فقه الجهاد – الحلقة (13) | من يقاتلون من الكفار
أصناف من يُقاتلون وأحكام قتالهم
(من يُقاتلون من الكفار)
أنواع الكفار عند الفقهاء:
من المقرر في الشريعة الإسلامية أن الكفار وإن اشتركوا في الكفر، فإنهم يختلفون تبعاً لأحوالهم من حيث المحاربة والمسالمة. وبناءً على هذا، قسم الفقهاء الكفار إلى عدة أنواع، وذكروا لكل نوع الأحكام المتعلقة به، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: أنواع الكفار من حيث المذهب:
النوع الأول: اليهود والنصارى والمجوس: وهؤلاء يجب قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون قال تعالى: ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) [التوبة29]. صاغرون أي أذلاء. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في المجوس: “سنوا بهم سنة أهل الكتاب” (رواه البيهقي في سننه)، وقد روى البخاري “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر”.
قال ابن قدامة: ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في هذين القسمين (يعنى أهل الكتاب والمجوس) في قبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم. (ينظر: المغنى: 8/362).
النوع الثاني: من غير أهل الكتاب والمجوس، مثل عبدة الأوثان ومن عبد من استحسن: اختلف الفقهاء في حكهم على مايلي:
1 – عند أبي حنيفة، وهو رواية عن أحمد: تقبل الجزية من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب.
2 – عند مالك: تقبل الجزية من جميع الكفار.
3 – عند الشافعي وأحمد في ظاهر الرواية: لا تقبل منهم الجزية، بل لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل. (ينظر: بدائع الصنائع 8/110-111، والمغنى 8/263 – مختصر خليل 117 وشرحه وحاشية الدسوقي- ورضة الطالبين 10/305 ).
قال ابن القيم رحمه الله: فلما نزلت آية الجزية أخذها صلى الله عليه وسلم من ثلاث طوائف من المجوس واليهود والنصارى، ولم يأخذها من عباد الأصنام، فقيل لا يجوز أخذها من كافر غير هؤلاء ومن دان بدينهم إقتداءً بأخذه وتركه، وقيل بل تؤخذ من أهل الكتاب وغيرهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب، والأول: قول الشافعي -رحمه الله- وأحمد في إحدى روايتيه، والثاني: قول أبي حنيفة، وأحمد -رحمهما الله- في الرواية الأخرى وأصحاب القول الثاني يقولون: إنما لم يأخذها من مشركي العرب لأنها إنما نزل فرضها بعد أن أسلمت دار العرب ولم يبق فيها مشرك فإنها نزلت بعد فتح مكة ودخول العرب في دين الله أفواجاً فلم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوك وكانوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركون لكانوا يلونه وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين، ومن تأمل السير وأيام الإسلام علم أن الأمر كذلك فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ منه لا لأنهم ليسوا من أهلها، قالوا وقد أخذها من المجوس وليس بأهل كتاب، ولا يصح أنه كان لهم كتاب ورُفع، وهو حديث لا يثبت مثله ولا يصح سنده، ولا فرق بين عباد النار وعباد الأصنام، بل عباد الأوثان أقرب حالاً من عباد النار وكان فيهم من التمسك بدين إبراهيم ما لم يكن في عباد النار أعداء إبراهيم الخليل فإذا أخذت منهم الجزية فأخذها من عباد الأصنام أولى، وعلى ذلك تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال: “إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث، فأيهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ثم أمره أن يدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو يقاتلهم”.(ينظر: الزاد: 2/80).
والذي في صحيح مسلم وشرحه أنه يدعوهم إلى الإسلام والهجرة أو الإسلام مع البقاء في بلادهم ويكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله ولا يكون لهم في الفيء نصيب إلا أن يقاتلوا مع المسلمين أو الجزية، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، فيظهر من هذا أن القول الراجح قبول الجزية من جميع كفار العالم اليوم، خاصة أنه لا يوجد الآن مشركون عرب، بل من كان منهم كافراً فهو مرتد أو من أهل الكتاب (ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم: 12: 38).
النوع الثالث: المرتدون: وهؤلاء لا يقرون على الجزية بالإجماع، بل لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل، والخلاف في المرأة المرتدة هل تقتل أم تحبس حتى تسلم أو تسترق، وقتلها قول الجمهور لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من بدّل دينه فاقتلوه”[متفق عليه]. قال ابن حجر: وقتل أبو بكر في خلافته امرأة ارتدت والصحابة متوافرون فلم ينكر أحد عليه، وقد أخرج ذلك كله ابن المنذر، وأخرج الدارقطني أثر أبي بكر من وجه حسن، وأخرج مثله مرفوعاً في قتل المرتدة لكن سنده ضعيف وقد وقع في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له: “أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها” وسنده حسن، وهو نص في موطن النزاع فيجب المصير إليه.(ينظر: الفتح: 12/72).
والقول بالاسترقاق منقول عن علي، فإنه استرق من سبي بني خليفة أم ولده محمد، المعروف بابن الخليفة، قال الخطابي: ثم لم ينقض عهد الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يُسبى.
أما المرتد فلا خلاف في وجوب قتله، والخلاف في استتابته، والراجح عند الجمهور وجوبها وعند البعض استحبابها، وإليه مال البخاري.
هذه الأنواع الثلاثة يلزم قتالهم باتفاق العلماء، وأما الواحد المقدور عليه من الطوائف الثلاثة فقد بينا حكم المرتد والمرتدة، وأما الكفار الأصليون فالرجال الأحرار البالغون يخيّر فيهم الإمام أو أمير الجيش تخيير مصلحة، ويفعل الأحظ لأهل الإسلام من قتل أو من فداء بأسرى مسلمين أو مال أو استرقاق، فإن خفي الأحظ حبسهم حتى يظهر، وقيل لا يسترق وثني وكذا عربي وهذا مرجوح، ولو أسلم أسير عصم دمه وبقى الخيار في الباقي (ينظر: الروضة للنووي). (ينظرللتوسع: فتح الباري 12/267 – روضة الطالبين 10/75 – بدائع الصنائع 4/301 – حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/301 – المغنى 8/125). ويكتفي في هذه الأنواع بذكر الأحكام من دون التعرض إلى التعريفات، لشهرتها، وأما في الأنواع الآتية فستذكر التعريفات أيضاً.
ثانياً: أنواع الكفار من حيث الحرب وغيره:
قال ابن القيم: “الكفار إما أهل حرب، وإما أهل عهد، وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمة، وأهل هُدنة، وأهل أمان، وقد عقد الفقهاء لكل صنف باباً، فقالوا: باب الهدنة، باب الأمان، باب عقد الذمة. ولفظ الذمة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل، وكذلك لفظ الصلح. فإن الذمة من جنس لفظ العهد والعقد، وهكذا لفظ الصلح عام في كل صلح، وهو يتناول صلح المسلمين بعضهم مع بعض، وصلحهم مع الكفار. ولكن صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة، وهؤلاء قد عاهدوا المسلمين على أن يجري عليهم حكم الله ورسوله، إذ هم مقيمون في الدار التي يجري فيها حكم الله ورسوله، بخلاف أهل الهدنة فإنهم صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم، سواء كان الصلح على مال أو غير مال، لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، لكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين. وهؤلاء يسمون أهل العهد وأهل الصلح وأهل الهدنة. وأما المستأمن: فهو الذي يقدم بلاد المسلمين من غير استيطان لها، وهؤلاء أربعة أقسام: رسل، وتجار، ومستجيرون حتى يُعرض عليهم الإسلام والقرآن، فإن شاءوا دخلوا فيه، وإن شاءوا رجعوا إلى بلادهم، وطالبوا حاجة من زيارة أو غيرها. وحكم هؤلاء ألا يهاجروا ولا يقتلوا ولا تؤخذ منهم الجزية وأن يعرض على المستجير منهم الإسلام والقرآن، فإن دخل فيه فذاك، وإن أحب اللحاق بمأمنه ألحق به ولم يعرض له قبل وصوله إليه، فإذا وصل مأمنه عاد حربياً كما كان” (ينظر أحكام أهل الذمة 2/873-874).
وباستقراء ما ذكره الفقهاء يتبين أن الكفار أربعة أنواع: الذميون، والمعاهدون، والمستأمنون، والحربيون. وفيما يلي نبذة موجزة عن تعريف كلّ نوع من هذه الأنواع:
1 – الذميون:
جمع ذمي، والذمي نسبة إلى الذمة، ولها في اللغة عدة معانٍ منها: العقد، والأمان، والكفالة. (ينظر مادة (ذمم) في: لسان العرب، والقاموس المحيط، ومختار الصحاح)
وأما في اصطلاح الفقهاء، فقد اختلفت عبارات القوم في تعريف عقد الذمة:
1 – فعند الحنفية: “عقد على انتهاء القتال مع الكفار، مع التزامهم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات، والرضا منهم بالمقام في دار الإسلام “.(ينظر شرح السير الكبير 1/191)
2 – وعند المالكية: “التزام تقريرهم في دارنا وحمايتهم والذب عنهم بشرط بذل الجزية” (حاشية الدسوقي 2/200-201).
3 – وعند الشافعية: “التزام تقرير غير المسلمين في ديارنا وحمايتهم والذب عنهم، ببذل الجزية والاستسلام من جهتهم”(ينظر الوجيز 2/197).
4 – وعند الحنابلة: “إقرار بعض الكفار على كفره بشرط بذل الجزية، والتزام أحكام الملة” (ينظر كشاف القناع 3/116).
والحاصل من هذه التعريفات أن أهل الذمة هم: (غير المسلمين الذين يقيمون في دار الإسلام إقامة دائمة على أساس بذل الجزية والتزام أحكام الإسلام). (ينظر أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية ص:224).
2 – المعاهَدون:
جمع معاهَد، والمعاهَد (من المفاعلة) نسبة إلى العهد، وله في اللغة معانٍ منها: الأمان، واليمين، والموثق، والذمة، والحفاظ، والوصية، ورعاية الحرمة. (ينظر مادة (عهد) في لسان العرب، والقاموس المحيط ، ومختار الصحاح)
و أما في الاصطلاح، فالعهد:
1 – عند الحنفية: “الصلح على ترك القتال مؤقتاً “. (ينظربدائع الصنائع 7/108).
2 – وعند المالكية:“صلح الحربي مدة ليس هو فيها تحت حكم الإسلام” (ينظر الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2/206).
3 – وعند الشافعية:“مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غيره، سواء فيهم من يُقَرّ على دينه ومن لم يقر” (ينظر مغني المحتاج 6/86)
4 – وعند الحنابلة: “أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة، بعوض وبغير عوض” (ينظرالمغني 9/238).
ومن الملاحظ أن عبارات الفقهاء في تعريف العهد متقاربة، وعلى هذا فيمكن تعريف المعاهد بأنه: (كل حربي يكون بين بلاده وبلاد الإسلام صلح مؤقت على ترك القتال).
و الكافر يكتسب وصف المعاهدة من العهد، وهو الصلح الذي يبرمه ولي أمر المسلمين مع دولة الكفار، فيشمل هذا الصلح كل كافر من الدولة المعاهدة.ويسمّي الفقهاء هذا الصلح: العهد والمعاهدة والهدنة والمهادنة والمسالمة والموادعة.
3 – المستأمَنون:
جمع مستأمَن، ويراد بالمستأمِن (بالكسر) الكافر طالب الأمان، وبالمستأمَن (بالفتح) الذي يعطى الأمان فإذا أعطي الأمان اكتسب هذه الصفة. والأمن أو الأمان في اللغة: معروف، وهو ضد الخوف.( ينظر مادة (أمن) في: لسان العرب، والقاموس المحيط، ومختار الصحاح)
وأما عند الفقهاء:
1 – يعرّف الحنفية والمالكية والشافعية المستأمن بأنه: الحربي إذا دخل دار الإسلام بأمان. (ينظر بدائع الصنائع 7/110، الشرح الكبير 2/182، تحرير ألفاظ التنبيه 1/325)
2 – وعند الحنابلة هو: “الذي يقدم لبلاد المسلمين من غير استيطان لها” (ينظر أحكام أهل الذمة 2/874)
والحاصل مما تقدم من تعريفات المستأمن أنه: (كل حربي يدخل بلاد الإسلام بأمان مؤقت). وبيان ذلك: أن المستأمنين هم غير المسلمين الذين يدخلون دار الإسلام بأمان مؤقت لأمر يقضيه أحدهم ثم ينصرف بانقضائه، دون أن يكون ملتزماً بأحكام الإسلام أو الذمة بعامة. (ينظر أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني 1/586)
4 – الحربيون:
جمع حربي نسبة إلى دار الحرب، ودار الحرب هي أرض الكفار التي ليس بين أهلها وبين المسلمين عهد. (ينظر قضايا فقهية في العلاقات الدولية ص:215)
ولا يشترط في كون أهل دار الحرب حربيين أن يكون هناك حرب قائمة فعلاً بين المسلمين وبين أهل تلك الدار، بل إنه متى ما انتفت موانع القتال من عهد أو ذمة أو أمان فإن الكافر لا يخرج عن كونه حربياً مباح الدم.
وعلى هذا فالمراد بالحربيين كل كافر سوى من تقدم ذكره من محقوني الدماء، أي: (كل كافر لم يدخل في عقد الذمة، ولا يتمتع بأمان المسلمين ولا عهدهم). (ينظر: العناية شرح الهداية 5/441، الكافي في فقه أهل المدينة 1/207-208، الأم 4/176، مجموع فتاوى ابن تيمية 28/502-503)
والأصل في أهل دار الحرب أنهم حربيون مباحوا الدم، يجوز قتالهم متى ما بلغتهم دعوة الإسلام فامتنعوا عنها. (ينظر الفتاوى الهندية 2/193، الأحكام السلطانية للماوردي ص:47)
ويدل على ذلك ما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال:”أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله”( رواه البخاري في كتاب الإيمان، ومسلم في كتاب الإيمان ).
(أحكام قتال الكفّار)
العلة المعتبرة في قتل الكفار:
اختلف الفقهاء في العلة التي من أجلها يُقاتل الكفار، وبناءً على ذلك اختلفوا في استثناء بعض فئات الكفار من عموم القتل، وقد ورد لهم في هذا قولان:
1 – مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية: هو أن العلة في قتل الكفار هي القتال أو إطاقة القتال. (ينظر: العناية شرح الهداية 5/452، بدائع الصنائع 7/101، مواهب الجليل 3 / 351، المغني 9/249)
وقد استدلوا على مذهبهم بما يلي:
1 – قوله تعالى: {وقاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة: 190 ). وجه الاستدلال: أن الآية نصت على قتال الذين يقاتلوننا من الكفار دون غيرهم، وعلى هذا فإن كل من كان من أهل القتال يحل قتله، سواء قاتل أو لم يقاتل، وكل من لم يكن من أهل القتال لا يحل قتله إلا إذا قاتل حقيقة أو معنى بالرأي والطاعة والتحريض، ونحو ذلك. (ينظر بدائع الصنائع 7/101)
ولكن نوقش هذا الاستدلال بأن هذه الآية منسوخة بآيات قتل الكفار عامة. حيث قال الإمام الشافعي: “نزل هذا في أهل مكة وهم كانوا أشد العدو على المسلمين وفُرِض عليهم في قتالهم ما ذكر الله عز وجل. ثم يقال: نُسِخ هذا كلُّه، والنهيُ عن القتال حتى يقاتلوا، والنهيُ عن القتال في الشهر الحرام بقول الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} الآية (البقرة: 193). ونزول هذه الآية بعد فرض الجهاد وهي موضوعة في موضعها” (ينظر الأم 4/169)
وأجيب عن الجمهور بأن الجمع بين الأدلة -على وجه صحيح- متى ما أمكن أولى من القول بالنسخ. وإذا حملنا معنى هذه الآية على أن لا يقاتَل إلا مَن قاتَل، فإن هذا لا يتنافى مع مشروعية قتال الكفار عامة لأن معنى الآية حينئذ: قاتِلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان ونحوهم. (ينظر أحكام القرآن لابن العربي 1/148، تفسير القرطبي 2/34)
قال الطبري بعد أن ساق القولين في الآية: “وأولى هذين القولين بالصواب القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز: [أن ذلك في النساء والذرية ومن لم ينصب لك الحرب منهم]، لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة بغير دلالة على صحة دعواه تحكم، والتحكم لا يعجز عنه أحد…[إلى أن قال:] وأمرهم تعالى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال من نسائهم وذراريهم… فمعنى قوله (ولا تعتدوا) : لا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابين والمجوس”. ويدل على صحة هذا الترجيح في معنى الآية ما سيأتي بيانه من أحاديث النهي عن قتل المرأة ونحوها. (ينظرتفسير الطبري 2/190)
2 – عن رباح بن الربيع- رضي الله عنه – قال: “كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في غزوة، فرأى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلاً، فقال: انظر عَلامَ اجتمع هؤلاء. فجاء فقال: على امرأةٍ قتيلٍ. فقال: ما كانت هذه لتقاتِل”. (رواه أبو داود في كتاب الجهاد، وابن ماجه في كتاب الجهاد). وجه الاستدلال: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (ما كانت هذه لتقاتِل) يفيد تعليل الحكم بهذا الوصف، وأن كل من لا يقاتِل لا يجوز قتله. قال ابن قدامة: “وقد أومأ النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى هذه العلة في المرأة، فقال: ما بال هذه قتلت، وهي لا تقاتِل”(ينظر المغني 9/249).
3 – ومن المعقول: أن هذه العلة –القتال أو إطاقته – هي الأقرب إلى مقاصد الشريعة في فرض الجهاد، وهو إعلاء كلمة الله تعالى، وأن يكون الدين كله لله، بحيث لا تقف أي قوة في وجه الدعوة الإسلامية.
قال ابن تيمية: “وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد، ومقصوده هو أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة فلا يقتل إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله، وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس، ما يحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة: 217 ). أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه” (ينظر السياسة الشرعية / 165 مختصراً).
2- مذهب الشافعي (وهو الأظهر في مذهب الشافعية)، وإليه ذهب ابن حزم الظاهري: أن العلة في قتل الكفار هي الكفر. فيجوز قتل كل كافر، ما لم يدل دليل على استثنائه من هذا الحكم. وهذا نص الشافعي. وقال الإمام الشافعي: “وكل من يحبس نفسه بالترهُّب تركنا قتله اتباعاً لأبي بكر – رضي الله عنه -، وذلك أنه إذا كان لنا أن ندع قتل الرجال المقاتلين بعد المقدرة وقتل الرجال في بعض الحالات لم نكن آثمين بترك الرهبان إن شاء الله تعالى وإنما قلنا هذا تبعاً لا قياساً، ولو أنا زعمنا أنا تركنا قتل الرهبان لأنهم في معنى من لا يقاتل تركنا قتل المرضى حين نغير عليهم، والرهبان، وأهل الجبن، والأحرار، والعبيد، وأهل الصناعات الذين لا يقاتِلون”.
فالشافعي يعلل ترك قتل الرهبان باتباع وصية أبي بكر، لا بالقياس. لأن علة القتل عنده ليست القتال كما ذهب إليه الجمهور. بل إن الحكم عنده معلق بالعلة أو الوصف الذي صرحت به الآيات الآمرة بقتل المشركين -وهو الكفر- فيجوز قتل كل كافر إلا من نهي عن قتله بخصوصه.
ويجدر بالذكر أن اعتبار الشافعي علة الكفر لا يعني جواز قتل كل كافر مطلقاً لعلة الكفر، بل الحكم عنده مقيد بما إذا لم يلتزم الكافر أحكام الإسلام ويعطي الجزية، أما إذا أعطى الجزية فإنه يحرم دمه، كما نص على ذلك الشافعي نفسه في الأم. (ينظرالأم 4/253، و186، مغني المحتاج 6/30، المحلى 5/348.، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1252)
ومن أدلة مذهب الإمام الشافعي وابن حزم ما يلي:
1 – عموم قوله تعالى: { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 5) وجه الاستدلال: قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} عام يفيد قتل سائر المشركين، وأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. وعلى هذا، يُقتَل كل مشرك بوجود علة القتل، وهي الإشراك. ( ينظر المحلى 5/348).
و لكن نوقش هذا الاستدلال بأن الآية عامة، مخصوصة بالآيات والأحاديث التي نهت عن قتل من ليس من أهل القتال من الكفار كالمرأة ونحوها، فبقي تحت اللفظ من كان محارباً أو مستعداً للحرابة، وتبين بهذا أن المراد بالآية: اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم. ويؤيد هذا التخصيص العلة التي أشار إليها النبي – صلى الله عليه وسلم – في النهي عن قتل المرأة، وهي كونها ليست من أهل القتال. (ينظرأحكام القرآن لابن العربي 2/456).
2 – قوله تعالى: { وقاتلوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (التوبة: 36) وجه الاستدلال: أن الله تعالى أمر في الآية بقتال جميع الكفار ولم يستثن أحداً من أصنافهم، فدل على أن وصف الكفر هو مناط الحكم، فعلى هذا يقتل كل كافر من سائر أصناف أهل الشرك إلا من اعتصم منهم بالذمة، وأداء الجزية. (ينظر أحكام القرآن للجصاص 3/163)
و هذا الاستدلال نوقش من وجهين:
1 – عدم التسليم بأن معنى (كافة) في الآية يدل على ما ذكر، بل هو يحتمل أمرين، أحدهما: الأمر بقتال سائر أصناف أهل الشرك. والآخر: الأمر بأن نقاتلهم مجتمعين متعاضدين غير متفرقين. فعلى هذا المعنى يكون المراد من الآية حث المؤمنين على الاجتماع والتعاضد وعدم التفرق حال قتال المشركين.
أجيب بأن: هذا المعنى هو الذي اكتفى بذكره ابن جرير الطبري عند تفسير هذه الآية فقال:”وقاتلوا المشركين بالله أيها المؤمنون جميعاً غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعاً مجتمعين غير متفرقين”
2 – وعلى فرض التسليم بالمعنى الأول – وهو قتال جميع الكفار – فإنه عام مخصوص بأدلة القول الأول الخاصة الدالة على عدم قتل من لا يطيق القتال. (ينظر المصدر السابق. وتفسير الطبري 10/128،شرح منتهى الإرادات 1/624)
3 – عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله”. (تقدم تخريجه). وجه الاستدلال: عموم الحديث يدل على قتال جميع أصناف الكفار دون استثناء حتى يقتلوا أو يسلموا. (ينظر الأم 4/252)
وهذا الاستدلال نوقش بأن عموم الحديث مخصوص بالأدلة الأخرى التي قيدت القتل بمن كان من أهل القتال دون غيره.(1ينظرفتح القدير 5/438)
4 – ومن المعقول، وبيانه ما أشار إليه الشافعي بقوله:”ولو أنا زعمنا أنا تركنا قتل الرهبان لأنهم في معنى من لا يقاتل، تركنا قتل المرضى حين نغير عليهم، والرهبان، وأهل الجُبْن، والأحرار، والعبيد، وأهل الصناعات الذين لا يقاتلون.”(2) (2) الأم 4/254
ومعنى كلامه أنه لو كانت علة القتل هي المقاتلة، للزم من هذا التعليل عدم قتل من لم يباشر القتال ممن يجوز قتله من المطيقين كالجبناء وأهل الصناعات وغيرهم، وهؤلاء لم يقل أحد بقتلهم، مع أنهم لم يقاتلوا.
ونوقش هذا الاستدلال بأنه غير مسلم، لأن مراد الجمهور بأن علة القتل المقاتلة هو إمكان القتال لا مباشرة القتال.
قال ابن رشد: “والسبب الموجب بالجملة لاختلافهم اختلافهم في العلة الموجبة للقتل فمن زعم أن العلة الموجبة لذلك هي الكفر لم يستثن أحداً من المشركين، ومن زعم أن العلة في ذلك إطاقة القتال للنهي عن قتل النساء مع أنهن كفار استثنى من لم يطق القتال ومن لم ينصب نفسه إليه كالفلاح والعسيف” (ينظربداية المجتهد 1/281)
ترجيح الراجح: وبالنظر في أدلة المذهبين وما ورد عليها من مناقشات، يتبين أن القول الراجح في علة قتل الكفار هو قول الجمهور القائلين بأن علة قتل الكفار إطاقة القتال.
وإذا تبين أن هذا الوصف هو مناط الحكم في هذه المسألة، فإننا ننظر في أنواع الكفار، فمن أطاق القتال منهم وتأتّى منه جاز قتله، ومن لم يطق القتال ولم يتأت منه لم يجز قتله. وتحقيقاً لهذا المناط، أذكر فيما يأتي – من الحلقات – أصناف من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله من الكفار. وبالله التوفيق.