مقالات الأعداد السابقة

طالبان من الجهاد حتى الإمارة..مبادئ شرعية السياسة

د.نائل بن غازي – غزة/فلسطين

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وحبه ومن والاه. أما بعد إن مما يجلل خاتمة العمل الجهادي التدافعي على الأرض، حفوفه بمشروع سياسي يستند إلى شرعية السياسة التي تشكل مظلة قيام الدولة المسلمة.

ولم تخلُ مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي من مشروع سياسي يمثل كيان الدولة ويعبر عن خطوط سياساتها الداخلية والخارجية، ويحدد أولوياتها الاستراتيجية.

وإن المتأمل في كتابات العلماء القدامى المتعلقة بالسياسة الشرعية للدولة المسلمة، يقف على حقيقة أن الفقهاء لم يستخدموا مصطلح السياسة الشرعية باعتباره لقباً؛ وإنما جاء ذلك متأخراً، وإنما كانوا يعبرون عنه “بالسياسة” أو “السياسة العادلة” أو “المصلحة”، ولعل أول من استخدم مصطلح السياسة الشرعية ابن عقيل في كتابه الفنون، ونقل ذلك عنه ابن قيم الجوزية: وقال ابن عقيل في “الفنون”: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم ولا يخلو من القول به إمام [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية].

ثم استخدم هذا المصطلح من بعده شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية.

ولعل السبب في تقييد السياسة بالشريعة، والتأكيد عليها كمركب إضافي: لانتشار قلة العلم، وفساد الذمم، وعادة الملوك فيما بعد بالتفرقة بين الشريعة والسياسة لتحقيق أغراضهم.

قال شيخ الإسلام: “فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق ولم يكن ما معهم من العلم كافياً في السياسة العادلة: احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة سوغ حاكم أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة. والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود حتى تسفك الدماء وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحرى العدل وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك [مجموع الفتاوى (20/392-393)].

وقد جاء تعريف السياسة في كتب السادة الأحناف باعتبارات جانب النظر، ففيما عرفها ابن نجيم –ملتفتا لجانب المصلحة- بأنها: هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي [البحر الرائق شرح كنز الدقائق (5/11)]. وعرفها ابن عابدين –باعتبارها مرادفة للتعزير-: تغليظ جناية لها حكم شرعي حسماً لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت قواعد الشرع وإن لم ينص عليها بخصوصها. [حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار(4/15)].

وقد جاء للسياسة الشرعية تعريف يواكب حداثة الدولة بأنها: تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية، بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار، مما لا يتعدى حدود الشريعة أو أصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين”. [السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية؛ لعبد الوهاب خلاف (1350)(14)].

وبالنظر لحدود التعريفات، تدرك أن السياسة الشرعية إنما اكتسبت شرعيتها من شرعية السياسة، وأنها شرفت باستنادها لأصول الشريعة السمحة، ولم تتجاوز قدرها جناية على النص الشرعي، وإنما دارت في حماه.

ولما كان علم السياسة الشرعية علماً عميقاً لا يحسن سبره من لم يتضلع مقاصد نصوص الوحيين –كتابا وسنة- ولا يتقن خوض غمارها من يبس رأسه على إطلاقات وعمومات لا يحسن توظيفها لصياغة التصور الصحيح للواقع والتعامل معه ومناطاته الخاصة، واتهم الجهلة العاملين، ورموهم بعظائم التهم، استناداً لجهل مقيم، وأثارة علم عقيم، كان مستحسناً أن نقف على أبرز ملامح دلالات المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية، لتستبين لطالب الهدى منارات الفهم الصحيح، وتتسع معه دائرة الإعذار للعاملين، ونرسم بها خريطة التصور الصحيح المانع من التعجل، والتردي في وحل معاداة ما نجهل.

 

دلالات المعنى الاصطلاحي للسياسة الشرعية:

  • التقريرات السياسية الشرعية ليست توقيفية: وما يصلح لزمان ليس بالضرورة أن يصلح لكل زمان، وما يناسب جماعة في بلد ليس بالضرورة أن ينسحب على جماعة أخرى في بلد آخر في نفس الزمان، وأن لكل جماعة عاملة مناطاتها الخاصة التي تحتم على راجي الهدى أن يقف عليها وقوفاً متقناً ليحسن بناء التصور الصحيح، ثم التعامل مع الواقع على وفقه، وأنه ليس هناك مصلحة عرية عن مفسدة، وأن المصالح الخالصة عزيزة في الشريعة، وأن من لم يفقه مفاتيح تلك الخريطة في بسط سيطرة الفهم عليها، فليس له أن يعمل عقله في النصوص على جهة التحكم المذموم ليرمي بسيء الخلاصات العاملين افتراءً منبوذاً، وأن جهة التحديد والتصويب والإفادة هم علماء الجماعة العاملة المخالطون للواقع بتعقيداته، الممارسون للفقه بتقعيداته.

 

  • الاجتهاد السياسي الصحيح هو الذي يضبط المسافة بين النص والحال: تحقيق مناطات نصوص السياسة الشرعية في الواقع لابد له من مراعاة أسباب الوصل بين النص والحال، وضبط المسافة بينهما لضمان غالب ظن الموافقة، وأن الفصل في القضايا جزء التصور الصحيح، وأن معاينة الواقع وملامسة أحواله ومكابدة تعقيداته أساس الفتوى الصحيحة، وأن شمولية النظر ركن العصمة من خطأ الانكفاء على بعض التصور الأبتر، وأنه ليس لمن لم يملك أدوات النظر الفصل في الوقائع السياسية.

يقول الإمام الشافعي –رحمه الله-:” لا يحل لفقيه أن يقول في ثمن درهم ولا خبرة له بسوقه” [الرسالة: 511]. فمن لم يعاين الوقائع، ولم يطلع على حيثياتها، ولم يلامس ضروراتها، ولم يتعض للحاجة الملحة فليس له أن يعارض فتوى المتخصصين، أو يشوش على اجتهاداتهم التي لم يحط بأصولها خبرا، وأن المعارضة هي قول بلا علم، وهي لعمري أعظم الإثم، فكيف إذا تولى الكبر، واستحكم العناد، فاقتُحمت عقبة الحرام فصال الجهلة بجهلهم على الدماء والأموال والأعراض؟!

 

  • الاجتهاد السياسي الصحيح هو الذي يراعي النسبة الواجبة بين الأولويات المطلقة والنسبية، والثوابت والمتغيرات: فلا يقدم متغير على ثابت ولا ينزل منزلته، ويميز بين الأولويات المطلقة والنسبية، وتضبط  أولويات الاختيارات السياسية على أساس من مراعاة الحذر في النسبة الواجبة بين الأولويات المطلقة والنسبية، وفق قواعد موزونة من غير طغيان جانب على آخر، ففي الأولويات المطلقة المتمثلة بحاكمية الشريعة لا يُقبل حتى التردد أو المساومة، ولا يطغى سلطان العقل على سلطان الشريعة، وإنما يتبعها ولا يتقدم عليها، وتُصاغ الرؤى المرحلية والاستراتيجية لمخرجات التصور الشرعي على قواعد متينة في فهم تغير ظرف الزمان والمكان في تبني الاختيارات والأولويات النسبية القابلة للمناقشة من غير تشدد أو تعنت قضاءً بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وفقهاً في مراعاة خير الخيرين وشر الشرين عند التزاحم، ودقةً في فهم المقاصد والموازنات.

 

  • الاجتهاد السياسي الصحيح هو اجتهاد يراعي أسمى مقاصد الدولة: الدولة الإسلامية التي تطمح لترسيخ أركان ديمومتها، وضخ معاني الحياة فيها، تجعل من أبرز سياساتها تحقيق جملة من المقاصد التي تمثل كيان الدولة، والتي لا يتصور خلوها منها، وهي:
  • أ‌- تحقيق مشروعية التمثيل: فالدولة الإسلامية ليست مدار الكون، وإنما هي جزء منه، وجزء من سننه القدرية والشرعية، وما يميزها عن غيرها استعلاؤها بالشريعة وأصولها، ولا يسع المسلم إلا مناصرتها والذوبان فيها حد التماهي، وأن يحذر من دعوات النفاق التي لا تتنامى إلا عند قيامها واستقرارها، فوجب الانتباه لكل الدعوات الصريحة والخفية التي تسعى للنيل منها لتحطيمها في نفوس أتباعها قبل رعاية وتغذية انهاكها وانهيارها بسياسات المعتدين من غيرها.

 

  • ب‌- الهوية: الدولة الإسلامية لها هويتها الخاصة التي تستعلي بها على كل هوية أرضية، فهي تستمد عظمة هويتها من انتمائها للدين الحنيف وسيادته المطلقة، وأن إعلانها للهوية الإسلامية يستوجب الانخراط فيها من غير شغب أو تشويش، وأنه لا يسع الحاكم والمحكوم إلا الخضوع لها والإذعان لقانونها المنصوص، على اعتبار أن السلطة التنفيذية والقضائية إنما هي من أبرز خصائصها التي لا يزاحمها فيها جاهل مدفوع، قال الله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا” [النساء: 59].

 

  • ت‌- الأمن: من أعظم مقاصد الدولة الإسلامية تحقيق الأمن الداخلي والخارجي للمسلم، فبالأمن يحفظ الدين والدنيا، ولا يصلح حال الراعي والرعية بغير أمن، ولذا قال الله تعالى ” وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ” [الحديد: 25]، وفي ذلك توجيه بعدم التهاون بشأن محاولات العبث بأمن الدولة، والأخذ على يد الخارجين عن سلطانها لقهرهم ومنع تخريبهم.

 

  • ث‌- التنمية: من أسمى مقاصد الدولة الإسلامية تحقيق التنمية، وضمان السلام الاقتصادي للناس، وبناء سدود الأمان التنموي، والنهوض بالدولة لمصاف الريادة الاقتصادية، قال الله تعالى: “وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ” [الحديد: 25]، قال ابن كثير: “في معايشهم كالسكة والفأس والقدوم، والمنشار، والإزميل، والمجرفة، والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز وما لا قوام للناس بدونه، وغير ذلك” [تفسير ابن كثير: 8/28]، فالدولة الإسلامية دولة حياة وليست دولة منعزلة تقوم على أساس من الرهبانية المذمومة التي تنقطع دون حياتها ورسالتها العالمية في نشر دعوة الحياة للعالمين، وهي ليست علمانية منفلتة من قيود الشريعة، وأن من قدرها أن تحارب على جبهات: الكفر الصريح، والعلمانية الطاغية، والجهل المستحكم الذي تقوده بدعة الخوارج.

 

  • الاجتهاد السياسي الصحيح هو اجتهاد يراعي المناط الخاص: إن كان تحقيق مناطات القواعد الضابطة للاجتهاد السياسي على الواقع تحتاج لفقه وفهم، فتحقيق قواعده في مراعاة المناطات الخاصة بالواقع أوجب في تحقيق الفهم والفقه، فلكل ساحة فقهها الخاص، ولكل ساحة واقع مغاير، ولا يصح استنساخ واقع سياسي باجتهاداته الخاصة على واقع آخر وإن تشابهت بعض حيثياته، فالعمل الجهادي تعتريه خصوصية مؤثرة في بناء التصور الصحيح لفهم خريطته السياسية، وهي جزء غير منفك عنه، وكل بناء تصوري لا يقف على المناص الخاص له سيأتي غلطاً وإن حُشدت له كل القواعد، وصفّت له كل الأصول.

وبعد هذه السياحة في رحاب المعنى الاصطلاحي ستجد نفسك مرغما على وقفة إجلال وإكبار وأنت ترى عظيم الرحلة الجهادية السياسية التي خاضتها الإمارة الإسلامية من ساحة الجهاد العسكري الوجودي وصولاً إلى منبر شريف الإمارة الإسلامية.

في الوقت الذي كان كثيرون يعولون على ضعف الإمارة الإسلامية في بناء مؤسساتها السيادية في ظل التناقضات المصلحية التي تعج بها السياسات الدولية، واشتداد سطوة الحصار الخارجي، ونشاط أذرع الطغيان التخريبية في الداخل، أبهرت الإمارة الخصوم بحسن التدبير الداخلي والخارجي، وقدمت نفسها بشكل متزن ينم عن عميق فهم، وراسخ نظر، واستطاعت الإمارة الإسلامية خوض غمار السياسة بما يضمن علو الهوية الإسلامية وتحقيق المصالح الشرعية، والبعد عن الذوبان في السياسات المحيطة.

 

اتخذت الإمارة الإسلامية لها سياسة شرعية واثقة عند صياغة الواقع، وعند التعامل مع الواقع، ولعل من أبرز سماتها:

  • صاغت الإمارة الإسلامية سياساتها الشرعية على قاعدة من مراعاة المصالح وتحصيلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وانشغلت بالأهم قبل المهم، ومدت يدها لكل من يقدم لها اسناداً ودعماً في مسيرة البناء من غير تنازل، ولم تستعد أحداً لم ينصب لها منجنيق العداء، واعتمدت سياسة الاحتواء ما أمكن، والتقت مع خصومها على قاعدة من المصالح المتقاطعة المشتركة، وانفتحت على كل خطة تحقق الأمن والتنمية وفيها انتشال للشعب الأفغاني من وحل الفقر والجهل ولم يكن شيء من ذلك على حساب هويتها الإسلامية.

 

  • صاغت الإمارة الإسلامية قواعد سياساتها الشرعية على ضبط فقه الممكن من غير إفراط أو تفريط، فهي تدرك أن المصلحة الشرعية أحيانا قد تأتي من طريق ممنوع وأنه لو سد لفاتت المصلحة واستمر الممنوع، فقامت له مقام الموازنة لتحقيق الممكن من غير تحمل أعلى الفسادين بدفع الأدنى، وأنه ليس كل سبب تحصل به الحاجات المشروعة قد يكون مشروعاً، وإنما يكون مشروعاً إذا غلبت المصلحة المفسدة وكان ذلك الممكن الواجب، وأن بعض طريق المصلحة قد يؤدي إلى المفسدة ويبقى مع ذلك على أصله من الإذن، لأن المصلحة إذا غلبت وربت لا اعتبار معها بالندور في انخرامها، فالمصلحة الخالصة عزيزة، وليس هناك مصلحة عرية عن مفسدة.

 

  • صاغت الإمارة الإسلامية سياستها الشرعية في إدارة الخلاف الخارجي والداخلي على قاعدة من الاتزان من غير طغيان صوت البارود على منطق الحكمة، فتحجم عندما ينتظر منها البعيد موقفا عنيفاً، فتغلب منطق الحكمة والاحتواء، وتزمجر عندما ترى من خصومها تعدياً على حقها وترى في ذلك سياسة شرعية نافعة تناسب الحال، ولا تعتمدها سياسة دائمة، فهي ليست في مشكلة مع جيرانها، وليست في عداء مفتوح مع خصومها، فتقاتل سياسياً على كل صعيد، وتحمي حقها في كل نازلة، وتصون هويتها في كل ميدان.

 

قفزت طالبان استحقاقاً لمنبر الإمارة، فأحسنت كثيراً ولازالت، وقدمت نفسها بقوة، وحافظت على هويتها من الغزو السياسي الثقافي الغربي، والتمرد الداخلي الذي تتولاه أذرع الغرب في أفغانستان، وهي لاتزال في علو مدروس، وعناية ربانية تحفها، فكانت –بحق- أنموذجا فريداً يحتاج إلى عميق تأمل، ومتين دراسة.

والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى