مقالات الأعداد السابقة

صلح الحدیبیة وصلح الطالبان، مقارنة وجیزة

ذبیح الله بلوشي

 

الصلح والفتح، کلمتان لو نظرنا إلیهما بداهة لم نجد بینهما مناسبة إیجابیة، لکن لو نظرنا بإمعان إلی القرآن الکریم وإلی السیرة النبویة والواقع الحالي الذي نعیش فیه، نجد أن بینهما في بعض الأحوال «نسبة التساوي» حسب مصطلحات المنطقية.

الإمارة الإسلامیة ـ أعزّها الله ـ مشتغلة في هذه الأیام بسلسلة من المفاوضات مع الطرف الأمریکي الصلیبي، وأعلنت قیادة الإمارة الإسلامیة الرشیده عن عملیاتها الربیعیة الجهادیة باسم «الفتح» تفاؤلًا بصلح الحدیبیة التي سماها القرآن الکریم «فتحاً مبیناً». وکما هو معلوم لم یتمّ المفاوضات بعدُ، لکن مع ذلك رأینا في ذلك من الخیرات والبرکات شیئاً کثیرًا ولله الحمد.

ونحن في هذه العجالة نعرض بعض وجوه التشابه بین صلح الحدیبیة وصلح الطالبان، وهذا إن دلّ علی شیئ فإنما یدلّ علی أن القیادة السدیدة للإمارة الإسلامیة تقتفي أثر الرسول صلی الله علیه وسلم في حربها وسِلمها، وماداموا کذلك فإن العاقبة لهم بعون الله تعالی. وقبل الخوض في صلب الموضوع نسرد خلاصة عن صلح الحدیبیة تمهیداً للبحث، والله المستعان وعلیه التکلان.

 

قصة صلح الحدیبیة مختصرة:

خرج رسول الله صلی الله علیه وسلم من المدینة في ذي القعدة سنة ستّ معتمرا إلی مکة ومعه ألف وخمس مئة من الصحابة رضي الله عنهم، حتّی وصل صلی الله علیه وسلم إلی أرض الحدیبیة. وحینما علمت قریش بقصد رسول الله صلی الله علیه وسلم لدخول مکة فزعت واضطربت، حتی أرسل صلی الله علیه وسلم عثمانَ بن عفان رضي الله عنه إلی قریش وقال: أخبِرهم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عُمّارًا. ذهب عثمان إلی مکة وأخبرهم برسالة رسول الله صلی الله علیه وسلم، وبینما کان عثمانُ فی مکة، بلغَ رسولَ الله صلی الله علیه وسلم أن عثمان قد قتل، فدعا المسلمین إلی البیعة حتّی الموت. وبعد مباحثات بین رسول الله صلی الله علیه وسلم والمشرکین، اتّفقوا أخیرًا علی عقد معاهدة کان في ظاهرها في صالح المشرکین، لکن مع ذلك سمّاه الله تعالی في محکم تنزیله بـ«الفتح المبین» لأنه کان بوابةَ الفتوحات، کان سبباً لفتح مکة ودخول آلاف من المشرکین في الإسلام.

 

نزول سورة الفتح

روی البخاري في صحیحه: «أن رسول الله صلی الله علیه وسلم کان یسیر في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب یسیر معه لیلًا… قال عمر: فحرّکت بعیري ثم تقدّمتُ أمام الناس … فجئتُ رسولَ الله صلی الله علیه وسلم فسلّمت علیه فقال: لقد أنزلت عليّ اللیلة سورةٌ لهي أحبّ إليّ ممّا طلعت علیه الشمس ثم قرأ: إنا فتحنا لك فتحًا مبینًا.»[1]

«ورواه أیضا الإمام أحمد والترمذي والنسائي والطبراني. وقد بینت روایة الطبراني وروایة أخری لأحمد أن نزولها کان مرجعه من الحدیبیة وهو المراد بالسفر المذکور، وقد اختلف في مکان نزولها، فقیل بالجحفة، وقیل: بکراع الغمیم وقیل: بضجنان، والأماکن الثلاثة متقاربة. وهذا یدل علی أن السورة نزلت بعد صلح الحدیبیة لا بعد فتح مکة، کما یزعم بعض الناس.»[2]

وقد بیّنت هذه الروایة وغیرها من الروایات أن المراد من الفتح في مفتتح السورة، هو صلح الحدیبیة وقد ورد ذلك مرفوعًا عن النبي صلی الله علیه وسلم، کما روی أحمد وأبو داود عن مجمع بن جاریة رضي الله عنه «قال: شهدنا الحدیبیة فلمّا انصرفنا عنها… وجدنا رسولَ الله صلی الله علیه وسلم علی راحلته عند کُراع الغَمیم واجتمع الناس إلیه فقرأ علیهم: إنا فتحنا لك فتحًا مبینًا. فقال رجلٌ من أصحاب رسولِ الله صلی الله علیه وسلم: أي رسولَ الله وَفتحٌ هو؟ قال: أي والذي نفسُ محمدٍ بیده إنه لفتحٌ.»[3]

 

وجوه التشابه بين صلح الحدیبیة وصلح الطالبان

قبل أن نسرد بعض وجوه التشابه بين صلح الحدیبیة وصلح الأمة المسلمة المتمثلة في طالبان ـ أعزّها الله‌ ـ یجدر بنا أن نذکر أن المقارنة بین صلح الحدیبیة وصلح الطالبان لیست مقارنة من کلّ الوجوه ولیست بینهما إلا نسبة الثری من الثریا وإن هذه المقارنة من قبیلِ «ما مدحتُ محمدًا بمقالتي/ولکن مدحتُ مقالتي بمحمدٍ»، وهذه المقارنة ووجوه التشابه تدل علی أن قیادة الإمارة الإسلامیة تسعی لاقتفاء أثر الرسول صلی الله علیه وسلم في حربه وسِلمه. إلیکم بعض تلك الوجوه المتشابهة:

1 ـ یقول صاحب الظلال في عبارة رشیقة عذبة: «اعترفت قریش في هذه المعاهدة بکیان الدولة المسلمة، فالمعاهدة دائماً لا تکون إلا بین ندَّین، وکان لهذا الإعتراف أثرُه في نفوس القبائل المتأثّرة بموقف قریشٍ الجحودي؛ حیث کانوا یرون: أنها الإمام والقدوة.»[4]

وکذلك صلح الطالبان، فإن الصلح وإن لم یتمّ بعدُ إلا أنه اعترف العالم کلّه بـ«الطالبان» کقوة قتالیة شعبیة انتفاضیة، یدافع عن دينها وأرضها، ثم رأینا بأم أعیننا کیف تهافت الرؤساء والسفراء والصحفیون علی الوفد السیاسي تهافتَ الفراش علی النور، والذین کانوا ینظرون إلیهم سابقًا کإرهابیین سفّاکین (نتیجة سُموم الإعلام الغربي) صاروا الآن ینظرون إلیهم کمدافعین عن العقیدة وکمقاومة نضالیة لها حقّها في الدفاع والنضال. وهذه الثمرة (إرغام العدو واعترافه بوجودنا علی أرض الواقع) لِوحدها تکفي ثمرة یانعةً لصلح الطالبان.

2 ـ في صلح الحدیبیة جنح المشرکون للسلم بعد أن یئسوا من إرجاعه صلی الله علیه وسلم إلی المدینة وبعد أن علموا ببیعة المسلمین علی القتال حتی آخر قطرة من دمائهم وبعد أن قرع آذانَهم قولُ النبي صلی الله علیه وسلم: «وإن أبوا إلا القتالَ، فوالذي نفسي بیده لأقاتلنّهم علی أمري حتی تنفرد سالفتي أو لینفذن الله أمره»[5]؛ وکذلك الأمر في صلح الطالبان، فإن المجاهدین بایعوا علی الموت وضحّوا في سبیل ذلك بنفسهم ونفیسهم حتی أخبروا بأفعالهم قبل أقوالهم العدوَ الصلیبيَ بأن الشعب الأفغاني لن ینتازل عن مبادئه قید أنملة، ثم بعد کل ذلك جنح الصلیبیون للسّلم.

3 ـ السیف هو الذي أخضع المشرکین علی الصلح والمعاهدة، أما قبل بیعة الرضوان کان المشرکون مصرّحین بإرجاع النبي صلی الله علیه وسلم إلی المدینة قهرًا وقسرًا، ولکن حینما علموا ببیعة الرضوان، تغیّر موقفهم السابق، یقول الدکتورعلي الصلابي: «لمّا بلغ قریشاً أمر بیعة الرّضوان، وأدرك زعماؤهم تصمیم الرّسول صلی الله علیه وسلم علی القتال؛ أوفدوا سهیل بن عمرو في نفرٍ من رجالهم لمفاوضة النبي صلی الله علیه وسلم.»[6]

