فتح غندي وشهادة تور بلال
بقلم: مصعب الرخشاني
أنجب الدهر فى كل زمان رجالاً تميزوا عن الآخرين بصفاتهم العبقرية وخصائلهم الجليلة، غادروا أهلهم وديارهم وودعوا أحبائهم ومواليهم، واسترخصوا أنفسهم دون أمانيهم ليركزوا على المجد لواء عز الإسلام، ويصنعوا بجماجمهم جسرا للأمة لتعبر البحر الهائج من الفتن بأمان؛ منهم هذا الفتى!
كالنجم برز وتلألأ في الأفق ثم غاب إلى الأبد، كانت تقرع قصصه آذان الناس وهو حي، وتعي القلوب بطولاته وهو بين أيدينا، وتتناقل الألسن مغامراته وهو يهز إيوان الأعداء هزاً، وكان كما قال الله تعالى:(أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين). ومن رآه بداية هابه ومن رآه معرفة أحبه، ووجدته حقاً كذلك.
هذا “تور بلال”، بطل موضوعنا وزين كل ملاء، وصل من الشجاعة ما عز على الأسود الوصول إليه، ترك من العبر فى مدة قصيرة ما لا يتسع تدوينه، وكان يحدثني عنه كل غاد ورائح كل صباح ومساء، فاشتاق قلبي إلى زيارته لدوره الجليل الذي جعل قلبي وقلب كل مجاهد يسمع عنه ينجذب إليه.
حتى منحني الله فرصة حينما أقبل على “برافشه” في رمضان سنة 1434هـ.ق، فالتقينا هناك، وكان قد عاد من معركة في “جل ميريز” في نيمروز. وكان بيده سلاح “m16” الذي أهداه له الحاج الأنصاري، وركب عليه منظار ليلي فكان يعتني به أكثر من نفسه، وكنا جلوساً ذات يوم وهو ينظف سلاحه، فقال: سميت سلاحي بالحبشي لأنه قتل مسيلمة، وأنا أقتل به كبارالردة إن شاء الله.
عرض لي الخروج معه إلى “خاشرود” التي تُعد من كبار مديريات نيمروز، حيث كانت المعارك حامية الوطيس، فوافقته وخرجنا في السادس أو السابع من رمضان من برافشه إلى خاشرود، وبلال يكرر مراراً أنه اشتاق إلى زيارة جيش الردة؛ لأنه مضى أسبوعاً بعيداً عنهم ولم يشن عليهم هجوماً، وكان سفرنا مليئا بالأخطار وحفيفا بالأزمات والكوارث، وكان شاقاً مرهقاً خاصة حينما انتقلنا من سيارة إلى أخرى بعد عبور نهر”وطن” كانت مليئة بالحطب ونحن على ظهرها ثمانية أفراد، ولا يخفى أن الطرق المعبدة غير متوفرة هناك، بل كان السير على سهل حيناً، وحيناً آخر على وعر، ولهيب الشمس يكوي أجسادنا ويجفف حلوقنا. وعبرنا الصحراء المليئة بألوان الحتف والردى، وكان المنظر كما كنت أقرأ في الصغر عن أساطير سندباد. فيا له من سفر مرهق ومركب مضنٍ! أنساني كل تعب عانيته في حياتي وحسبت كل ما لقيته هيناً دون هذا.
بعد ثماني ساعات أطلت علينا جبال خاشرود الشاهقة تستقبلنا، وبعد عبور الجبال وجدنا أرضاً خصبة ترحب بنا وزروعها تغرد لنا، إلى أن نزلنا بثكنة من ثكنات المجاهدين، وجدنا بها أسارى مكبلين من جنود الردة، ثم انتقلنا من هناك إلى “الأمير الحاج عارف” ( قرة أعين المجاهدين) فقلنا له بأننا نقصد “خط النار الأول” فتبسّم بوجهه المنير، وقال: الناس يعودون هذه الأيام وأنتم تريدون الذهاب؟ فأذِن لنا بالذهاب مع بلال إلى هناك، وكان أمير الخط آنذاك صلاح الدين، وما إن سمع بقدومي مع بلال حتى أشرق علينا في الصبح الآتي وأخذنا على الفور إلى الخط الأمامي.
كان الخط يقع بين ثلاثة معسكرات للعدو، عن يميننا معسكر “قلات” وكان يبعد عنا مِيلاً واحداً حسب ظني، وعن شمالنا ثكنة “غندي” التي حاصرها المجاهدون أكثر من سنة، وتبعد عنا خمس مائة متراً ولا حاجز بيننا إلا جدارالمسجد فقط، وكانت طرقها مسدودة بثكنات المجاهدين والألغام التي زرعها المجاهدون، وكان أمامنا أعظم ثكناتهم والمدينة العامرة لخاشرود واسمه “غرغري” وكان بارزاً لنا من بعيد ولا أعرف مسافته بالضبط، فكنا بين المطرقة والسندان مع قليل العدد والعدة، لكن الحال بالعكس، فكنا نروح ونغدو في تلك الأراضي مع أنهم كلما رأونا أطلقوا النيران علينا ويحفظنا الله، أما العدوّ فلا يقدر على الخروج من حصونه بسياراته المدرّعة، وكيف يخرج؟ لقد قذف الله في قلوبهم الرعب.
وقت المساء أقبل علينا الحاج عارف لتقسيم غنائم المعارك الماضية، وأخبر أنه يعود إلى برافشه وسيكون الأمير العام علينا الحافظ عبدالقيوم، وأذن لأمير الخط صلاح الدين وبلالاً بالهجوم على الأعداء كلما تيسر لهم.
فاختار الأمير صلاح الدين بعد المشورة ثمانية أفراد من المجاهدين لعملية تلك الليلة، وكان التخطيط أن نشن هجوماً عليهم ليلاً وصباحاً، لإرهابهم وإلجائهم إلى الفرار، لأن الوصول إليهم كان قد أدى إلى شهادة كثير من الإخوة، وطرقهم كانت مغلقة من الإمداد أو الفرار من الحصار.
وكان بلال أعلمنا بهذا المكان وعدد العدو وعدتهم، وكان الأمير صلاح الدين والأمير العام الحافظ عبدالقيوم يستشيرونه في كل خطة.
أظلم الليل وانتبه الفريقان، وتنشط حراس كلا الفريقين، تسللنا في جنح الظلام نحو العدو في حصن “غندي” ونحن مشاة حتى اقتربنا إليهم، وفرّقنا الأمير إلى أربع جماعات، وبعث جماعتين بعيداً عنه وأبقى عنده فريقين، ثم انطلق كل فريق إلى مكانه المحدد، وكنت مع رجل شديد البأس رابط الجأش يدعى (المهاجر) حتى وصلنا لمكان بعيد عن أصحابنا.
كبّر أحد المجاهدين ومزّق سكون الليل الهادئ برشاشه، ونشب القتال بين الفريقين خلال ثوانٍ، وكانت الرشاشات تقذف النيران من أفواهها كأنها نجوم السماء والقنابل كوقع الرعد بل أشد منه، وبدأ عساكر العدو المجاورين يهجمون على ثكناتنا بقنابلهم ورصاصاتهم، فكانت تنطلق القنابل والرصاصات من كل حدب، واستمرت المعركة أكثر من ساعة، فيالهم من رجال جبناء، ولكنهم كما قال تعالى: (لا يقاتلونكم إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر)، وأنى لحزب الشيطان أن يقاوم حزب الرحمان! فعدنا بعدما قضينا في المعركة أكثر من ساعة سالمين حامدين إلى ثكناتنا، ولم نعلم شيئاً عن خسائر العدو.
وفي نهار اليوم الثاني خرجت فئة لنا أخرى، وكنت مأموراً بالمكث في المركز، فذهبوا وشنوا عليهم كما كان في الليلة الماضية وفي هذه الليلة استمرت الحرب أكثر من ساعتين. ثم خرجنا ليلاً لعملية قرب “غندي” إلى سيارة مفخخة منفجرة لنُخرج منها ما نحتاج إليه من الآلات، حيث أن المجاهدين حصلوا على سيارتين مفخختين من العدو قبل أيام في هذا المكان حينما أراد العدو أن يمدّ جيش “غندي”، وبرزوا بموكب عظيم من السيارات المفخخة والمشاة، لكن الله ردهم رداً عنيفاً حين قاوم المجاهدون هؤلاء الأشرار وألجؤوهم إلى الفرار مع ترك هاتين السيارتين.
ولما كان اليوم الثالث، لم نخرج عليهم نهاراً وكنا في انتظارالليل، ولما خيم الليل صحب معه ريحا صرصراً، ووصلتنا أخبار اقتراب العدو إلى الخط، فأرسل الأمير صلاح الدين مجموعة لإغلاق طريق العدو بإعداد القنابل اللوحية، فأتموا عمليتهم وعادوا. ولم نلبث غير قليل حتى نام الجميع بعد ترتيب الحراسة.
وبينما أنا بين النوم واليقظة، إذ سمعت انفجاراً مجلجلاً شق هدوء الليل وأطار نوم النائمين، وكان ذلك داخل “غندي”، فقام الأمير صلاح الدين على الفور واستشار بلالاً، فأشار بلال إلى الهجوم عليهم على الفور، فجاءني الأمير وأمرني أن أرافق عمر فاروق في إغلاق الطريق من جانب الحصن فخرجنا ملبين، وخرج الأمير مع بلال وبعض الأخوة الآخرين تجاه العدو، فإذا هم خامدون لا أثر لهم، فقال بلال: هيا نقتحم “غندي” فإن العدوّ قد فرّ، لكن الأمير توقف ليؤتى بالسيارة المفخخة للمجاهدين، ونحن مازلنا قائمين لإغلاق الطريق، فإذا بالسيارة المفخخة تتجه نحونا، وأخبرني صاحبي أنهم مجاهدون، فشاع خبرالفتح في القرية والأمر لم يتأكد بعد.
حملت الدبابة بعض المجاهدين من الخطّ وتقدمت نحو غندي حتى دخلوها ولم يتعرض لهم عدو كامن ولا خارج، وصاح أحدهم بالتكبير على المخابرة مبشراً أنهم دخلوا “غندي”، وليس ثمة عدو وهم يجمعون الغنائم، فلا تسل عن مدى فرحنا وفرح أهل القرية عند سماع هذا الخبر، وبدأ المجاهدون وعوام المسلمين يحثون السير إلى “غندي” لينظروا هذه الثكنة التي كانت تحت هجوم المجاهدين منذ سنتين، يأتون وهم مشاة وركباناً، ونحن مازلنا ماكثين لإغلاق الطريق امتثالاً لأمر الأمير، والكل يشكر الله على هذا الفتح المقرّر والنصر المؤزر، ويصرخ بالتكبير والتهليل، حتى أذن لنا الأمير بالعود فأسرعنا تجاه “غندي”.
وجدنا الثكنة حصناً حصيناً ومقراً منيعاً، وكانت أقوى بكثير مما كنا نتوقعه لكونها جبلاً منحوتاً وتحفه التلال المصنوعة بالتراب وعليها أسلاك حديدية ثم يحيطه خندق، «وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب».صدق الله العظيم.
أما العساكر الآخرين الذين كانوا حولنا فبدؤوا مع الصبح بإطلاق الرصاصات والقذائف المدفعية كأنهم يبشروننا، وكانوا يطلقون على كل ماشٍ وراكب يغدو نحو “غندي”، فكان المنظر عجيباً حينما كنت مع عمر فاروق على تل لإغلاق الطريق، ونحن نشاهد الذاهبين والآيبين ومعسكر “قلات” يطلق عليهم وهم يفرون يميناً وشمالاً وكذلك أصحاب السيارات والدراجات، وكان المعسكر يطلق بسلاح “دوشكا” إلى مسافة بعيدة. أما “غرغري” فكان يسلم علينا بقذائف المدفعية في ذلك اليوم العظيم، ومن علامة نصر الله أنه قُذف علينا في هذا اليوم أكثر من عشر قذائف ولم تنفجر منها إلا اثنتان أو ثلاث وضاعت البقية ولم تنفجر (إن تنصروا الله ينصركم).
وكانت شهادة بطل موضوعنا وبطل “غندي” بعد فتح “غندي” بشهر وأيام حينما داس قنبلة لوحية قرب “غندي” فانفجرت وخرّ بلال صريعاً يتجرع كأس الشهادة (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه).
يا حواري الخلود *** قد أتاك الشهيد
فافرشي الأرض ورداً *** وامنحيه السعود
بطولات بلال لم تنحصر في خاشرود فحسب، بل شارك في كل معركة نشبت في المدن المجاورة مدة سنتين. ورأيت المجاهدين يقبلون من مدن أخرى ويأخذونه للمعارك، كيف لا وهو ضرار زماننا، فياله من صديق محظوظ! قلما رأت عين الزمان أمثاله. رزقه الله ماكان يتمناه في الجنان. نحسبه كذلك والله حسيبه.