مقالات الأعداد السابقة

قراءة تحليلية في عملية طالبان الأمنية في قندهار

بقلم أسامة الحلبي

 

مرت أكثر من 17 سنة على غزو أمريكا -بدعم من 42 دولة من حلفائها على رأسهم دول حلف الناتو- لمقبرة الإمبراطوريات أرض الأفغان، ولازالت قوى الاحتلال تبحث عن مخرج للهروب من هزائمها المتكررة على يد قوات المقاومة الجهادية المتمثلة في الطالبان ومن حالفها من الجماعات الجهادية العابرة للحدود.

فلا تكاد تمر ساعة إلا وهناك عمليات عسكرية ضد المحتل وأدواته في المنطقة على امتداد التراب الأفغاني، وتتنوع هذه العمليات لتشمل كل الأساليب القتالية المتعارف عليها في الحروب، جبهات متحركة وثابتة وحروب عصابات بكل أشكالها وتشعباتها والأهم من هذا وذاك الحروب الأمنية المعقدة، وكل هذه الأساليب لا تخلو من لمسة إبداعية أفغانية تتجلى فيها العبقرية العسكرية الفذة والنضج السياسي المتزن، هذه اللمسة التي نمت وترعرعت من خلال عقود من الحروب ضد أعتى الإمبراطوريات الغازية (بريطانيا العظمى – الاتحاد السوفياتي – أمريكا وحلف الناتو..)، التي خرجت وستخرج وهي تجر أذيال الهزيمة، بعد أن استنفدت كل قواها الغاشمة المدمرة والتي تكسرت أمام صمود وثبات أجيال من مجاهدي جبال الهندكوش وصحاري قندهار وهلمند وغابات كنر ونورستان وسهول غزنة وخوست ومن حالفهم من النزاع من القبائل.

 

وسنحاول في هذه الإطلالة التحليلية السريعة الإحاطة بإحدى العمليات النوعية والمعقدة والتي تندرج في خانة الحروب الأمنية، فخلال الأسبوع الماضي شهدت العاصمة التاريخية للإمارة الإسلامية قندهار مجزرة في صفوف القيادات العسكرية للتحالف الأمريكي والحكومة الموالية للاحتلال، قتل وأصيب على إثرها العشرات من جنرالات العدو، وضع خطا عريضا على كلمة جنرالات، ففي اجتماع أمني رفيع المستوى ضم معظم القيادات العسكرية والأمنية الامريكية والأفغانية قام شاب أفغاني (طالب بلغة مجاهدي الإمارة الإسلامية) في العشرينيات من عمره بتفريغ ما في جعبته من رصاص وقنابل في رؤوس وصدور جنرالات العدو، نجم عن هذه العملية وحسب تصريحات العدو الآتي:

 

مقتل الجنرال عبد الرزاق، وهذا السفاح شارك الأمريكان في محاربة الإمارة الإسلامية من بداية الغزو الأمريكي في 2001، وترقى في سلم العمالة ليصبح رجل أمريكا الأول في المنطقة، وقد سهرت دوائر الأمن والاستخبارات الأمريكية على إعداده وتكوينه طيلة 17 سنة الماضية، وكان من المنتظر أن يحكم أفغانستان في المرحلة المقبلة فهو ينتمي لعرقية البشتو وابن قبيلة كبيرة ومهمة هي قبيلة “ اچکزی” التي تتمركز في الحدود الجنوبية مع باكستان، وهو من سلالة أمراء الحرب الذين طغوا في البلاد بعد هزيمة الروس في القرن الماضي، فأبوه وعمه كانا من أمراء الحرب الذي انتفضت عليهم حركة الطلبان وقد قتلا في معركة التطهير التي قادتها الحركة، أما عبد الرزاق فقد استطاع الفرار إلى باكستان إلى أن جاء غزو التحالف الأمريكي فوجدت فيه قوى الاحتلال ضالتها المنشودة وكلفته مع شخصيات أخرى بقيادة المعاركة ضد حركة طالبان وحلفائها في القاعدة في معارك قندهار الشهيرة، ومن يومها والرجل يترقى في المناصب وهو يبرز مواهبه الإجرامية في التنكيل بعوام المسلمين قبل مجاهديهم حتى أصبحت رائحة جرائمه تزكم الأنوف، فلم تجد الهيئات الصورية للأمم المتحدة المتخصصة بدا من ذر بعض الرماد على العيون بكتابة بعض التقارير التي لا تساوي الحبر الذي كتبت به تندد فيها بجرائم رجل أمريكا الأول في المنطقة، لكن سيف الإمارة الإسلامية كان له بالمرصاد وأراح البلاد والعباد من شره.

 

إصابة الجنرال الأمريكي جيفري سمايلي قائد قوات التحالف في الجنوب إصابات بليغة نُقل على إثرها للعلاج في ألمانيا، لكن المثير للانتباه أن الناطق الرسمي باسم الحلف الأطلسي (الناتو) لم يعلن عن إصابة جنراله القادم الجديد لأفغانستان إلا بعد مرور أيام على إصابته، وهذا التأخير في الإعلان عن إصابة هذا الجنرال يدفعنا للشك في مصير جنرال أكبر منه وهو قائد القوات التحالف في أفغانستان الجنرال أوستن سكوت ميلر الذي لم يظهر بشكل علني منذ وقت الهجوم على الاجتماع الذي كان مشاركا فيه، وهذا ما يزيد الشكوك في إمكانية إصابته وعدم رغبة قوات التحالف الأمريكي الاعتراف بذلك في الوقت الراهن، وما تسرب في الصحافة الأمريكية عن الجنرال ميلر يزيد من هذه الشكوك حيث جاء في تقرير ل سي إن إن حول العملية:” القائد الأعلى للقوات الأمريكية وحلف الناتو في أفغانستان اضطر لسحب سلاحه الجانبي خلال الهجوم الذي استهدف اجتماع قندهار، ومن النادر جدا أن يقوم جنرال بذلك حتى أن المسؤولين العسكريين الأمريكيين صرحوا أنهم لا يستطيعون حاليا تذكر قضية مماثلة”، والحقيقة أن استهداف مثل هذا الجمع من القيادات الأمريكية لم يتكرر إلا حين أُستهدف البنتاجون في أحداث 11 من سبتمبر الشهيرة.

 

إصابة العديد من الجنود والمتعاقدين الأمريكيين، وهنا نفتح قوسا للتنبيه على أمر في غاية الأهمية، وهو أن الأمريكان قانونيا غير مجبرين إلا بالإعلان عن الخسائر البشرية في صفوف العسكريين الرسميين فقط، أما رجال المخابرات بكل أنواعها وعلى رأسها سي أي إي وكذلك المنتسبين للشركات الأمنية فإن في عقود عملهم بندا ينص على أنه لن يعلن عن مقتلهم خلال العمليات العسكرية، ولك أن تتخيل كم سيضم مثل هذا الاجتماع العالي المستوى من أعداد هؤلاء.

 

مقتل حاكم ولاية قندهار زلماي ويسا والجنرال عبد المؤمن رئيس الاستخبارات بقندهار والجنرال نبي إلهام قائد شرطة المنطقة الجنوبية وغيرهم من القيادات الأمنية والعسكرية والسياسية للحكومة الأفغانية المعينة من المحتل الأمريكي لتشكل هذه الخسائر ضربة قاصمة لمشاريع أمريكا ليس في أفغانستان فقط بل والمنطقة كلها، لما تمثله هذه القيادات من ثقل قبلي وسياسي.

 

هذا بخصوص بعض الخسائر العسكرية التي مني بها التحالف الأمريكي وعملائه في المنطقة، أما التداعيات السياسية فلا تقل أهمية عن العسكرية ويمكن إجمال بعضها في النقاط التالية:

■ اختيار توقيت العملية ليكون بين حدثين سياسيين بارزين فقد تمت العملية بعد أيام قليلة من أول لقاء لممثلي الإمارة الإسلامية بالمسؤولين الأمريكان الذين رضخوا في النهاية وقبلوا بالتفاوض المباشر، وهذا في حد ذاته مؤشر كبير على اعتراف الأمريكان بهزيمتهم في أفغانستان وبحثهم عن مخرج من المستنقع الأفغاني، فقد كانوا طيلة السنوات الماضية مصرين على أن التفاوض يجب أن يكون بين الإمارة الإسلامية والحكومة المعينة من المحتل، لكن الطالبان كانوا يرفضون ذلك ويصرون على أن مشكلتهم مع العدو المحتل الذي يجب أن يغادر آخر جندي له التراب الأفغاني وأن يكون البديل حكما إسلاميا يطبق الشريعة الإسلامية، أما حكومة كابل فلا تملك من أمرها شيئا ليجلسوا معها على طاولة المحتل، وقد اثبتت التجارب السابقة في حروب التحرير أن العدو المحتل لا يرضخ للجلوس للتفاوض إلا إذا أحس بالهزيمة وشعر بقرب الانهيار الشامل لعملائه في المنطقة، وجاءت هذه العملية النوعية والمعقدة لترسل لأمريكا رسالة في غاية الوضوح أنه عليكم الرضوخ لمطالب المفاوض الطالباني والانسحاب سريعا، لأنه ليس فقط جنودكم الذين ليسوا في مأمن من ضربات المجاهدين بل إن أعلى قياداتكم من جنرالاتكم من أصحاب النجوم الأربع والثلاثة وكبار العملاء الأفغان الذين تعتمدون عليهم في بغيكم وبطشكم بالشعب الأفغاني ومجاهديه هم في مرمى عمليات جنود الإمارة الإسلامية كذلك، رسالة مفادها قد أعذر من أنذر والقادم أدهى وأمر، أما الحدث الثاني فقد كان الانتخابات البرلمانية التي يحاول المحتل أن يفرض من خلالها أجنداته السياسية ويزرع من خلالها الفتن والصراعات على النفوذ بين القبائل الأفغانية، فكان لهذه العملية قبل يومين من الانتخابات مفعول الرقية التي تبطل السحر، فقد عرفت مسرحية الانتخابات إقبالا ضعيفا جدا، وألغيت في معظم المناطق وتم تأجيلها في قندهار لتجاوز الصدمة التي تسببت فيها العملية واضطر المحتل لإرسال أكثر من ستة آلاف جندي لقندهار لعله يحظى ببعض الصور لبعض المنتخبين المضطرين للمشاركة من أقارب المسؤولين الأفغان في المنطقة، لتشهد مسرحية الانتخابات أكبر انتكاسة لها منذ الغزو الأمريكي في 2001.

■ بعد العمليات بساعات اضطرت أهم القيادات السياسة والعسكرية في أمريكا للتصريحات الإعلامية محاولة التخفيف من أثار العملية المدمر على قواتها المحتلة وحلفائها، حيث صرح وزير الدفاع الأمريكي الكلب المسعور :”بأن الوقت ما زال مبكرا لمعرفة ما إذا كان هذا الهجوم سينعكس على نسبة المشاركة في الانتخابات” ولكن ما تخوف منه الكلب المسعور هو ما جرى على أرض الواقع فقد شهدت الانتخابات إقبالا ضعيفا جدا وبل ولم تعقد هذه الانتخابات في معظم التراب الأفغاني، ليس فقط في المناطق التي تحت سيطرة الطالبان بل وفي المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المحمية من المحتل، والصور التي حاول الترويج لها المحتل صورت في المناطق الأمنية في كابل وغيرها من المدن المحتلة، كما أضاف وزير الدفاع الأمريكي “أن أفغانستان خسرت وطنيا (عميلا كبيرا) لكن لا أعتقد أن ذلك سيترك أثرا على المدى البعيد في المنطقة” والحقيقة المرة التي تستشف من هذا التصريح هو ما سبق الإشارة له أن هذه العملية ستكون لها أثار بعيدة المدى ليس في أفغانستان فقط بل في كل المنطقة، وستدفع الأمريكان لإعادة النظر في سياستهم فقد أصبح هرم مسؤوليهم في خطر، أما وزير الخارجية المحافظ المتطرف فقد صرح:” بأن هجوم قندهار يتعارض مع تطلعات الشعب الأفغاني في الاستقرار” لكن حقيقة الأمر أن هذا الهجوم قرب الشعب الأفغاني من الاستقلال وتحرير بلاده من المحتل وإعادة الإسلام ليحكم من جديد بلاد الأفغان التي لم ترض بغيره نظاما منذ أن فتحها الصحابة الكرام.

■ اتخذت القيادة الأمريكية قرارا يوضح النكسة التي دخلها المحتل بعد هذه العملية، حيث تقرر أن تتم جميع اتصالات مسؤوليها الكبار والصغار مع نظرائهم الأفغان بطريق المراسلة والاتصالات السلكية ولاسلكية والتوقف التام عن التواصل المباشر، وهذا القرار يذكرني بما قرأته في وثائق أبوت أباد حيث اضطرت قيادات المجاهدين بعد اشتداد الاستهداف بالطائرات بدون طيار لاستعمال المراسلة في إدارة أعمالهم، فسبحان مبدل الأحوال، وكما تدين تدان.

الحقيقة أن تداعيات هذه العملية النوعية كثيرة ومعقدة تعقيد العملية نفسها ومن الصعب الإحاطة بكل جوانبها في هذه الإطلالة السريعة لكن أحب أن أشير إلى نقطتين أخيرتين:

■ إن هذه العملية النوعية تبرز القدرة الكبيرة على الاختراق الأمني لقوات الإمارة الإسلامية في صفوف قوات الاحتلال ووكلائهم في المنطقة وقد تكررت هذه العمليات مرارا وتكرارا، وهذا يبرز كذلك النجاح الكبير للطالبان في مواجهة الأساليب الناعمة التي يمارسها المحتل، فالشاب الطالب الذي نجح في اختراق صفوف العدو احتاج لعدة سنوات ليصل لهدفه، ولا يخفى ما يتطلبه مثل هذا العمل من صبر ورباطة جأش ومرونة عالية… حقيقة يعجز المرء عن تصور مدى ما تتطلبه العملية من قدرات ذهنية ونفسية وإيمانية، لكنهم الأفغان الذين تربوا على الحروب منذ نعومة أظافرهم…ولا يفوتنا هنا أن نتذكر العملية النوعية التي قام بها حلفاء الطالبان في القاعدة ونفذها الدكتور همام البلوي وقتل وجرح العشرات من القيادات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى