
علماء السلطة!
صلاح الدين ( مومند)
في الأونة الأخيرة استدعى ما يسمي شورى المصالحة حوالي 700 عالماً من أنحاء البلاد لدفع عجلة الصلح بين الحكومة وحركة الطالبان الإسلامية.
انعقد المجلس واستغرق يومين في العاصمة كابول، ولم يتمخض عن كثير؛ فقد أوصى العلماء حكومة “المفكر” بفتح مكتب للطالبان في كابول، كما طالبوها بكبح جماح الدعايات الكاذبة والترهات في شأنهم، ودعا المجلس بدوره حركة طالبان إلى إيقاف العمليات الإستشهادية في الأماكن التي تقع فيها الممتلكات العامة أو يتواجد فيها المدنيين، وأن تخضع الحركة للمصالحة مع الحكومة. وكل هذه الوصايا والأطروحات لم يكن لها وزن في ميزان الواقع، وكأنها ريح في قفص أو حبر على ورق؛ لأننا نعلم أن الذين حضروا إن كانوا من علماء السلطان فغالبا ما تأتي مساعيهم بالفشل. وعالم السلطان لا يتكلم إلا إذا أمره السلطان، ويسكت إذا أمره السلطان، ويلتمس للحكام الأعذار والتبريرات فيما يقومون به من عمالة للكفار وخيانة لدينهم وأمتهم، بينما يطلقون لألسنتهم العنان في الطعن والتجريح والإنكار على المجاهدين؛ لأنّ ذلك يوافق أهواء الحكام، وإنّ أمثال هؤلاء لا يحركهم دينهم وعقيدتهم، وإنما يحركهم الحكام والسلاطين فقط.
إذا كان المجلس يرأسه الأستاذ (قيام الدين كشاف) ويشمل أمثال الأستاذ (سياف) -زعيم «مجلس شورى الحراسة والثبات» الذي شُكّل تحت غطاء “إصلاح الحكومة ومنحها المشورات النافعة”-، والذي صرَّح في حوار صحفي بشرعية تواجد الأمريكيين في أفغانستان بحجة أن تواجدهم جاء نتيجة مطالبة مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة.
حريٌ بالداعي إلى الصلح أن يكون مصلحا ومسالما بنفسه، لكن (سياف) هو الذي خاض معارك عدة؛ ضد حزب الوحدة الشيعي، والحزب الإسلامي بقيادة (حكمتيار)، ووقف ضد حركة طالبان الإسلامية مع أحمد شاه مسعود، ودخل في التحالف الشمالي باسم الجبهة الإسلامية المتحدة مع دوستم والشيعة والجمعية الإسلامية، وأخيرا حينما رأى مصلحته الشخصية تحالف مع الاحتلال بقيادة بوش وأوباما واليوم ترامب. هذا بعد طول الجهاد علي غرار مثل السائر: صام حولاً ثم شرب بولاً.
وقد وصفه الأخ عبدالوهاب الكابلي بأنّ غضبه علی المجاهدین في سبیل الله تعالی كان أكبر من غضب قائد القوات الأمریكیة في أفغانستان! وأكبر من غضب أيّ جنرال صلیبي یقود الحرب ضدّ المجاهدین، مع أنهم أعلنوها حرباً علی الإسلام، ولكنهم لم یأمروا بتعلیق أجساد المجاهدين علی المشانق عند بوابات المدن! أمّا هذا فقد أفتی أن قتال المجاهدین للصلیبیین وأعوانهم في أفغانستان (محاربة لله ورسوله)! وقد استشهد بالآیة القرآنیة (إنما جزاء الذین یحاربون الله ورسوله…).
ولم یكتفِ بهذا، بل أوصی الحكومة العمیلة السابقة أن تعلّق أجساد خمسة ممن یعاونون الاستشهادیین – ووصفهم بالانتحاریین – علی المشانق عند بوابات (كابل) وأن تترك جثثهم معلقة لمدة شهر للعبرة، وبعدها إن لم تتوقف سلسلة الهجمات الاستشهادية فهو یتحّمل المسؤولیة.
ولم یقف عند هذا الحدّ، بل أفتى بتحریم العمليات الاستشهادیة، وتحدّی علماء الإسلام أن یقدّموا دلیلاً واحداً علی جوازها. وهو كذلك نصح الحكومة العميلة بعدم طلب السلام من الطالبان، بل أوصاها بدكهم والقضاء علی قوتهم، لأنهم– بزعمه – لن یجنحوا للسلم ماداموا أقویاء.
فهل هؤلاء صادقون في مسعاهم، وهل يسدد الله خطاهم؟
روى عن عمران بن حصين رضي الله عنهما – مرفوعاً-: “إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي منافق عليم اللسان”. رواه أحمد. وقال المناوي: كل منافق عليم اللسان أي: عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغر للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام .
حقاً إنهم من الذين يصفهم أحد العلماء بأنهم يضفون نوعاً من الشرعية على الحاكم والحكومة ويساعدونه على التسلط والاستبداد بفتاويهم التي لا يرعون فيها ذمة، ولا يصونون بها علماً، مما يجعل الحاكم يستمد منهم وجوده وشرعيته وإن كان عميلاً للاحتلال ومن صنيعه.
كم من العلماء والدعاة المسلمين مالوا ميلاً جرَفَهم نحوَ زخارف الدنيا الواهمة، يقول الإمام الغزالي في (الإحياء): “الدخول على الأمراء مذموم في الشرع، وفيه تشديدات وتغليظات تواردت بها الأخبار والآثار”، فكيف بمن دقَّ الأبواب، وانتظر عند عتبات الملوك والحكَّام؛ لنيل رضًا، أو كسبِ حَفنةٍ من مال، أو تحقيق رغبة في تصدُّر منصبٍ وجيه؟! وقد قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: “إن الرجل لَيدخلُ على السلطان ومعه دِينُه، فيخرج ولا دينَ له، قيل له: ولِمَ؟ قال: لأنه يرضيه – أي: السلطانَ – بسَخَط الله”.
والواقع يُجلِّي سببًا من أسباب تساقُط بعض العلماء، وهو تولِّيهم المراكزَ والمناصب والوظائف لدى الحكَّام الجائرين المرتهنين، فإنْ تفوَّه العالِم بالقول الحقِّ، ولم يُعجب الحاكم، قطع عنه موردَ رزقِه، أو عزَلَه عن منصبه، أو حاول تشويه سمعته.
فلذلك هم لا يرون مقاومة ظلمه وجبروته، ويطوّعون النصوص الدينية لخدمته، فيلوون أعناقاً ويؤلونها حسب ما يراه ويعتقده، فيدّعون أن طاعة الحاكم -وإن كان طاغوتاً ظالما- واجبة، ولا يجوز الخروج عليه، فكم من علماء دين أفسدوا الحاكم بفتاويهم وأناموا الشعوب وخذلوها بتأويلاتها المنحرفة.
قال ابن المبارك رحمه الله :
وهل بدّل الدين غير الملوك *** وأحبار سوءٍ ورهبانها
عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر – رضي الله عنه -: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين.
وقد تحدث التاريخ عن أمثال هؤلاء، ومنهم (عتاب بن إبراهيم) المحدث الذي اشتهر عنه أنه نافق الخليفة المهدي وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان المهدي يحب اللعب بالحمام والسباق بينها، فدخل عليه جماعة من المحدّثين فيهم عتاب بن إبراهيم، فحدّثه بحديث أبي هريرة: (لا سَبَقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ). وزاد في الحديث: (أو جناح) فأمر له المهدي بعشرة الآف. ولما خرج قال: (والله إني أعلم أن عتابًا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر بالحمام فذبحه ولم يذكر عتابًا بعدها).
على العلماء الربانيين أن يعلموا أن الامارة الإسلامية كانت -حين حكمها- لاستتباب الأمن والسلام، وهذا دأبها، ولازالت تسعى لإيجاد صيغة تجبر المحتلين على الانسحاب بلا قيد أو شرط؛ لتهيئ أجواء المصالحة والمسالمة، فهي تعلم أن الإسلام يدعو للسلام وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما رد يدا امتدت إليه بسلام، لأن السلام هو منهجه وخلقه، اللهم إلا إذا كان على حساب الدين وقيمه وفضائله فهو سلام مرفوض واستسلام مهين حذر منه رب العالمين بقوله: (فلاتهنوا وتدعوا الى السلم وانتم الأعلون والله معكم ولن يتركم اعما لكم …). صدق الله العظيم.