غزة..بقيّة عزّنا
رِحاب
عام كامل مضى، ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، وغزة، بقية عزّنا، تُباد وتُصبّ عليها حمم النار والحقد الأسود على يد أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا. وفي المقابل، مرّ هذا العام وأهل هذه المدينة العظماء في جهاد ومقاومة ورباط لا يتوقف ولا يهدأ ضد عدو الله الصهيوني. لم يذعنوا، طيلة هذه الأيام الشِداد، لعدو الله أو ينكسروا أمام إفساده في الأرض وتجبّره وعربدته -حاشاهم وحاشا أحذيتهم-، رغم قلة الناصر والمعين، ورغم تكالب الأعداء، وتخاذل الأشقاء!
جبال من الصبر والثبات والصمود والأنفة قدّمتها -ولا تزال تقدمها- غزة، تعجز أمامها وتتقزّم جبال الأرض الراسيات.
لقد ألقت غزة بيانها يوم السابع من أكتوبر 2023م؛ بيان دفاعها -نيابة عن أمة الإسلام- عن حرمة المسجد الأقصى المبارك، عن الحرمات والمقدسات التي يدنّسها وينتهكها أخس من وطئ الثرى، عن الأسرى الذين يسومُهم لصوصُ الأوطان العذاب والقهر في وطنهم وعلى أرضهم؛ بيان الحرية والشجاعة والكرامة والعبقرية، بيان لا حروف فيه ولا كلمات، بل محض أمجاد وسمو وشرف.
دع المِّداد وسطِّر بالدمِ القاني ** وأسْكِت الفمَ واخْطُب بالفم الثاني
فم المدافع في صدرِ العداة له ** من الفصاحة ما يُزري بسحبانِ
إن هذا الصمود لوحده انتصار! فما بالك بصمودٍ يدعمه ويُذكيه ويسير بحذائه جهادٌ ومقاومةٌ باسلة لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً، جهادٌ فضح ضعف وهشاشة المنظومة العسكرية والأمنية لبيت العنكبوت الصهيوني. يحدث هذا على مرّ عامٍ كاملٍ من حرب الإبادة والمجازر والتجويع والتهجير وتدمير كامل البُنى التحتية، التي ينتهجها الصهاينة المحتلين.
ما كان لأحد أو لشيء أن يكشف للغافلين من أبناء الأمة الإسلامية ولغيرهم، الوجه البشع القبيح لمدّعي التحضر والحريات وزاعمي حفظ حقوق المرأة وحقوق الإنسان؛ الغرب وأوروبا، صراحة كما هو -دون أقنعة أو مساحيق تجميل-؛ كما كشفته لهم غزة بشهدائها وجرحاها، بنسائها وأطفالها، بمدارسها وجامعاتها، بمستشفياتها ومساجدها، بأشجارها وأحجارها، وبكل ذرة من ذرات ترابها الطيب المبارك!
إن المتأمل في إحصائيات المكتب الإعلامي الحكومي بغزة حول حرب الإبادة الجماعية التي ينتهجها الاحتلال الصهيوني السفاح، والتي بلغت حتى الآن (51,870) بين شهيد ومفقود، و(902) عائلة تمت إبادتها بالكامل ومسحها من السجلات المدنية؛ ليدرك فظاعة الخذلان وعِظَم التقصير تجاه هذا العضو المهم من جسد الأمة الإسلامية؛ والذي يخشى معه المرءُ أن يعُمّ عقاب الله جميع المسلمين، بَرّهم وفاجرهم، نتيجة بلادتهم واستكانتهم أمام ما يجري من مجازر وفظائع لأهلنا في غزة! قال صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ يخذل امرءا مسلماً في موطنٍ يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماُ في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته).
بالطبع، لا تعويل على الحكومات والمواقف الرسمية الهزيلة، فمتى كانت هذه الحكومات المُصَنّعة والمُعبّأة في الغرب، تعبّر عن ضمير الشعوب وعن روح الأمة! بل التعويل كل التعويل -بعد الله- على الشعوب، لا سيما شعوب “دول الطوق” الدول المحيطة بفلسطين، وشعوب المنطقة العربية والإسلامية. وهي المارد الذي يخشى الصهاينة أن يصحو ويخرج من قمقمه فينفخ كيانهم العنكبوتي الهشّ، بعد طول سبات!
ماذا تنتظر شعوب المنطقة لتنتفض، وتنفض عنها غبار عشرات السنين من السكون والضعف والهوان؟
هل ينتظرون أن يأتي عليهم يوم يستيقظون فيه ليجدوا صعاليك الصهاينة وعصابات الشتات، فوق رؤوسهم وفي غرف نومهم، مغتصبين لمنازلهم ومساكنهم وأرضهم، كما فعلوا بالمناطق المحتلة عام 1948م؟!
إن دعوات الإذعان وطلب السِلم والسلامة وما يُسمّى بـ”حل الدولتين” مع هذا الكيان الدموي الإرهابي المجرم، لم تجلب لنا سوى المزيد من الصَغار والذِلة وتجرئته -وغيره من أمم الكفر- على الولوغ أكثر في دمائنا واستباحة حقنا في مجرد الوجود والحياة الكريمة.
يقول تعالى واصفاً أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). فهل هذا الوصف ينطبق على حالنا اليوم ونحن نقف موقف الخاذل البليد لغزة ولأهلها ونَقبَل أن نكون في موقع “المفعول به” دائماً في قضية كبرى للأمة مثل قضية إبادة غزة وتهجير أهلها وتهويد الأقصى والدعوة لإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه؟!
وأي معروف أحق بالأمر من نجدة غزة بالمال والغذاء والدواء والكِساء، والدفع -بكل سبيل- في هذا الإتجاه؟! وأي منكر أجدر بالنهي من كفّ يد العدو المعتدي بتشتيته وضربه في مواطن تواجده وانتشاره؟!
إن لم تُحرّك فيكم المقدّسات وآيات الجهاد وفضائله وما أعدّه الله للمجاهدين في سبيله من ثواب؛ ساكناً، فلتحرّككم -على الأقل- النخوة العربية والشهامة وأخوة الدم. فإن لم تكن هذه ولا تلك، فلا أقل من أن يُحرّككم الخوف من أن يحين الدور على الشظايا الجغرافية العربية التي سيبتلعها الصهيوني السفاح ليبني بها ما يسميه بـ(إسرائيل الكبرى/أرض الميعاد)، في حال -لا قدر الله، ولا سمح الله- أمكنَ له كسر شوكة الجهاد والمقاومة في غزة.
يقول د.علي فريد: “سَيُصِيبُكَ ما أصَابَ أخاك مِن القتل؛ فَكُنْ معه على قاتله؛ لأنَّ ذلك هو الدين. فإنْ عَريت مِن الدين فَكُنْ معه مُروءةً، فإن عَريت من المروءة فَكُنْ معه خوفاً؛ إذ لو فَرَغَ قَاتِلُه منه وَصَلَ إليك!”
وإذا تركت أخاك تأكله الذئابُ *** فاعلم بأنك يا أخاهُ ستُستَطابُ
ويجيء دورك بعده في لحظةٍ *** إن لم يجئْكَ الذئب تنهشكَ الكلابُ
إن تأكلِ النيرانُ غرفة منزلٍ *** فالغرفةُ الأخرى سيُدركها الخرابُ
اللهم احفظ غزة وأهلها ومجاهديها بحفظك الذي لا يُرام، وانصرهم نصراً عزيزاً عاجلاً، واكسر الصهاينة ونكّس رايتهم وشتت جمعهم وفرّق كلمتهم، يارب العالمين.