وکذلك صلح الطالبان ـ أعزها الله ـ، فإن العدو الأمریکي المتغَطرس مع حِلفه الصلیبي المُتَعَجرِف، ما کانوا یحلمون في یوم من الأیام أن یجلسوا مع الإمارة الإسلامیة علی طاولة المفاوضات، بل کان لغتهم في أول الأمر لغةَ حاملةِ الطائرات وصواریخ التوماهوك ومختلف القنابل، لکن حینما حمي الوطیس ودارت رحی الحرب ونادی منادي الجهاد: یا خیل الله ارکبي، وحینما رأوا قوة أمة محمد صلی الله علیه وسلم الإیمانیة، رأی العالَم کلّه غبيَّ البیتِ الأبیض (ترامب) یترنّح ترنّحَ السکران ویلتمس من الطالبان المفاوضات والطرق السّلمیة للخروج من هذا المأزق الرهیب. إنها قوة السیف، یقول أبو تمام: السیف أصدق إنباءً من الکُتُب.

4 ـ قبِلَ المسلمون بالصلح عن قاعدة صلبة وقوة قتالیة شدیدة تحمیها، وأقبلوا علی الصلح «في الوقت الذي کان فیه المسلون بمرکز القوة، لا الضعف»[7]؛

وکذلك الإمارة الإسلامیة، جنحت للسلم بعد أن أذاقت الصلیبیین الویلات تلو الویلات وفرضت علیهم الذلة والهوان، بحیث لم تعد قواعدهم آمنة من ضربات المجاهدین الفتّاکة، کما رأی العالَم بأجمعه، حینما کانت المفاوضات جاریة في قطر مع الطرف الأمریکي، هاجم الغزاةُ الإستشهادیون علی قاعدة شوراب الجویة في ولایة هلمند، بعملیة قلّما تجدون نظیرًا لها في التاریخ الإسلامي المعاصر فضلًا عن تاریخ أفغانستان.

5 ـ کان من بنود الصلح أن یردّ رسول الله صلی الله علیه وسلم کلّ من أسلم وأراد أن یأوي إلی المدینة، وهذا الأمر أجبر الذین أسلموا بعد صلح الحدیبیة کأبي جندل وأبي بصیر رضي الله عنهما، بأن یبدأوا حرب عصابات ضدّ المشرکین وقوافلهم، ممّا أربك المشرکین وأوقعهم في الحیرة والإضطراب، حتّی شطبوا هذا البند ورفعوا حظرَ الذین أسلموا، وبعبارة أخری أخرجوا أسماءهم من القائمة السوداء؛

وکذلك صلح الطالبان، والحال أنّ السِّلم لم یخطُ بعدُ خطواته الأولی حتّی أخرج العدو القائدَ الفذّ الملا برادر من السجن وأخرج أسماء بعض المفاوضین من القائمة السوداء، والذین کانوا قبل ذلك في قاموس العدو إرهابیین مطلوبین، صاروا الآن مفاوِضین دبلوماسیین!.

6 ـ «وأتاح هذا الصلح الفرصة للمسلمین والمشرکین علی السواء لأن یختلط بعضهم ببعض، فیطلع المشرکون علی محاسن الإسلام، وما صنع من عجائب ومعجزات في تهذیب الأخلاق وتزکیة النفوس، وتطهیر العقول والقلوب من ألواث الشرك والوثنیة، والعداء والخصومة والضراوة بالدماء، والولوع بالحرب في بني جلدتهم الذین لا یختلفون عنهم في نسب وبیئة ولغة.»[8]

وکذلك صلح الطالبان، فإنه أتاح الفرصة للعالَم کلّه عمومًا ولشعب أفغانستان وساسته خصوصًا بأن یسمعوا عن الطالبان من أفواههم لا من الإعلام الغربي والحکومة العمیلة، وهذا الصلح أتاح الفرصة لرجالٍ کـ«کرزای» بأن یسمعوا من طالبان عن مشروعهم الدیني وإمارتهم الإسلامیة ویصلّوا خلفهم في ماسکو بعد أن کانوا یظنونهم قبل ذلك مشوِّهین لصورة الإسلام وربما کافرین.

 

هذه بعض وجوه التشابه، وإذا ما تمّ الصلح وتمخّض عن فتحٍ مبینٍ، فسوف نری وجوهاً أخری بعون الله، وما ذلك علی الله بعزیز.

[1] صحیح البخاري، المغازي، (3859).

[2] السیرة النبویة في ضوء القرآن والسنة، 2/338.

[3] مسند أحمد، مسند المکیین (14923)

[4] في ظلال القرآن، 6/26.

[5] زاد المعاد، 1/382.

[6] السیرة النبویة، 2/299.

[7] السیرة النبویة، 2/302.

[8] السیرة النبویة للندوي ص/281.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى