غزة المظلومة: داء الخذلان أنكى من داء العدوان
صادق رحمتى
جثم الظلام على غزة المظلومة، ظلام الظلم المشاهد على مستوى العالم، ظلام التخاذل والتقاعد، ظلام التجاهل والتقاعس، من ذويها من أهل الإيمان ومن الإنسانية بأكملها! أليس المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؟ أين البنيان وأين شد البعض للبعض الآخر؟
لقد ثقل الهم وطال بغزة القصف والقتل، وعمّ البلاء على أرضها دمارا وخرابا، دموعا ودماءا، وفاحت فيها رائحة الموت، ومضى على هذه الكارثة أكثر من ثلاثة أشهر، وأهل غزة يُقتلون ويشرّدون. انهمرت الدموع وحق لها أن تنهمر، بعدما شاهد الإنسان بقايا الجثث التي شوهها الصهاينة، ودهسوها بالدبابات، وتركوها أشلاء ممزقة في شوارع وطرقات غزة، ولازالت الإبادة الجماعية مستمرة، والتجويع مستمر، وإغلاق المعبر مستمر، وتكدس شاحنات المساعدات أمام المعبر مستمر، وانعدام السيادة العربية على معابرها وحدودها مع غزّة مستمر، والقتـل مستمر، وتشريد ونزوح الناس مستمر، والعـار والتخـاذل مستـمر!
كم مسلم في غزة اعتدى عليه الصهاينة الحاقدون؟! ورغم ذلك لم تظهر في المسلمين المروءة الإسلامية، ولم تتحرك فيهم غيرة أو حمية، اللهم إلا ما تبثه إذاعاتهم وتهذي به بعض صحفهم من الاحتجاجات والاستنكارات التي لا تردع غاصبا أو معتدياً، ولا تحمي عرضاً ولا أرضاً.
رحم اللّه أزمنة مضت، كان إذا اعتدي فيها على شبر من أراضي المسلمين؛ سُلّت السيوف من الأغماد، ونفرت كتائب الإيمان من مختلف البلدان. كان إذا اعتدي على ثغر من الثغور، غلت نفوس المسلمين كما تغلي الملاء من القدور، واندفع المقاتلون منهم يصدون الأعادي بالجماجم والصدور. وصفحات التاريخ متخمة بمثل هذه الاعتداءات الظالمة، ولكنها مضيئة أيضا في ذات الوقت بالردود المناسبة القوية.
ولما أطلقت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وابلا من الصواريخ، وتجاوز مجاهدوها السياج الأمني، وتمكنوا من توجيه ضربة قاصمة لأجهزة مخابرات الاحتلال الإسرائيلي، وتسللوا داخل الأراضي المحتلة، ثم أردفوها بأنواع الحملات؛ كان المتوقع من الدول المسلمة أن تدعمها دعما واسعا، وأن تزودها عسكريا وفكريا وماليا، كما دعمت الدول الكافرة الكيان الصهيوني، منذ أول لحظة للعملية، بما فيها أمريكا من أقصى العالم!
بات الأمر عجيبا والله وموتّراً للأعصاب، أن الدول الداعمة لإسرائيل بما فيها أمريكا، تحركت من أقصى العالم بأساطيلها البحرية المسلحة بأنواع الأسلحة الفتاكة، نحو سواحل غزة لقتل الأطفال والنساء، وتدمير المنازل والمساجد، على مسمع ومرأى من العالم؛ دعماً لدولة كافرة! ومصر وسائر الدول العربية والإسلامية، لا حراك لها ولا يزال حكامها جالسين حرصا على عروشهم! أین قواتها المسلحة وأين جيوشها المجهزة؟
ألم تكن الجيوش للدفاع عن الإسلام والمسلمين؟ أليس العدِة والعُدة للجهاد في سبيل الله والمستضعين؟ أين تبخرت شعاراتهم وأين ذابت هتافاتهم؟
السؤال المطروح الموجه لحكام الدول التي تدعي دعم فلسطنين دائماً، لماذا ينفخون دائما في أبواق الحرب، ثم هم الآن مستمسكون بمقاعدهم؟ بمَ هم واثقون؟ هل نتوقع أن تقوم الأمم المتحدة لنصرة المستضعف إذا كان مسلما؟ هل ننتظر قرارا من المجتمع الدولي الذي فيه حق النقض لبعض الدول كأمريكا، أكبر داعمة لإسرائيل؟
كلا وأبدا! إن منظمة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها أُختبرت مرات وكرات، وثبت أن المنظمات الدولية تعحز عن إنهاء الحرب، وإرساء السلام في العالم، وأن الحروب التى شُنت بعد تأسيسها لا تعد ولا تحصى، ومعظمها كان ضد الإسلام والمسلمين.
لقد فوجئ الاحتلال الصهيوني بهذه العملية على نطاق واسع، وفوجئت بها الدول الكافرة هي الأخرى، كما أثبتت عملياً أن القلة والكثرة في العِدة والعُدة، ليست هي الفيصل للانتصار في الحرب، ولم تضمن أبداً الغلبة لصاحب الكثرتين، بل عماد النصر هو صلابة العقيدة والإيمان بالله والصبر والصمود، وهو كان ولا يزال رمز الانتصار والغلبة في الحروب.
فهذه العملية وإن أبردت قلوب المسلمين، وأحيت في أنفسهم المجد والطموح، وأوسعت المسلمين بأجمعهم، بما فيهم الحكام والشعوب، علماً بأن أعداء الإسلام مهما بلغت قدرتهم فإنهم منهزمون أمام قوة الإيمان وقوة العقيدة الصحيحة الحقة، ولن يتمكنوا من الوقوف أمامها؛ فهل تتمكن الفئة القليلة من منع الجيش المزود بأنواع الأسلحة الحديثة من قتل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ؟ أليس لها الحق أن ترمق إخوانها المسلمين وتنتظر نصرتهم ودعمهم؟
إن داء الخذلان أنكى من أي داء آخر، حتى من داء العدو الغاشم.
ومع كل هذا لم يزل المسلمون مستمرين في سباتهم، ولم يستيقظوا من نومتهم، وساروا على مسارهم في التغافل والتجاهل، كلٌ يهمه مصالحه ومصالح بلاده فقط. لقد زرع الأعداء في قلوبهم الخوف والجبن، وأشعلوا فيهم العصبية والقومية، كل هذا جاء بعد أن انهزم الاستعمار عسکریا أمام قوة الإيمان والعقيدة؛ فلجأ إلى أسلوب خبيث؛ وهو نفخ العصبية والقومية وسائر السلبیات في الأمة الإسلامية، والتي ركز الإسلام في جوهره -بحكمة بالغة- على إزاحتها واستئصالها. وبإذكاء النعرات القومية والجاهلية تمكن الأعداء من تقسيم الخلافة الإسلامية من دولة واحدة إلى دويلات ضعيفة محتاجة، بأسماء مختلفة متلونة، وقصم بذلك ظهر الأمة، وكسر شوكتها، وكدر بهاءها، ودمر بناءها، وجعل لكل واحدة منها حدودا خيالية قابلة للتشظي لأدنى شيء، وحولها من أمة إسلامية إلى دولة فلانية منسوبة إلى قوميتها ولغتها. وجاءت قضية فلسطين في هذا الإطار، حيث ضرب العدو بها آخر ضربة لقصم ظهر الأمة الإسلامية، وجعلها کقنبلة قابلة للإنفجار في أي لحظة شاء.
ليت الدول المسلمة -على الأقل- التزمت الصمت تجاه هذه المجازر، واكتفت بالخذلان! حيث تشير التقارير إلى أن بعض الدول المجاورة لفلسطين تسمح باستخدام أراضيها لنقل معدات عسكرية ثقيلة، وقوات خاصة أمريكية لدعم الاحتلال الصهيوني! متجاهلة أن المقاومة الفلسطينية صارت هي العزة والكرامة لكل عربي ومسلم على وجه الأرض، ولو أبيدت المقاومة، لما بقيت كرامة ولا عزة لعربي ولا لمسلم.
أمر آخر لابد أن يؤخذ في الحسبان؛ وهو إن كانت فئة قليلة محاصرة نجحت في تحقيق هذه البطولات أمام أكبر قوة مسلحة في المنطقة، فماذا لو أن الأمة المسلمة تكاتفت يداً واحدة وصوتاً واحداً، فهل سيكون للكفرة الظلمة إلا الحسرات والندامات؟
صدق الله عز وجل في وصف اليهود: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) [آل عمران:١١٢]؛ فهم على الرغم من الكثرة في الأموال والأسلحة وآليات الحرب، يحتاجون إلى حبل من الناس وإلى دعم الدول. فاجأتهم الرشاشات التي أطلقتها فئة قليلة محاصرة؛ فقاموا بحملات قصف عشوائي، فقتلوا ودمروا وأفسدوا وما زالوا!
لقد أصبح واضحًا بما لا يقبل الجدل، أن قضية فلسطين لن تحل أبداً بالشعارت الجوفاء والنعرات الفارغة التي هتفت بها بعض الدول عبر الشاشات، أو بالدعم في مواقع التواصل الاجتماعي، أو بالخطابات والهتافات التي تقام بين فترة وأخرى؛ بل حلها يحتاج إلى حركة جماعية عملية من قبل جميع الدول المسلمة، ودعم عملي متواصل حسبما أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم.
والقرار الصهيوني بالاقتحام البرّي لغزة المظلومة ليس ضربا من الشجاعة، وليس قرارا تم اتخاذه من قوة وشجاعة، إنما تم اتخاذه من الوهن الذي أشار إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أن تداعي عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غثاء كغثاء السيل ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن اللّه في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول اللّه! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
غزة اليوم واقعة بين مطرقة هجمات الاحتلال الصهيوني وسندان تخاذل الدول العربية والإسلامية. وهي -رغم ذلك- ستنتصر في هذه المعركة إن شاء الله، كما تشير إليه المؤشرات والواقع الذي يعاني منه العدو الصهيوني، والضعف الذي بدا على الجيش الصهيوني، بالإضافة إلى انعدام الروح القتالية لدى ضباطه وجنوده، وحالة الذعر والرعب والأمراض النفسية التي أصابتهم، وعدم نجاح جيش الاحتلال إلا في استهداف المدنينن والأطفال والنساء! وهذا جعل الاحتلال الصهيوني في مأزق كبير وغير مسبوق في تاريخه الشنيع؛ حيث دخل غزة بحسابات الغطرسة والقوة المزعومة، وأعتقد أن القطاع صيد ثمين يسهل له تحقيق كافة أهدافه من خلال تصعيد عسكري وحرب إبــادة جماعية! لكن كل ذلك لم يحقق أي هدف يذكر، وفشل بشكل ذريــع؛ فلم يقض على المقاومة، ولم يفلح في إطلاق سراح أسراه المحتجزين لدى المقاومة، ولم يتمكن من السيطرة الكاملة على غزة.
فما زالت المقاومة الفلسطينية تلحق الخسائر الفادحة بالجيش الصهيوني، بنفس الوتيرة، بل أكثر من ذي قبل، رغم انتهاء الشهر الثالث للتصعيد العسكري لقوات الاحتلال، وهو ما يعني أن بنية المقاومة العسكرية مازالت قائمة، دون تراجع، بالإضافة إلى أن صواريخ الفصائل الفلسطينية مازالت تصل إلى عمق الكيان المحتل، وهو ما جعل تل أبيب تنزف بغزارة أمنيًا وعسكريًا واقتصاديًا.
أصبحت هناك قناعة صهيونية وعسكرية تامة بالفشل المزمن في المعركة والهزيمة الكاملة في الحرب، لكنهم سينفذونها بصمت ودون إعلان رسمي لأسباب كثيرة، مع إلزام الإعلام الصهيوني بعدم النشر إلا بما يُسمح به. لكن ما يجري خلف الكواليس اليوم سيكون على الملأ غداً، «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم».
والقيود التي يفرضها جيش الاحتلال الصهيوني على وسائل إعلامه فيما يتعلق بسير العمليات في غزة دليل آخر على ذلك، والسبب الرئيسي هو حجم الخسائر الهائلة في صفوف جيشه، التي يمكن أن تكون أضعاف ما يتم الإعلان عنه، وربما تكون الأكبر في تاريخه العسكري، والتي كانت تقوم وسائل الإعلام الصهيونية بالتسابق حول نشرها في الأيام الماضية. ثم إن الكيان الصهيوني لن يتحمل إطالة الحرب نظرا لقلة سكانه، وإيقاف عجلة اقتصاده من الصناعة والزراعة.
هذا وأكثر من هذا بإذن الله وبجهود المقاومة الإسلامية، يضمن انهزام الصهاينة وأذيالهم، ويحبط آمالهم ومخططاتهم. ولكن داء الخذلان لن يُمحى أبداً وهو باق على جبين الدول العربية والإسلامية إلى يوم القيامة.
وختاما أتمثل بقول الشاعر الذي صوّر الحب للقدس الذي يموج في قلب كل مؤمن تقي مخلص:
إنِّي وإن طالَ الزمانُ بُعْداً *** للقدسِ حبٌّ في الفُؤادِ رَاسخُ
أَرجو صَلاةً جوفَ مِحرابٍ بِها *** وَلـو بأكْفـانِ الدِّمـاء مُـضمَّخُ