان رحمه الله یعشق عروس الحرب “أعني بیكا”، وكان معه في كل معركة وعملیة، ویقاتل قتال الأسود الأشاوس، لا یهاب من وابل النیران والرصاصات التي كانت تتهاطل علیه تهاطل المطر الغزیر ولا ینحني برأسه.

وقد أُرسِل إلی مدیریة خانشین، وكان التثبت في تلك المدیریة صعباً علی من یعرف لغة تلك المنطقة، فكیف بمن لا یعرف لغتهم ولا عادتهم، إلا أنّ أبا سیاف رحمه الله تحمّل ذلك كله لله، ومكث نحو شهور هنالك، في الرباط والحراسة وزراعة الألغام.

ثمّ بعد شهور قفل إلی بیته، وبعدما مكث فترة مع عائلته رجع ثانیاً إلی أرض الرباط والجهاد والقتال.

وعندما وصل الأخ إلی برافشة وجد الإخوة متأهبین صوب مدیریة خاشرود وقضی شهراً في العملیات والرباط وزراعة الألغام.

وأذكر بأننا في هذا الشهر الذي قضیناه في خاشرود ذات مرّة اشتبكنا مع الأعداء ودارت معركة عنیفة حیث استمرّت قرابة أربعة ساعة، فكان رحمه الله یضرب أروع المثل في البطولة والإقدام.

ولمّا رجعنا من خاشرود بعد فترة هو ذهب مرة أخری إلی خانشین، فكان معه مجموعة من الإخوة المهاجرین، منهم عبد الله القازاقستاني، الذي له قصّة عجیبة كذلك.

عبد الله كان رجلاً لا یعرف لغتنا إلا شیئاً یسیراً، وذلك ببعض الكلمات فقط، وكان رحمه الله قد سجل اسمه في قائمة الاستشهادیین، وقد أخبرني بعض الإخوة بأنه كان جندیاً في عهد السوفیات من جنود الاحتلال، إلا أن الله سبحانه وتعالی قد تاب علیه فهداه للإیمان ثم وفقه أیضاً أن یجاهد في سبیله، فكان رحمه الله كثیر التلاوة للقرآن الكریم في آناء اللیل وأطراف النهار؛ لأنه كان متیقناً بأنّ الحسنات یذهبن السیئات، وأنّ الإسلام یهدم ما كان قبله.

ولما كان هنالك باغتهم الأمریكیون مراراً بالطائرات والمروحیات، ولكن صانهم الله منهم مرات، وقد قص لي مرة قصة الإخوة الاستشهادیین الذین هجموا علی الأمریكیین في تلك المدیریة.

یقول محمد رحمه الله ذات مرة أتی الجیش الأمریكي یریدون تحرير المدیریة من المجاهدین، فكانوا یتقدمون نحونا ولكن هنالك لم یكن الأسلحة متوفرة لنا، وقد كان معي أخ استشهادي وهو الأخ عبد الله القازاقستاني ومعه حزامه الناسف، فلما اقتربوا منا قال لي الأخ عبد الله هیأ لي حزامي، فرتبت له فودعني وقال اذهب، واختبأ هو بنفسه هنالك علی ضفاف نهر ذات أشجار كثیفة، فكنت أسمع ضجیج الأمریكیین وضوضاءهم الذین كانوا یتقدمون، فلما ابتعدت منهم نحو مائتي متر، سمعت صوت تفجیر حزامه الناسف الذي دك الأمریكان دكاً وهزهم هزاً، وهلع قلوبهم.

وقد كنا في سجن بولي ‏تشرخي فنعیت باستشهاده بأنه لقي مصرعه بتاریخ 16/2/1389 بعدما اشتبكوا مع الأمریكیین، ثم لمّا أذاقوهم الویلات استشهد مع ثلة مباركة من أصدقائه نحسبهم كذلك والله حسیبه.

فرثیته بهذه الأبیات:

لله درك أتراب الأفغـــــــــــــــــان
كم رعرعت لنا من الفرســــــــــــــــــان
زمان تقمّص الرجــــال بزي النساء
سوی عصابة الموت علی مر الزمــــان
شمّر محمد عن ساق الجد اشتیــــاقاً
لیلتحق بعصابة الموت في ركود الزمان
طلّق الدنیا بأمتعتها البراقــــــــــــــة
لیقدو الشبــــــــــــــــــــــاب بإذن الدّیان
كم طربت أرض برافشة الطیبــــــة مذ
وطأتها أقدام أبی سیاف الشجعــــــان
صاحب عروس الحرب بعدما غرمه
ضخّ به علی الأعداء وابل النیــــــــران
كبّد العدوّ الخسائر الفادحــــــــــــــة
صرعی لدیه زرافـــــــــــــات ووحدان
یطیر من معركة صوب أخـــــــری
هیاماً واشتیاقاً لروض الجنــــــــــــــــان
وما أحلی المنیة بعد العنـــــــــــــــاء
تجـــــــــاه الظلم والبغي والعــــــــدوان
فطرتَ إلی نعیم القــدیر یا محمد
لتهدینا بوشهر عن أمثالك الفرســــــان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى