مقالات

فتنة السراء للمجاهد

أبو غلام الله

 

لاغرو بأنّ هناك فخٌ يقع فيه الكثير من النّاس، يقع فيه الصغار والكبار، وحتى القادة المجاهدون والعلماء والفقهاء على حدٍّ سواء، فحين يظنّ الفرد بأنّ الابتلاء يقع في جوانب الضيق والشدة، والمرض والعوز، والخوف والهلع، وظلم السلطان بكل أنواعه؛ فحسب، فإنّ من يظنّ ذلك يقع في وهمٍ كبير، وتشوب رؤيته شوائب تؤدي إلى نتائج وخيمة، فالابتلاء يكون في الضراء والسرّاء على حدٍّ سواء، بل ربما كان في السراء أشدّ وأكثر تأثيرًا، ونتائجه السلبية أعظم وأخطر.

لأنه غير منظور بشكل صريح فهو في خطّ التماس مع المباحات، ويوافق طلب النّفس وهواها في الرّاحة والدّعة فلا يُشعر به، ودليل ذلك قول الصحابي الكريم الثري عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، ونسوق كلامه كدليلٍ لأنّه صاحب ثراء وأموال طائلة، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: ابْتُلِينَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنَا، ثُمَّ ابْتُلِينَا بِالسَّرَّاءِ بَعْدَهُ فَلَمْ نَصْبِرْ. سنن الترمذي

قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) الأعراف / 94 – 95

 

قال الشيخ السعدي (رحمه الله): يقول تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نبي) يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن ما هم فيه من الشر، فلم ينقادوا له: إلا ابتلاهم الله (بالبأساء والضراء) أي: بالفقر والمرض وأنواع البلايا (لعلهم) إذا أصابتهم، أخضعت نفوسهم فتضرعوا إلى الله واستكانوا للحق.

)ثم) إذا لم يفد فيهم، واستمر استكبارهم، وازداد طغيانهم: (بدلنا مكان السيئة الحسنة) فأدرّ عليهم الأرزاق، وعافى أبدانهم، ورفع عنهم البلاء (حتى عفوا) أي: كثروا، وكثرت أرزاقهم وانبسطوا في نعمة الله وفضله، ونسوا ما مر عليهم من البلاء. (وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء) أي: هذه عادة جارية لم تزل موجودة في الأولين واللاحقين، تارة يكونون في سراء، وتارة في ضراء، وتارة في فرح، ومرة في ترح، على حسب تقلبات الزمان وتداول الأيام، وحسبوا أنها ليست للموعظة والتذكير، ولا للاستدراج والنكير. حتى إذا اغتبطوا، وفرحوا بما أوتوا، وكانت الدنيا أسر ما كانت إليهم، أخذناهم بالعذاب (بغتة وهم لا يشعرون).

ويقول عليه الصلاة والسلام: (لأنا في فتنةِ السراءِ أخوفُ عليكم مِن فتنةِ الضراءِ إنكم قد ابتُليتُم بفتنةِ الضراءِ فصبَرتُم وإنَّ الدنيا خضِرةٌ حُلوةٌ). {المطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني}.

فكم رأينا من ابتلي بالشدّة والضراء والعسر، وذاق ما ذاق من جرائمها، لكنه خاض غمارها بنجاح، ورأينا من اقتحم غمار الجهاد حاملا روحه على كفّه، ضاربًا مغريات الدنيا عرض الحائط، غير آبهٍ بذرية ولا بمال ولا جاهٍ، إلا أنه وبعد أن استراح ونكت غبار مقارعة الأعداء، جاءته مغريات الدنيا وابتلي في السراء فصار المال حثيثًا بين يديه، أو استلم إمارة النّاس، عندها نسي ما قدم بالأمس وانجرف معها كأن لم يكن ذلك الفائز في امتحان الضراء الفائز في امتحان الضراء، يقول صلى الله عليه وسلم: (قَالَ: فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُلْهِيَكُمْ كَمَا أَلْهَتْهُمْ). صحيح البخاري

فحذار أخي المجاهد حذار إنْ وفّر الله عليك النِّعم بعد الفتح أو تركت غمار المعارك وظننت أنك أدّيت دورك في القتال والرّباط بأن لا تركن إلى الدنيا وزينتها وزخارفها وحذار من السراء فإن هذا الابتلاء {السراء} هو الصخرة التي تتحطم عندها المسمّيات الكبيرة والعناوين التي بُهر بها الكثير من النّاس سواء كانوا أفرادًا أم جماعات جهادية ودعوية.

فالصبر على فتنة السراء يكون بشكر الله على نعمه، وعدم استعمالها في معصية الله، وعدم الافتتان بالدنيا وما فيها من متاع الغرور، وعدم التنافس عليها، وهو الذي يؤدي إلى نسيان الآخرة، وضياع الحقوق.

روى البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم). قال الحافظ (رحمه الله): فيه أن المنافسة في الدنيا قد تجر إلى هلاك الدين.

وقَالَ اِبْن بَطَّال: “فِيهِ أَنَّ زَهْرَة الدُّنْيَا يَنْبَغِي لِمَنْ فُتِحَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَحْذَر مِنْ سُوء عَاقِبَتهَا وَشَرّ فِتْنَتهَا، فَلَا يَطْمَئِنّ إِلَى زُخْرُفهَا وَلَا يُنَافِس غَيْره فِيهَا” انتهى.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى