فِقْهُ الْجِهَادِ – الحلقة الثالثة
مراحل تشريع الجهاد : تمهيد:
إعلم أنه لم تختلف الأمة أن أول ما أوحى الله تعلي إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن:( إقرأ باسم ربك الذي خلق ){العلق:1} وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ{المدثر:1-2}. وأنّ الّذي أمر به صلى الله عليه وسلم أوّل الأمر هو التّبليغ والإنذار، والصّبر على أذى الكفّار، والصّفح والإعراض عن المشركين،وبدأ الأمر بالدّعوة سرّاً ثمّ جهراً.
فأقام صلى الله عليه وسلم بضعة عشر سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية وكان يؤمر- مدة إقامته بمكة – بالكف والصبر والصفح، وذالك لأن الجهاد كان محظورا قبل الهجرة غير مأذون فيه لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ولما مضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة من هجرته، أنعم الله فيها على جماعات، باتباعه، حدثت للمسلمين بها، مع عون الله عز وجل ،قوة بالعدد، لم يكن قبلها،ففرض الله عز وجل عليهم، الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضا، وقد مرت علي الجهاد مراحل في تشريعه، فلنذكر هنا بعون الله تعالي تلخيص ما ذكره الأئمة الأعلام من :”تدرّج مشروعيّة الجهاد”.
من ذكر ما أُثر عن العلماء الأعلام في مراحل تشريع الجهاد:
يقول شيخ الإسلام المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله ورعاه:
لا بد للوصول إلي حقيقة الجهاد وأحكامه المذكورة في الكتاب والسنة، من معرفة أن الجهاد قد مرت عليه منذ بداية الإسلام مراحل في تشريعه،ولم يصل إلي حكمه النهائي إلا بعد زمان، وهي أربع مراحل:
فالمرحلة الأولي:
هي الصبر علي أذي المشركين،مع الإستمرار في دعوتهم إلي دين الحق ونهي النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه عن القتال، وهذه اول مرحلة للدعوة الإسلامية و قدتكررت هذه الأحكام في القرآن الكريم مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة،فقال تعالي:فاصدع بماتؤمر و أعرض عن المشركين، وقال:خذ العفو و أمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في هذه المدة :إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا،الحديث أخرجه النسائي……علي شرط البخاري.(وتمامه: عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلي الله عليه وسلم:” فقالوا: يا رسول الله: كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة، فقال إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا “).
ويقول الإمام القرطبي في تفسيره:3:38:((ولم يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم في القتال مدة إقامته بمكة)).
والمرحلة الثانية:
إباحة القتال دون أن يفرض ذالك علي المسلمين، وفي هذه المرحلة نزل قوله تعالي في سورة الحج((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40).
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية:وقال غير واحد من السلف :هذه أول آية نزلت في الجهاد، واستدل بهذه الآية بعضهم علي أن السورة مدنية (43:5)
والمرحلة الثالثة:
فرض الفتال علي المسلمين لمن إبتدأهم بالقتال فقط،دون أى يبتدءوا به ضد أعدائهم، وفي هذه المرحلة نزل قوله تعالي في سورة البقرة(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 190).وقوله تعالي في سورة النساء(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
والمرحلة الرابعة:
قتال جميع الكفار علي إختلاف أديانهم وأجناسهم إبتداءً،وإن لم يبدءوا بقتال المسلمين حتي يسلموا أو يدفعوا الجزية، كسراً لشوكة الكفر، وإعزازاً للدين،و إعلاءً لكلمة الله، وبدأت هذه المرحلة بعد إنقضاء اربعة اشهر من حج العام التاسع الذي ترأسه أبوبكر الصديق رضي الله عنه، وقد وقع إعلان هذه المرحلة في ذالك الحج بلسان سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد ذكره الله مفصلاً في سوة التوبة، وبيها قال تعالي:( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5).وفي نفس السورة يقول تعالي:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29).و يقول تعالي في سورة الأنفال 🙁 وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
وإن هذه المراحل في تشريع الجهاد قد ذكرها كثير من علماء السلف، نذكر أقوالهم مايلي:
قال الإمام الشافعي رحمه الله، في أحكام القرآن :
وأنزل الله ( عز وجل ) فيما يثبته به إذا ضاق من أذاهم { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين }.ففرض عليه إبلاغهم، وعبادته.ولم يفرض عليه قتالهم، وأبان ذلك في غير آية من كتابه،…………….ثم أذن الله ( عز وجل ) لهم بالجهاد…… ثم أذن لهم بأن يبتدئوا المشركين بقتال ؛ قال الله عز وجل : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير }، وأباح لهم القتال، بمعنى أبانه في كتابه ؛ فقال : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم }…….ولما مضت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مدة من هجرته ؛ أنعم الله فيها على جماعات، باتباعه : حدثت لهم بها، مع عون الله ( عز وجل )، قوة : بالعدد ؛ لم يكن قبلها.ففرض الله ( عز وجل ) عليهم، الجهاد بعد إذ كان إباحة لا فرضا.فقال تبارك وتعالى : { كتب عليكم القتال } الآية.
و قال شمس الأئمة السرخسي في المبسوط:
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مأمورا في الابتداء بالصفح والإعراض عن المشركين قال الله تعالى { فاصفح الصفح الجميل } وقال تعالى { وأعرض عن المشركين } ثم أمر بالدعاء إلى الدين بالوعظ والمجادلة بالأحسن فقال تعالى { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } ثم أمر بالقتال إذا كانت البداية منهم فقال تعالى { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } أي أذن لهم في الدفع وقال تعالى { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } وقال تعالى { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } ثم أمر بالبداية بالقتال فقال تعالى { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } وقال تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله } فاستقر الأمر على فرضية الجهاد مع المشركين وهو فرض قائم إلى قيام الساعة قال النبي صلى الله عليه وسلم { الجهاد ماض منذ بعثني الله تعالى إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال } وقال صلى الله عليه وسلم { بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي والذل والصغار على من خالفني ومن تشبه بقوم فهو منهم } وتفسيره منقول عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى قال بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأربعة سيوف سيف قاتل به بنفسه عبدة الأوثان وسيف قاتل به أبو بكر رضي الله تعالى عنه عنه أهل الردة قال الله تعالى { تقاتلونهم أو يسلمون } وسيف قاتل به عمر رضي الله تعالى عنه المجوس وأهل الكتاب قال الله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } الآية وسيف قاتل به علي رضي الله تعالى عنه المارقين والناكثين والقاسطين وهكذا روي عنه قال { أمرت بقتال المارقين والناكثين والقاسطين } قال الله تعالى { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } انتهي بلفظه.
ويقول شيخ الإسلام بن تيمية في : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح:
((…فكان النبي صلى الله عليه و سلم في أول الأمر مأمورا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن (…..) وكان مأمورا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك. ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أذن له في الجهاد ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار.
فلمــــــا فتح الله مكة وانقطع قتال قريش ملوك العرب ووفدت إليه
وفود العرب بالإسلام أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت وأمره بنبذ العهود المطلقة.(نقلاًعن:تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم:3: 8و9)
وقال ابن القيم -رحمه الله:
فصل في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي الله تعالي، أول ما أوحى إليه ربه ( أن يقرأ باسم ربه الذي خلق وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ( ]المدثر:1-2[، فنبأه قومه ثم أنذر من حولهم من العرب ثم أنذر العرب قاطبة ثم أنذر العالمين.
فأقام بضعة عشر سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ويؤمر بالكف والصبر والصفح ثم أذن له في الهجرة وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة، فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفى لهم به ما استقاموا على العهد فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد وأمر أن يقاتل من نقض عهده، ولما نزلت سورة براءة نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها فأمر أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان وأمره فيها بالبراءة من عهود
الكفار ونبذ عهودهم إليهم وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام :-
قسماً: أمره بقتالهم وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له فحاربهم وظهر عليهم. وقسماً: لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
وقسماً: لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه أو كان لهم عهد مطلق فأمر أن يؤجلهم أربعة أشهر فإذا انسلخت قاتلهم إلى أن قال فقاتل الناقض لعهده وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر وأمره أن يتم للموفى بعهده عهده إلى مدته فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام : محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آل حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين : محاربين، وأهل ذمة.
والمحاربون له خائفون منه فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب.. إهـ. (باختصار
من الزاد 81/82).
وقال الإمام ابن عابدين الشامي رحمه الله تعالي:
اعلم أن الأمر بالقتال نزل مرتباً فقد كان صلي الله عليه وسلم ماموراً أولاً بالتبليغ والإعراض :فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين: ثم بالمجادلة بالأحسن :أدع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، الآية :ثم اذن لهم بالقتال:أذن للّذين يقاتلون،الآية:، ثم أمروا بالقتال أن قاتلو هم:فإن قاتلوكم فاقتلوهم:،ثم أمروابه بشرط إنسلاخ الأشهر الحرم:فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين:،ثم أمروا به مطلقاً:وقاتلوا في سبيل الله: واستقر الأمر علي هذا،(سرخسي ملخصاً)،يعني في جميع الأزمان والأماكن سوي الحرم كما في القهستاني عن الكرماني،ثم نقل عن الخانية أن الأفضل أن لايبتدأ به في الأشهر الحرم،أهـ والمراد بقوله سوي الحرم إذا لم يدخلوا فيه للقتال،فلو دخلوه للقتال حلّ قتالهم فيه لقوله تعالي:حتي يقاتلوكم فيه:،وتمامه في شرح السير. ( ردالمحتار3/239)
وقال الإمام أبوبكر الرازي الجصاص الحنفي رحمه الله تعالي،في: أحكام القرآن :
باب فرض الجهاد :قال الله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } قال أبو بكر : لم تختلف الأمة أن القتال كان محظورا قبل الهجرة بقوله : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } وقوله : { فاعف عنهم واصفح } وقوله : { وجادلهم بالتي هي أحسن } وقوله : { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } وقوله : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما }.
وروى عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن { عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له كانت أموالهم بمكة فقالوا : يا رسول الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلاء، فقال عليه السلام : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم } فلما حوله إلى المدينة أمروا بالقتال فكفوا، فأنزل الله : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس}.
وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال : حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله عز وجل : { لست عليهم بمصيطر } وقوله : { وما أنت عليهم بجبار } وقوله: { فاعف عنهم واصفح } وقوله : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } قال : نسخ هذا كله قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله : { صاغرون }.
وفي الموسوعة الفقهية الكويتية:
«تدرّج مشروعيّة الجهاد»: الجهاد مشروع بالإجماع، لقوله تعالى : «كُتِبَ عَليكُم القِتَالُ» إلى غير ذلك من الآيات، ولفعله صلى الله عليه وسلم وأمره به.وأخرج مسلم:من مات ولم يغز،ولم يحدّث به نفسه مات على شعبة من نفاق.
وقد كان الجهاد في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة غير مأذون فيه، لأنّ الّذي أمر به صلى الله عليه وسلم أوّل الأمر هو التّبليغ والإنذار، والصّبر على أذى الكفّار، والصّفح والإعراض عن المشركين، وبدأ الأمر بالدّعوة سرّاً ثمّ جهراً.قال اللّه تعالى : «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ» وقال أيضاً : «ادْعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ والمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُمْ بالَّتِي هي أَحْسَنُ» وقال أيضاً : «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمَرُ وأَعْرِضْ عن المُشْرِكِينَ» ثمّ أذن اللّه بعد ذلك للمسلمين في القتال إذا ابتدأهم الكفّار بالقتال، وكان ذلك في السّنة الثّانية من الهجرة.وذلك في قوله تعالى : «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأنَّهُمْ ظُلِمُوا».
ثمّ شرع اللّه الابتداء بالقتال على الإطلاق بقوله تعالى : «انْفِرُوا خِفَافَاً وثِقَالاً» وقوله : «وقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كَافَّةً» وتسمّى هذه آية السّيف، وقيل : هي قوله تعالى : «فَاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيثُ وَجَدتمُوهُمْ».
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه وحسابه على اللّه». (الموسوعة الفقهية الكويتية، إصطلاح: جهاد)
هل المراحل الأولي منسوخة أو محكمة؟ وعلي ما استقرالأمر في معاملة المسلمين للكفار؟:
يقول شيخ الإسلام المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله ورعاه:
ثم اختلفت عبارات العلماء في تحقيق هذه المراحل، فادعي بعضهم أن كل مرحلة جديدة نسخت حكم ماقبلها، فالمراحل الثلاثة منسوخة اليوم، وإنما الباقية اليوم هي المرحلة الأخيرة، وهي الرابعة فقط.
وخالفهم آخرون فقالوا : إن المراحل الأولي ليست منسوخة، وإنما هي مرتبطة بظروف مخصوصة كلما عادت عادت أحكامها. ومن مقدمة من قال ذالك العلامة البدرالدين الزركشي رحمه الله تعالي، فانه قال : إنه ليس في مراحل الجهد نسخ، بل يعمل فكل مراحله
عند الحالة المشابهة للحالة التي شرعت فيها.
يقول الإمام الزركشي في : البرهان في علوم القرآن:
((قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب … الثالث ما أمر به لسبب ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين لايرجون لقاء الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها ثم نسخه إيجاب لذلك وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسأ كما قال تعالى :(أو ننسئها ) فالمنسأ، هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون. وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف وليست كذلك بل هي من المنسأ بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر وليس بنسخ إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا)). (تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم:3: 8و9)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالي:
فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذى الله ورسوله من الذين أوتو الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الذين، وبآية قتال الذين أوتو الكتاب حتى يعطوه الجزية عن يد وهم صاغرون. (الصارم المسلول علي شاتم الرسول صلي الله عليه وسلم:221).
قال ابن كثير رحمه الله تعالي:
في تفسير قوله تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (الأنفال:61)…وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء والخراساني وعكرمة والحسن وقتادة أن الآية منسوخة بآية السيف في براءة ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ) }التوبة:29{، وفيه نظر لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك فأما إذا كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة وكما فعل النبي صلي الله عليه وسلم يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص،
وفي تفسير القرطبي:
قال ابن العربي: وبهذا يختلف الجواب عنه، وقد قال الله عزوجل: ” فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ” [ محمد: 35 ]. فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة، وجماعة عديدة، وشدة شديدة فلا صلح،….وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون [ به ] إذا احتاجوا إليه.وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم.وقد صالح الضمري, وأكيدر دومة وأهل نجران، وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده.
وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة.
قال القشيري: إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة. وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة. وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين.
قال ابن حجر رحمه الله تعالي في الفتح:
…وأما أصل المسألة فاختلف فيه. فقال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي عن موادعة إمام المسلمين أهل الحرب على مال يؤدونه إليهم فقال : لا يصلح ذلك إلا عن ضرورة كشغل المسلمين عن حربهم. وقال لا بأس أن يصالحهم على غير شيء يؤدونه إليهم كما وقع في الحديبية. وقال الشافعي : إذا ضعف المسلمون عن قتال المشركين جازت لهم مهادنتهم على غير شيء يعطونهم، لأن القتل للمسلمين شهادة، وإن الإسلام أعز من أن يعطى المشركون على أن يكفروا عنهم، إلا في حالة مخافة اصطلام المسلمين لكثرة العدو، لأن ذلك من معاني الضرورات، وكذلك إذا أسر رجل مسلم فلم يطلق إلا بفدية جاز.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالي في المغني:
لا تجوز المهادنة مطلقاً من غير تقدير مدة لأنه يفضى إلى ترك الجهاد بالكلية…………………..
وقال :فصل: وتجوز مهادنتهم على غير مال. ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هادنهم يوم الحديبية على غير مال.ويجوز ذلك على مال يأخذه منهم ؛ فإنها إذا جازت على غير مال، فعلى مال أولى. والله أعلم.
وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم فقد أطلق أحمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي لأن فيه صغاراً على المسلمين وهذا محمول على غير حالة الضرورة فأما إذا دعت إليه الضرورة وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الأسر فيجوز، ولأن بذل المال إن كان فيه صغار فإنه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبى الذرية الذين يفضى سبيلهم إلى كفرهم. (8/ 459 :461)
قال الإمام محمد الشيباني رحمه الله تعالي:
باب الموادعة: وإذا خاف المسلمون المشركين فطلبوا موادعتهم فأبى المشركون أن يودعهم حتى يعطيهم المسلمون على ذلك مالاً فلا بأس بذلك عند تحقق الضرورة.أهـ.( السير الكبير 92/16).
يقول شيخ الإسلام المفتي محمد تقي العثماني حفظه الله ورعاه:
والحقيقة أن هذا الإختلاف لايرجع إلي فرق عملي، وإنما هو إختلاف إصطلاح، فكلهم يقول :إن هذه الأحكام منوطة بظروف مخصوصة، فاحكام الصبر والعفو محكمة في حالة الضعف و العجز، وإباحة القتال في حالة هي فوق الحالة الأولي، و وجوب قتال الدفع في حالة هي فوقها، و وجوب الإبتداء عند ما حصل المسلمون علي قوة يقدرون معها علي ذالك، ولكن الطائفة الأولي تسميه قسماً من النسخ، والزركشي رحمه الله يسميه إنساء، ولايرضي بتسميته نسخاً. (تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم: :3: 8و9).
فمما سبق من النقول يظهر لنا ويتضح :
أن تشريع الجهاد مر بمراحل، و مراحل الجهاد كلهامحكمة،لإتفاق أهل العلم علي أن الأحكام منوطة بظروف مخصوصة، فكلما عادت عادت أحكامها. وأن إختلاف اهل العلم لايرجع إلي فرق عملي، وإنما هو إختلاف إصطلاح، وحمل المراحل الثلاثة الأولي علي الإنساء أولي من النسخ.
وأن لا يختلف العلماء من المذاهب الأربعة وغيرهم على أنه يلزم المسلمين عند القدرة ابتداء الكفار بالقتال ولو لم يقاتلوا المسلمين، وأما مالا قدرة عليه فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهذا هو جهاد الطلب، لأن المرحلة الأخيرة هي التي استقر عليها الأمر في معاملة المسلمين للكفار من جميع الأجناس، أهل الكتاب وغيرهم. والله تعالي أعلم بالصواب.