مقالات الأعداد السابقة

فقه الجهاد – الحلقة 17: أصناف من يُقاتلون وأحكام قتالهم

متى يجوز قتل من لا يجوز قتله أصلاً من الكفار:

قد تبين مما سبق أن الأصل في المدنيين -الحربيين- أنه لا يجوز قتلهم نظراً لكونهم ليسوا من أهل الممانعة والمقاتلة، لكن هنا حالات خارجة -استثناها الفقهاء- عن أصل الحكم، يجوز فيها قتل المدنيين الحربيين، ومن تلك الحالات ما يلي:

الحالة الرابعة: تترس الحربيين المقاتلين بالحربيين المدنيين

اختلف العلماء في جواز قتل الكفار الحربيين المقاتلين إذا تترسوا بالمدنيين منهم، كالنساء أو الصبيان ونحوهم، على قولين:

القول الأول: جواز رمي الترس من الحربيين المدنيين مطلقاً ولو أدى إلى قتل مدنييهم. وهو قول الحنفية، والحنابلة، والمعتمد عند الشافعية. ومن أدلة هذا القول ما يلي:

1 – مجموع الأدلة المتقدمة في الحالة السابقة (الإغارة والتبييت) فإنها تدل على جواز قتلهم في التترس، إذ المعنى المبيح للقتل ظاهر في الحالتين. ووجه ذلك: أنه متى كان الامتناع عن قتل من لا يجوز قتله يعطل مقصداً من مقاصد الجهاد، كما لو لم يمكن قتل المحاربين إلا بقتل هؤلاء، فإنه يجوز قتلهم تبعاً بحيث يقصد بالرمي المحاربين دون غيرهم.

2 – المعقول، وبيانه من وجهين: أولاً: أنه لو حرم رمي الترس لاتخذ الكفار هذا ذريعة إلى تعطيل الجهاد، أو حيلة إلى استبقاء القلاع لهم، وفي ذلك فساد عظيم. ومن المعلوم أنه متى علم الكفار أنهم سينجون من المسلمين بتترسهم بالنساء والذراري فإنهم سيلجأون إلى هذه الحيلة فلا يتمكن المسلمون من قتالهم ما داموا على ذلك، وفي هذا الأمر مفسدة عظيمة، لأنه يؤدي إلى انقطاع الجهاد. (ينظر: تحفة المحتاج 6/31، و المغني 9/231). وثانياً: أن تحريم رمي الكفار إذا تترسوا بنسائهم وذراريهم إنما هو من باب الاحتياط للنساء والذرية لئلا يؤدي الرمي إلى قتلهم، وجواز رميهم إذا تترسوا إنما هو للاحتياط لنا لئلا يؤدي الامتناع عن رميهم إلى تسلطهم على المسلمين، وتغلبهم على جيشهم، ونكايتهم به، فالاحتياط لدماء المسلمين أولى من الاحتياط لمن لا يجوز قتله من الكفار. (ينظر: تحفة المحتاج 6/31. و ينظر للتوسع: شرح معاني الآثار 3/223، والمغني 9 / 231، وتحفة المحتاج 6/31، أسنى المطالب 4/191، الأحكام السلطانية للماوردي ص:51).

القول الثاني: منع وتحريم رمي الترس من الحربيين المدنيين إلا حال الضرورة. وهو قول المالكية، وخلاف المعتمد عند الشافعية. ومن أدلة هذا القول الثاني ما يلي:

1 – علل المالكية عدم جواز قتل النساء والذراري بالتعليل المتقدم في الحالة السابقة وهو: مراعاة حق الغانمين. قال الخِرَشي: “العدو إذا تترسوا بذراريهم أو بنسائهم بأن جعلوهم ترساً يتقون بهم فإنهم يتركون لحق الغانمين إلا أن يخاف منهم فيقاتلوا حينئذ”. (ينظر: شرح الخرشي على خليل 3/114). ونوقش هذا الاستدلال بما تقدم ذكره، وهو أن حق الغانمين المذكور لا يصح أن يعارض المقصود من الجهاد.

2 – يعلل الشافعية -في القول غير المعتمد- عدم جواز رميهم، بأنه لو جاز رميهم لأدى إلى قتلهم من غير ضرورة وقد نهينا عن قتلهم. (ينظر: تحفة المحتاج 6/31).

ونوقش هذا الاستدلال بأنه لا ريب أننا منهيون عن قتلهم ابتداءً كما تقدم. وأما قتلهم في هذه الحالة فإنه إنما يكون تبعاً، وفي حال لا يمكن التوصل فيه إلى قتل من يجوز قتله إلا بهذا العمل، وبهذا التفريق يمكن الجمع بين نصوص النهي عن قتلهم، والنصوص التي ورد فيها قتلهم كما تقدم (ينظر: شرح معاني الآثار 3/223).

الترجيح: بالنظر في أدلة القولين يتبين أن الراجح -والله أعلم- هو القول الأول القائل بجواز رمي المقاتلين الحربيين حال تترسهم بمدنييهم، بحيث يقصد بالرمي المقاتلين دون المدنيين. نظراً لقوة أدلة هذا القول، وتمشيه مع مقاصد الجهاد في الشريعة. (وينظر للتوسع: شرح الخرشي على خليل 3/114، و تحفة المحتاج 6/31).

الحالة الخامسة: المعاملة بالمثل

صرح عدد من أهل العلم بجواز رد اعتداء المعتدي بمثل اعتدائه، وإن كان ابتداؤه لهذا الفعل غير مشروع.
قال الباجي: “وأما ضرب أوساط رؤوسهم بالسيف فلا يجوز ذلك إلا قبل الأسر لهم في نفس الحرب، وأما بعد أسرهم والتمكن منهم فلا ينبغي أن يمثل بهم ولا يعبث في قتلهم، ولكن تضرب أعناقهم صبراً إلا أن يكونوا قد فعلوا بالمسلمين على وجه التمثيل فيعمل بهم مثله” (ينظر: المنتقى شرح الموطأ 3/168).

وقال ابن تيمية: “فأما التمثيل في القتل فلا يجوز إلا على وجه القصاص، وقد قال عمران بن حصين رضي الله عنهما: ما خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة. حتى الكفار إذا قتلناهم، فإنا لا نمثل بهم بعد القتل، ولا نجدع آذانهم وأنوفهم، ولا نبقر بطونهم إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم ما فعلوا، والترك أفضل” (ينظر: السياسة الشرعية /110).

وقال ابن القيم: “وقد أباح الله تعالى للمسلمين أن يمثلوا بالكفار إذا مثلوا بهم وإن كانت المثلة منهياً عنها، فقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النحل: 126)، وهذا دليل على أن العقوبة بجدع الأنف وقطع الأذن وبقر البطن ونحو ذلك هي عقوبة بالمثل ليست بعدوان، والمثل هو العدل”. (ينظر: حاشية ابن القيم 12/180).

ومن الأدلة على جواز المعاملة بالمثل ما يلي:

1 – قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } (البقرة: 194).

2 – قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى: 39-40).

3 – قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.(النحل: 126) وقد جاء في سبب نزول هذه الآية عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثلوا بهم. فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنُرْبِيَنَّ عليهم. قال: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}. فقال رجل: لا قريش بعد اليوم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : كُفُّوا عن القوم إلا أربعة. (رواه أحمد، والترمذي)

قال القرطبي: “أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد” (ينظر: تفسير القرطبي 10/201).

وقال أبو بكر الجصاص في هذه الآية: “نزول الآية على سبب لا يمنع عندنا اعتبار عمومها في جميع ما انتظمه الاسم، فوجب استعمالها في جميع ما انطوى تحتها”. (ينظر: أحكام القرآن للجصاص 3/286).
وقد اختلف أهل التفسير في الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ واختار الطبري أنها محكمة، وأن الأمر فيها لمن عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عاقب به إن اختار عقوبته، وأن الصبر على ترك عقوبته خير له. (ينظر: تفسير الطبري14:197).

4 – من السنة: ما في الصحيحين عن أنس – رضي الله عنه – : “أن ناساً من عُكَل وعُرَينة قدموا المدينة على النبي – صلى الله عليه وسلم – وتكلموا بالإسلام، فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة (استثقلوها ولم يوافق هواؤها أَبدانهم) فأمر لهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بذَودٍ (الذَّود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل ما بين الثلاث إلى العشر) وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحَرَّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي – صلى الله عليه وسلم – واستاقوا الذود. فبلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – فبعث الطلب في آثارهم، فأمر بهم فسَمَروا أعينهم وقطعوا أيديهم، وتُرِكوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم” ( رواه البخاري).

وعند مسلم عن أنس – رضي الله عنه – قال: “إنما سَمَل النبي – صلى الله عليه وسلم – أعين أولئك (سَمَل أعينهم: أي فَقَأها بحَديدةٍ مُحْماة أو غيرها، وقيل: هو فَقْؤُها بالشوك وهو بمْعنى السَّمْر) لأنهم سملوا أعين الرِّعاء” (رواه مسلم).

وجه الاستدلال: في فعل النبي – صلى الله عليه وسلم – دليل على جواز المماثلة في العقوبة والقصاص، وأن ذلك ليس من المثلة المنهي عنها. ( ينظر: فتح الباري 1/341) وقد يناقش الاستدلال بالأدلة المتقدمة من القرآن والسنة بأنها إنما تفيد معاقبة المعتدي بمثل اعتدائه على وجه لا تتعدى فيه العقوبة إلى غيره، أما قتل المدنيين من الكفار فإن فيه تعدياً على أبرياء معصومي الدم لم يصدر منهم ما يوجب العقوبة، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الإسراء: 15]. ويجاب عنه: بأن النهي عن قتل المدنيين الحربيين لا يعني أن دماءهم معصومة مطلقاً، ولا يخرجهم عن كونهم من الحربيين، وإنما نُهِينا عن القصد إلى قتلهم لكونهم في الغالب ليسوا من أهل الممانعة والمقاتلة، فليس في قتلهم مصلحة للجهاد، والله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق ودفع فتنة الكفر. ( ينظر: السياسة الشرعية / 165 والآية في سورة [ البقرة: 193 ]، وعلى هذا فإنه متى ما ترتب على الكف عن المدنيين إخلال بمقاصد الجهاد، فلا اعتبار للنهي عن قتلهم كما تقدم بيانه في صور الإغارة والتترس ونحوها.

ومن المعلوم في عرف الحروب قديماً، أن الحرب متى نشبت بين طرفين فإن كل طرف بجميع أفراده – ولو كانوا من غير المقاتلين – يكون مستباحاً للطرف الآخر، لأن الحرب قائمة على كسر شوكة العدو، والضغط عليه لإخضاعه والتغلب عليه. هذا هو الأصل في الحرب. إلا أن المحاربين قد يكفون عن التعرض لبعض فئات الطرف الآخر (كالمدنيين)، بحيث يستقر الأمر على الكف عن هذه الفئات، ويصبح عرفاً من الأعراف الحربية بين الأمم. (ينظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية 2/1244).

وبناء على هذه المقدمة الشرعية والعرفية، فإنه لا مانع من قتل المدنيين الحربيين إذا كان قتلهم من باب المعاملة بالمثل ورد الاعتداء، لأن مبدأ المعاملة بالمثل مبدأ متفق عليه بين الأمم، وهو ما أقرته الشريعة إذ هو مقتضى العدل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى