لبيك اللهم لبيك
بقلم: عرفان بلخي
كلما تجدد موسم الحج أتذكر تلك الأطياف الخالدة التي كنت فيها مع ركب الحجيج، فقد وفقنا الله مراراً لهذا العمل الجليل الجهاد الذي لا قتال فيه. إن الحج موسم عبادة تصفو فيها الأرواح، وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام، وهي ترفرف حول هذا البيت وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترف كالأطياف من قريب ومن بعيد.
يُقال إن مناسبة الحج من أعظم المناسبات التي هيأها الله لعباده، ومن أكرم الفرص التي تأتلف فيها منافع المسلمين وتجتمع فيها مصالحهم، فالمسلمون من أقاصي الدنيا يأتون للبيت الحرام لغرض واحد هو أداء فريضة الحج، وهذا الاتحاد في الغرض يوحي بالألفة ويوقظ في النفوس الشعور بأخوة الاسلام تلك الأخوة التي تربط الأبيض بالأسود والغني بالفقير والسيد بالمسود دون فارق أو تفضيل، فحينما يلتفّ المسلمون حول بيت الله لا يكون لهم شعار إلا كلمة الإخلاص وشهادة الحق “لا إله إلا الله” التي توحي بالتحرر المطلق التحرر من تأليه غير الله كائناً من كان، ويبدوا هذا التحرر جلياً في كل مواقف الحج.
إن الحج مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة. مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ عهد أبيهم إبراهيم الخليل ويجدون محورهم الذي يجمعهم جميعا إليه :هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعاً ويلتقون عليها جميعاً ويجدون رايتهم التي يفيؤون إليها، راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حينا، قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد، راية العقيدة والتوحيد.
ولو نظرت إلى الحجاج وهم مجتمعون على جبل عرفات بملابس الإحرام الموحدة المظهر فسترى أن الشعوب والقوميات تنصهر في بوتقة واحدة، جامعة، لتكتشف أن الحج أكبر مظاهرة اجتماعية منظمة لا تجد لها مثالا في أي مكان آخر من العالم، فالحاج عندما يأتي إلى هذه الديار المقدسة فإنما يستشعر نفسه كعضو في جسد أكبر فرد في أمة كبيرة مترامية الأطراف، أمة لا تعرف التقسيمات السياسية، ولا الحدود الجغرافية، فحين يطوف الحاج مع إخوانه المسلمين من شتى بقاع العالم بالكعبة المشرفة، وحين يقف في عرفات، ويبيت في منى ومزدلفة فإنما يحس بارتباطه العضوي بهذه الأمة الإسلامية على اختلاف الألوان والأجناس والثقافات واللغات بينها.
تأتي مدرسة الحج لتزيل العزلة الشعورية التي يعيشها المسلمون حيال قضاياهم ومشاكلهم وآمالهم وآلامهم، وتبدد الحصار والتعتيم الإعلامي المفروض على المسلمين. يأتي الحج فيلتقي المسلم بإخوانه المسلمين من جميع بقاع الأرض يعايشهم ويتحسس أخبارهم ويشاركهم همومهم وأفراحهم وأتراحهم فينقلها إلى إخوانه المسلمين فيتجاوبون معها هماً وأرقاً ويسعون جاهدين لنجدة إخوانهم ومدّ يد العون لهم.
أمر الله باني البيت عليه السلام إذا فرغ من إقامته على الأساس الذي كلف به أن يؤذن في الناس بالحج ؛ وأن يدعوهم إلى بيت الله الحرام، ووعده أن يلبي الناس دعوته، فيتقاطرون على البيت من كل فج، رجالا يسعون على أقدامهم، وركوبا (على كل ضامر) جهده السير فضمر من الجهد والجوع، وما يزال وعد الله يتحقق منذ عهد إبراهيم -عليه السلام- إلى اليوم والغد، ولله درّ الشاعر حيث قال:
والطائفون كأمـواج البحار وهـم مابين باكٍ على ذنب ومبتســم
في ساحة البيت والأبصار شاخصة كأنمـــا هي أطياف من الحــلم
وكم توصّل محـــــروم فبلّغــــه رب الحجيج أماني الروح والنعم
وكم تنفس مظلــــوم بحرقتــــه وكــم اقيل عظيم الذنــب واللمم
ولا تزال أفئدة الناس تهوي إلى البيت الحرام وتحن إلى رؤيته والطواف به، سواء في ذلك الغني القادر الذي يجد الظهر يركبه ووسيلة الركوب المختلفة تنقله، والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه، وعشرات الألوف من هؤلاء يتقاطرون من فجاج الأرض البعيدة تلبية لدعوة الله التي أذن بها إبراهيم – عليه السلام – منذ آلاف الأعوام ليقفون على صعيد طيب طاهر مبارك.
قف يا لبيب العقل في عرفاتِ كم فيه من عبرٍ، ومن آياتِ!
المؤمنون بكل أرضٍ روحُهمْ تهفو إليه على مدى الساعاتِ
ويرون رؤيتهُ نعيمَ حياتهمْ مهما رأوا فيها من الإعناتِ
جناتُ عدنٍ خلفَ حرِّ رمالِه تدعو أخــــا الإيمان للجنَّاتِ
والروح في عرفاتِ تلقى روحها والذّاتُ عند البيتِ غيرُ الذاتِ
فهناك في عرفات أمنيةُ المنى وهنا بمكة غايةُ الغايـــــاتِ
كان الرسول الأعظم في عرفات يقوم بأداء نسك الحج، حجة الوداع، ولعل أحد أسباب تسمية حجة رسول الله بحجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد هذه الحجة واحد وثمانين يوماً فقط حسبما تفيد أكثر الروايات، كما أن الإيحاءات المستفادة من خطابه التاريخي يوم عرفة من تلك الحجة كانت تعطي نفس السبب.
حج رسول الله صلى الله عليه وسلم و خطب خطبته التاريخية العظيمة الحافلة التي قرر فيها قواعد الاسلام وأحكام الدين وأتى على قواعد الشرك وبقايا الجاهلية ودعا إلى تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وأوصى بالنساء خيراً وذكر ما لهن وما عليهن من حقوق.
وتأتي هذه الحجة بعد انتهاء العهود مع المشركين وبعد أن أمر الله نبيه بتطهير بيته من رجسهم وإبعادهم عنه ومنعهم من دخوله منعاً باتاً أبدياً، {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}. فللتوحيد أقيم هذا البيت منذ أول لحظة. عرّف الله مكانه لإبراهيم – عليه السلام – وملّكه أمره ليقيمه على هذا الأساس: {ألا تشرك بي شيئا} فهو بيت الله وحده دون سواه، وليطهّره للحجيج، والقائمين فيه للصلاة فهؤلاء هم الذين أنشئ البيت لهم، لا لمن يشركون بالله، ويتوجهون بالعبادة إلى سواه.
هاهو شهر ذي حجة الحرام يمرّ وتمرّ بنا معه ذكريات حجة الوداع المباركة، ومعانيها العطرة، وأطيافها الخالدة، كما تمّر بالأمة الاسلامية وأرواح أبنائها الأبرياء تزهق في كل مكان بغير حق. وتمرّ بنا هذه الذكريات المقدسة وبلادنا تئن تحت وطأة الاحتلال الأمريكي، وقد مسّت أبناء شعبنا الأبي البأساء والضراء فزلزلوا، وإنهم ينادون الأمة الإسلامية لاسيما الذين شاركوا في موسم الحج نداء عبد الله بن مبارك لما كتب إلى القاضي عياض رحمهما الله وقال:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خدّه بدموعه فــنحورنا بدمائنـــا تتخضب
إن ابناء شعبنا المناضلين ينادون الأمة الاسلامية ويذكّرونها بأن هذا الشعب تحمّل أفظع أنواع التعذيب، وأبشع أشكال القتل والدمار، ورأى المجازر الجماعية والإبادة الكاملة؛ لأن أعداء الله لا يعرفون معنى الرحمة، ولا يرعوون من وازع دين أو ضمير، لكن للأسف: هان على النظارة ما يمرّ بظهر المجلود! وعلى غرار قول الشاعر:
كأن لم تكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر!
وهذا أمر لا يُقرّه الإسلام فإن الإسلام يحرص ويِؤكد على ضرورة الشعور بالأخوة الإسلامية، والناظر في كثير من شعائر الإسلام يجدها رباطاً قوياً ووشاجاً متيناً يدعم أخوة الإسلام وأبرز وأوضح مايكون هذا في موسم الحج.
يا أمة الإسلام أدركوا إخوانكم المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها من فلسطين وبورما وسوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن، ادعوا لهم بالفرج القريب، لاسيما لإخوانكم في أفغانستان المسلمة الصامدة. ادعوا لهم بالنصر في مواطن الإجابة على صعيد عرفات الطاهر ومزدلفة والمشعرالحرام والملتزم لعل الله يتقبل دعواتكم وينصر عباده المؤمنين عاجلاً. والله ولي ذلك وهو القادر عليه.