مقالات الأعداد السابقة

عودة ترامب وفرحة المعارضين الأفغان

زين الدين البلوشي

 

مع الأسف الشديد البالغ، فقد ترسخت في نفوس بعض الأفغان المريضة فكرة الاعتماد على الأجانب في تشكيل مصيرهم وبناء وطنهم، وتكوين حكومتهم، واتخاذ سياساتهم. وبعد انقلاب محمد داود، زادت هذه الفكرة ترسخًا وتعمقًا، واعتقدوا  أن ما يكوّن مصيرهم ومصير بلادهم هو تواجد الأجانب في بلدهم وتخطيط القوات الشرقية أو الغربية، وأنه لا يمكن أن نصوّر فكرة الحكومة وفكرة التقدم دون إشراف ودعم قوة عظمى.

الأمر الخاطئ الذي تشبث به هؤلاء الأفغان على مدى نصف قرن تقريبًا، هو اتكالهم على الاتحاد السوفيتي وتطلعهم إليه وإلى سياساته وإلى رؤساءه المختلفين، فكان الساسة الأفغان الموالون له يستشرفون قصر الكرملين، من يخرج منه ومن يدخله وماذا يحدث فيه؟! غافلين عن مواهبهم ومواهب شعبهم، فحدث لأفغانستان ما حدث، وجرّ على البلاد العديد من المشاكل؛ ما ساهم كثيرًا في الأحداث اللاحقة وفي تخلف البلاد عن ركب التطور العالمي، رغم أن مقوّمات تطور البلاد في الحكم والإدارة والاقتصاد كانت متوفرة فيها؛ من شعب متدين متيقظ، ومن رجال أعمال، وثروات طبيعية هائلة.

و على هذا، كلما حدث في الولايات المتحدة الأمركية حدث سياسي، وتبدل الرؤساء والسادة على رأس حكمها؛ توقع كل من تلبّس بذل الاستعباد والرق، واتصف بصفات العملاء أن تتخذ أمريكا لأجلهم خطوة وترفع لهم رأسًا، وأن تعمل لأجلهم وتبذل لأجلهم. ومن هؤلاء من جيء بهم على رأس الحكم في أفغانستان بفضل الولايات المتحدة لعشرين عامًا، ولم يقصروا خلال هذه المدة في نشر أي صورة من صور الفساد في البلاد، فساد الإدارة، وفساد السياسة، وفساد التعامل مع الناس. حتى ظهر مدى فسادهم لرؤسائهم ولآمريهم من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، حيث أشعر ذلك الرئيس الأمريكي جو بايدن بالحزن الشديد حين انهارت الحكومة الموالية له، قائلًا: “لقد أنفقنا أكثر من 3 ترليون دولار في أفغانستان، ودفعنا مبالغ طائلة على القوات الأمنية، ولكن القيادة السياسية الأفغانية استسلمت وفرّت، فيما القيادة العسكرية انهارت”. وبحسب بي بي سي، اتهم دونالد ترامب، الرئيس الجديد للولايات المتحدة، للمرة الثانية مسؤولي حكومة جمهورية أفغانستان السابقة بالفساد، واعتبرهم أشخاصاً يهدرون الموارد المالية للولايات المتحدة.

وهذا إن دل علی شيء فإنما يدل على أنهم كانوا مطلعين على مدى فساد الجمهورية وعدم كفاءة رجالها لإدارة البلاد.

 

نشهد هذه الأيام في هؤلاء الذين يُعرفون اليوم بين الشعب الأفغاني بـ”المعارضين الأفغان” موجة من الفرحة والتفاؤل والتوقعات، التي لا أساس لها، بالتطورات العالمية وخاصة الانتصارات السياسية لدونالد ترامب بانتخابه رئيسًا جديدًا في الولايات المتحدة، يرحبون بهذه التطورات متوقعين أن يكون ترامب منقذًا لأفغانستان على حد زعمهم، متجاهلين حقيقة أن ترامب نفسه ساهم كثيرًا في إحباط آمالهم بالعديد من قراراته، وربما تحتاج هذه التفاؤلات والفرحات والتوقعات الفاشلة إلى مراجعة.

والعجب أن العديد من هؤلاء المعارضين كانوا مشاركين وناشطين في حملات ترامب الانتخابية الأخيرة، على أمل أن يدعمهم في الوصول إلى الحكم والوقوف إلى جانبهم ضد حكومة إمارة أفغانستان الإسلامية، آملين من الرئيس الأمريكي الجديد، الشفقة والرحمة والعطف بهم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنهم اعتادوا اللقمة المهيأة الجاهزة، ولن ينكبّوا على العمل والجهد، وكأن أفغانستان تمتلكها الولايات المتحدة وتمنحها لكل من تشاء.

 

و لكن نعتبر هذه التوقعات فاشلة لعدة دلائل:

* أولًا: الذي عاد اليوم إلى الحكم هو نفس الشخص الذي وقع اتفاقية السلام مع الحكومة الأفغانية الجديدة، وكان فريق ترامب أول مجموعة بدأت مفاوضات جدية مباشرة مع الحكومة الحالية، وكانت وزارة خارجيته هي التي وقعت اتفاقية السلام، كما أن ترامب نفسه هو من اعترف بها وأضفى الشرعية عليها من خلال القبول بإنشاء المكتب السياسي لها في قطر.  تُظهر مثل هذه التصرفات أن ترامب وفريقه لعبوا دورًا بارزًا في أفغانستان، وأن أمل المعارضين الأفغان في حدوث تغييرات منه يتلاشى.

 

* ثانيًا: إن ترامب تاجر يتطلع بالقطع إلى ربحه في التجارة في كل الأحوال، والربح يمثل أساس معتقداته، فكل وعد أو خطة يطرحها، فهو بالتأكيد يحسب ربحه مقدمًا حتى لا ينتهي بخسارة.

 

* ثالثًا: كيف يمكن للمعارضين أن يعودوا إلى نقطة الصفر، ألم يتّكلوا على الولايات المتحدة قبل سنوات؟ ألم يحكموا أفغانستان بدعم مباشر من الولايات المتحدة؟

موقف فاشل في أفغانستان المعاصرة، لحكام الأمس ومعارضي اليوم وللولايات المتحدة نفسها، ثم إن كل من انهزم في أفغانستان لن يعود إلیها أبدًا، والتاريخ القريب شاهدًا على ذلك.

 

* رابعًا: إن رجال الإمارة الإسلامية -أو «طالبان» على حد قولهم- لهم تجربة في هذا الأمر مرارًا وتكرارًا في السنوات العشرين الماضية، حيث تعاقب الرؤساء في الولايات المتحدة في حين كان رجال الإمارة في نضال ضدهم، ولم يعتر عزمهم أي فتور أو ضعف، لأنه لا يهمهم ذلك، فتخويفهم أو تهديدهم بذلك أمر سخيف.

 

* خامسًا: هناك بعض الأشخاص يقولون إن الحكومة الأفغانية ربما لن تحظى بوقت سعيد مثل زمن بايدن، وأنه من المحتمل أن يقوم ترامب بقطع المساعدات الأسبوعية المنتظمة، لكنهم يجهلون أو يتجاهلون أن وجهات نظر ترامب وهاريس وأي رئيس آخر في الولايات المتحدة لا تؤثر في أفغانستان بشكل كبير وكلهم سواء لدى الإمارة الإسلامية. ثم إن إدارة بايدن لم تعمل على بنود اتفاقية السلام؛ حيث لم يتم تحرير الأموال المجمدة لأفغانستان، مع استمرار القيود والحصار على المصرف الأفغاني وعلى التجار الأفغان، فماذا يتغير بتغير الرئيس الأمريكي؟!

ولحسن الحظ، فإن الإمارة الإسلامية اعتمدت في ميزانيتها على الإيرادات الداخلية، وكل نفقاتها تمول من مصادر داخلية، ولم تعتمد قط على المساعدات الدولية.

