
غزة.. قطرة العز الوحيدة المتبقية
رِحاب
تُلبّي حشودُ المسلمين في مكة هذه الأيام وتطوفُ حول كعبة الله المشرّفة، ويطوف أهل غزة -منذ أكثر من عام ونصف- حول جنة عرضها السماوات والأرض -نحسبهم ولا نزكيهم على الله-، ملبّين بالدماء والأرواح. وشتّان بين عناء ومكابدة الطوافَينِ والتلبيَتينِ.
أكثر من 63 ألف شهيد ارتقوا -حتى ساعة كتابة هذا المقال- في حرب الإبادة والتجويع التي يمارسها الكيان الصهيوني الهمجي في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023م. وحسبُ الأريب نظرة على التقرير الدوري لإحصاءات حرب الإبادة الجماعية الذي ينشره المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، ليدرك مدى التوحش الذي وصل إليه كيان اللصوص المحتلة في التجرّد من كل قيمة إنسانية، وفي ضرب القوانين الدولية بعرض الحائط، ونكث أي اتفاق أو عهد.
ليس ما يرتكبه الاحتلال المجرم في غزة مجرد مجازر، بل انحطاط أخلاقي لم تشهد له الأرض مثيلاً؛ انحطاط تأنف أن تتسفّل إلى مثله ذوات المخالب والأنياب من الدواب! ليس أوله ولا آخره قصف طوابير الجائعين الذين يقصدون مراكز المساعدات لنيل شيء يسدون به رمق ذويهم، بعد أن أطبق المحتل حصاره التام والجائر على القطاع منذ قرابة العامين، لإذلالهم وكسر صمودهم وحملهم على الانفضاض عن مقاومتهم الباسلة.
والحقيقة أن كل ما شهدته غزة من طغيان وإبادة يندى لها جبين الإنس والجن، ما هو إلا التنفيذ العملي للعقيدة القتالية التي يعتقدها ويؤمن بها المحتلون الصهاينة، والتي نصّت وحضّت عليها كتبهم الباطلة المحرّفة.
يقاتلنا الاحتلال بحاخاماته، بعقيدته اليهودية، بجنوده الذين هم في الأصل خليط من شتات يهود أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأستراليا؛ يقاتل اليهودي الأمريكي إلى جانب اليهودي الألماني والروسي والبريطاني؛ أي أنّ حربهم حربٌ دينية في المقام الأول والأخير وما بينهما!
مشكلتنا نحن -المسلمين- أننا لا زلنا نُقصي الدين في حربنا معهم؛ فنعرّف مشكلة احتلال هؤلاء لفلسطين بأنها (قضية فلسطينية)! ولا يقاتلهم منّا اليوم سوى الثلّة القليلة المجاهدة في فصائل المقاومة بفلسطين والتي يخلو منها تقريباً أي عنصر إسلامي من خارج حدود فلسطين.
لكم أن تتخيلوا! يرموننا مجتمعين من كل أجناس الأرض عن قوسٍ واحدة، وبكلمةٍ واحدة، بينما لا يرميهم منّا سوى عصابة مؤمنة صابرة مرابطة، لا معين لها ولا ناصر على الأرض، بل تُحارَب ويُضيّق عليها من إخوتها الأداني والأقاصي! وإنْ أحدٌ من أحرار هذه الأمة الفُرادى حاول -حميّةً للدين والدم- كسر هذا الحاجز والقيد المفروض علينا فرضاً -منذ سقوط الخلافة العثمانية- بقوى الحديد والنار وحرّاس الحدود الصهيونية؛ لاستنكر عليه من سكِروا بخمر الوطنية، عبّاد خربشات سايكس بيكو، المتباكون -هزلاً ونفاقاً- على غزة وفلسطين!!
إن استمرار إصرار السذّج على رؤية ما يحصل على أرض فلسطين بعيون الحدود الوطنية وأن ذلك (قضية فلسطينية)، في الحين الذي يراه المحتل الصهيوني بعيون توراتية وأن هذه الأرض هي “أرض الميعاد” (حسب زعمهم الباطل)؛ لهو الضلال المبين والزيغ الصريح عن سبيل الإسلام ونهجه القويم.
قبل بضعة أيام، في ذكرى الاحتلال الكامل للقدس عام 1967، خرج زعيم الكيان المحتل ببثّ فيديو من داخل نفق ضخم محفور تحت المسجد الأقصى يبدأ من بلدة سلوان ويمتد إلى أسفل المسجد مباشرة، مستفزاً ضمائر ملياري مسلم، في المُضي في مخططات تهويد مدينة القدس وإقامة “الهيكل” المزعوم. كما تزامن هذا مع اقتحام 2290 مستوطن أتوا من جميع المناطق المحتلة، يتقدمهم الرؤوس البارزة في الكيان المحتل، لباحات المسجد الأقصى، تحت حماية مشدّدة من قوات الاحتلال، محتفلين بذكرى اكتمال احتلالهم لمدينة القدس، فيما يُعرف بـ “مسيرة الأعلام”.
هذا العدد من المستوطنين المقتحمين لباحات الأقصى، هائل وغير مسبوق؛ هل تعلمون ما سر ذلك؟
السر هو أن رأس حربة الأمة في الدفاع عن مقدساتها المحتلة، والعين الساهرة لحماية الأقصى من إفساد الصهاينة؛ فصائل المقاومة الجهادية في غزة، منشغلة اليوم في رد عدوان المحتل ودفع أذاه عن قطاع غزة، على مدى عامين كاملين تقريباَ!
المسجد الأقصى الذي لأجله كانت عملية (طوفان الأقصى) البطولية، لا يجد اليوم في ملياري مسلم من يكفّ عادية الصهاينة عنه ويميط أذاهم عن ساحاته!
تُستباح مقدساتُنا، وتُسفح أنهارُ دمائنا، ويُسكب ماءُ كرامتِنا على أقدام أعدائنا، ثم -بعد كل هذا- يأتون هم وفاقدو الشرف والرجولة ومطموسو الفطرة السليمة، ليطالبوا المجاهدين -بكل وقاحة- بالاستسلام ووضع سلاحهم وترك الجهاد والانخراط في قطيع الخانعين!
إن سلاح أبطالنا المجاهدين في فلسطين -نصرهم الله- هو الحائل الوحيد دون انتشار هذه النبتة الخبيثة -كيان الصهاينة- في بقية الدول العربية والإسلامية لتحقيق ما يدعونه (إسرائيل الكبرى)، وهو العائق دون تحويل المنطقة إلى مزارع دواجن تُسمّن فيها الشعوب لتُذبح أو لتَصرِفَ فروض الولاء والطاعة لـ “السيد المحتل” أولاً، ثم تّذبح أيضاً!
فيا غزة الشهداء، يا غزة النبلاء، يا غزة الرجال الكِرام الذين لم يعطوا الدنيّة في دينهم والنساء القابضات على جِمار الصبر والأطفال الكبار أرواحاً؛ خذلان الأمة لكم عارٌ لن تغسله عنهم بحار الأرض ولا تقادم أزمنة التاريخ، ستظلون الشامة الأكثر سواداً على جبين خاذليكم وعلى جبين هذا الزمان البئيس؛ أنتم قطرة العز الوحيدة في بحر الخنوع العالمي؛ أنتم حُجّةُ الله على كل متعلّل بالعجز، وسوطُه الشديد على أقفاء مغول العصر الجديد.