 

* سادسًا: إن أفغانستان التي انسحب منها الأمريكيون قبل أكثر من 3 أعوام ليست أفغانستان اليوم، فعلى الصعيد الداخلي وفّرت الإمارة الإسلامية الأمن الذي حُرِمت منه البلاد لأكثر من 4 عقود متواصلة، وعلى الصعيد الخارجي التزمت بتنفيذ بنود اتفاق الدوحة، علی أنها من أغنى الدول بالنفط والمعادن، والآن هي على أفضل العلاقات مع دول الجوار وروسيا والصين. ومنذ وصول الإمارة الإسلامية للسلطة؛ حاربت المخدرات، وصدرت النفط، وبَنَت مئات المستشفيات، وفتحت مصانع عملاقة، وقامت بإنجازات قيمة في البلاد.

والمتوقع من الرئيس ترامب تجديد النظر في سياسة بلاده مع أفغانستان؛ حتى لا يتخلف عن الاستثمار فيها لصالح منافسيه في المنطقة والعالم.

 

* سابعًا: الإمارة الإسلامية أظهرت قوّتها في ميادين النضال وتعاملها المتوازن في مجال السياسة. ولا يملك ترامب أو أي رئيس آخر في الولايات المتحدة أن يغض الطرف عن هذا الأمر، ولا إنكاره أو التغافل عنه، مهما كان الثمن، لا سيما وأن شخصية ترامب التجارية تؤكد ذلك.

 

* ثامنًا: إن الإمارة الإسلامية تأمل من الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب العمل على ما تعهد به في الاتفاقية، حيث أشارت وزارة الخارجية لإمارة أفغانستان الإسلامية على لسان المتحدث الرسمي باسمها؛ عبد القهار بلخي: إن الإمارة الإسلامية تأمل في أن “تتبنى الإدارة الأميركية المقبلة نهجاً عملياً لضمان التقدم الملموس في العلاقات الثنائية، وهذا يسمح لكلا البلدين بفتح فصل جديد من العلاقات القائمة على المشاركة المتبادلة”. كما حرصت وزارة الخارجية على التذكير بأن اتفاقية الدوحة الموقعة في 29 فبراير/شباط عام 2020 بين الإمارة الإسلامية والولايات المتحدة جاءت خلال ولاية ترامب الأولى “وأدت إلى نهاية الاحتلال الذي دام 20 عاما”.

 

وعلى كل حال، فإن الذين يتطلعون دائمًا إلى الأجانب، ويعتادون الدناءة لتحقيق أهدافهم، لا نستغرب منهم هذا العمل، بل نستغرب منهم كونهم مسلمين وأفغان، ونستغرب جهلهم أو تجاهلهم تاريخ أفغانستان، وتجاهل أن كل قوة انسحبت من أفغانستان ما عادت إليها مرة أخرى إلا وانهزمت أشد من الهزيمة الأولى. وهؤلاء إن جهلوا هذا الأمر المهم، فلا يمكن أن تجهله الولايات المتحدة ورئيسها الجديد؛ دونالد ترامب، وهو يعلم جيدًا أن الأمر ليس كما سبق، وأن من يحكم اليوم أفغانستان هم أبناؤها الحقيقيون الذين بذلوا كل ثقلهم في سبيل تحرير البلاد، وتحملوا المشاكل العديدة من الموت والتهجير، وبنوا سياستهم على الاستقلال والحرية وشيدوها بالتضحية والفداء، ولا يخافون أحداً سوى الله، فهم مستقلون في الفكر والسياسة، ولا يفصلون بين أحد وآخر، وسياسة هذا وذاك، فالإمارة الإسلامية التي تضم هؤلاء البواسل حكومة مستقلة حرة تتطلّع إلى ما حدده الله وعيّنه وتسير في مسيرها المحدد. قاومت الإمارة الإسلامية الاحتلال، عشرين عاماً، مع تعاقب رؤسائه المختلفين الجمهوريين والديمقراطيين بدءًا من جورج بوش إلى ترامب هذا، فكلهم عندها سواء.

 

فقط بقي أمرٌ؛ وهو كيف تسمح مشاعر هؤلاء بأن يحوّلوا بلادهم إلى الأجانب ليصلوا إلى الحكم، وليُمهدوا لهم الطرق للوصول إلى أهدافهم الشخصية؟ إنهم بهذه المحاولات خلقوا علامة استفهام مهم، لم يُعثر له على جواب، لأن حب الوطن ولو كان بمقدار ذرة يمنع صاحبه من أن يمنح وطنه إلى الأجنبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى