
لحظات مع البطل عبد الصبور!
الكاتب: أنس حقاني
تعريب: سيف الله الهروي
أسوء أنواع العنابر في سجن باغرام، كانت عنبر «شوالفا»، التي كانت معروفة
بأسوء أنواع التعذيبات، وكان السجناء يتعرضون فيه للتعذيب، والسجناء الذين
كانوا ينقصون قوانين العامة حسب تعبيرهم يحبسون لمدة خمسة إلى خمسة عشر يوما في هذا، ويتعرضون للعقوبة، ولم يكن لأحد أن يراهم حسب قانونهم، فكانوا يمكثون هناك لأشهر أو سنين إلى أجل غير معلوم، كنت أنا والحافظ عبد الرشيد من ضمن القلائل الذين ننتظر لمغادرة هذا العنبر الإشعار الثاني.
هذا العنبر كان معروفا بعنبر« شو جزایی»، وكانت له ساحة كبيرة فيها أربع وستون
حماما، طول كل من الحمامات خمسة عشر ذراعا، وعرضها عشرة أذرع، هذه الحمامات كانت غرف السكن، وفي زاوية أخری كانت للوضوء وقضاء الحاجة، وزاوية منه كانت للصلاة، والتلاوة، وقد ثبت سقف الحمام بنافذة منيعة، یحرس عليها الحارسون ليلا ونهارا، ولا يتركون سجينا ينام، لأن النوم كان ممنوعا في هذا العنبر.
کان أحد الحراس يجرّ سلسلة كبيرة فوق هذا السقف(القفص) کل يوم باستمرار، والعنبر كان مبنيا من قطعات حديدية، لذلك کانت تثير صوتا سيئا لا یمکن تحمله، وفی الدهاليز كان الجنود يمشون وبأيديهم قضبان من الحديد يضربون بها أبواب الزنازين، فكانت الأصوات تأتي من كل جانب تسلب النوم من السجناء.
کان الجنود ينزلون مرّة أو مرّتين مع الضابط كل يوم، وإذا دخلوا حماما، أوثقوا السجين من يديه ورجليه، فكانوا يضربونه بکابلات السجن بحيث يرتفع صراخهم، ويصل من عنبر في السجن إلی عنبر آخر، وكل کان يزعم في نفسه أنّ دوره قادم لا محالة.
هناك لم يكن احترام لصوم ولا لرمضان، ولا لعيد، ولا يُرحم شيخ ولا مريض ولا طفل.
كان السجناء يواجهون هذه التعذيبات حتما، إلا إذا كان الضابط شخصا جيدا، فكان السجناء فی راحة عنده، ولا یترك عند سجين أكثر من بطانية، والكثير من السجناء كانوا يضعون المصحف فوق صحن الطعام، كنت في السجن وحیدا منذ يوم الوقت،
وفي هذا العنبر كنت وحيدا أيضا، لکن نداء السجناء يصل إلی بعضهم. بل کان بإمكانهم التکلم مع بعضهم، وحينما كانت الأصوات كثيرة، كان يعدّ هذا الأمر جريمة، أكثر السجناء كانوا يقضون عشرة أيام في هذا العنبر ثم ينقلون إلی عنابرهم.
وحينما يؤتی بسجين إلی عنبرنا كنا نسأله بهمس: من أي عنبر أتوا بكم؟ سياسي أو جنائي؟ من أي ولاية؟ هل التقيتم بأقاربكم؟ هل لديكم علم بسائر السجناء؟ كيف الوضع خارج السجن؟ احك لنا قصصا جدیدة. كنا نسأل مثل هذه الأسئلة. لم نکن نطلع علی أحوال العالم، فكنا نسأل السجناء، لكن معلومات السجناء كانت قائمة علی الإشاعات وليست الحقائق، وربما لأجل تقوية معنوية السجناء يذكر لهم أقاربهم إشاعات لم تكن صحيحة، كتب لي محمود أحد السجناء الشاعرين فی قصيدة شعرية:
[مکړه د بګرام پوښتنه مه کوهیو پکې دروغ او بل ویښته ډیر دي]
لا تسألوا عن سجن باغرام، فيه الكذب، وفيه الشَعر الكثير، فكان يسقط شعر كثير، وتمتلأ الغرفة به، یبدو أن الشاعر شعر بالكثير من الشعر، فكان نظري علی الحمام القريب حتی أشعر من يدخل فيه، إلی أن جاؤوا في آخر الليل بسجين کان معه ضابط
وجنود، فکانوا یسألونه، لم أفهم شيئا من كلامهم. لم تکن مع السجين بطانية ولا شيء يغطي نفسه، فجلس علی الأرض الباردة، فقال له الجنود اتصلنا بقسم الاستعدادات، يأتون معهم ببطانية، فعلمت أنه سجين جديد، وکنت توقعت أنه جيء به من جانب الأمن، لأنه ليست معه بطانية، جاء أحدهم ببطانية بعد مدة فشكره، طلب المصحف مرارا، فقالوا: لا.
لما صليت الفجر، غادر جندي اللیل، وأتی جندي النهار، وكان المشرف علی جنود السجن من ولاية بغلان، وكان صديقا لي، جاء أكثر من مرة، لكنه لم يتكلم، فقال في النهاية الذي جاء من جانب الأمن يحتمل أن يكون جاسوسا، يسمع كلامنا، فذهب إليه وسأله:
من أنت؟ ومتی اعتقلت؟ فقال أنا من منطقة سالنغ، واعتقلت أمس.
ما ذنبك؟
قبل أربع سنوات قتلت الأمريكيين في الوزارة الداخلية، كنت ضابطا آنذاك.
فقال الضابط: ألست عبد الصبور سالنغي الذي كنت تتكلم في التلفيزيون أمس؟ فقال في الجواب: نعم أنا ذاك.
فنادی الضابط جميع الجنود، أن تعالوا إلی هنا، فقال للجميع: هذا هو ذلك الشخص، جلس الجميع علی سقف العنبر یسألونه، فكان يقولُ الجميع: كيف فعلت هذا؟
کان الغازي عبد الصبور رجلا غيورا، فكان يجيب باطمئنان وهدوء، و يتحدث بغیرة وشهامة، فكان يفتخر بدين الله، فقال: کان دينی ووجداني لا يأذنان لي أن أشهد ما يغاير غيرتي، إنهم أحرقوا المصحف، هل أسکت علی ذلك، فما معنی الإيمان؟
قال أحد الجنود له: ملفك خطير للغاية، وحريتك صعبة، ومن المحتمل أن يتم إعدامك، فقال عبد الصبور له: غار إبراهيم لدين الله، فغار الله له غيرة أثارت حيرة العالم، ثم قرأ هذه الآية:{ يا نار كوني بردا وسلاما علی إبر اهيم}.
فکان الجنود يستمعون إلی کلامه، فکأنه يتعرض بهم من هذه القصة لقتل الإمريکيين، فقال: بعد قتل الإمريكيين سافرت للعمل خارج البلاد ، ثم عدت بعد أربع سنوات، فاختفيت في قريتی لكن اطلع الجنرال من قدومي، (لم أسمع اسم الجنرال)، يبدو أنه كان الجنرال أيوب سالنغی، فطمأننی أنه لا تحدث مشكلة لي، وأنا أضمن لك، تعال مرة فقط، لكنه خدعني وحبسني، فأرسلني إلی كابول، ثم أرسلني إلی هنا.
كان الضابط إنسانا جيدا، فطمأنه بأنه لن يألوا في خدمته، فقال عبد الصبور له: أريد مصحفا، فأمر الضابط أحد الجنود أن يأتي له بمصحف، فجاؤوا له بمصحف.
جاء أحد الجنود إليّ فقال: ألم يقم بعمل عجيب جدا، فضحكت وقلت کن أنت أيضا شجاعا مثله، يتردد الكثیر من الأمريكيين هناك في باغرام، فنظر إلی الیسار واليمین، ثم ضحك، ولم يقل شيئا وذهب.
ثم بعد ذلك بدأ الغازی عبد الصبور بالتلاوة، فكان يتلو بصوت جميل، وأثناء التلاوة جاء أناس وأخرجوه من الغرفة، ولم أعلم أين ذهبوا به.
سألت الضابط أین نقلوه؟ فقالوا ذهبوا به إلی القسم الخارجی، وسيقوم الإمريكيون بالتحقيق منه، حزنت كثیرا علیه، لأنهم نقلوه إلی المكان الذی قضيت ثمانية أشهر فيه، وكان مكانا ضيقا يساوي مساحة حمام شخص، فكنت أدعو له فقط، وأقول في نفسي إنه شاب غیور، غار لدین الله، وسینصره الله إن شاء الله.
فسمعت ثم شاهدت في القنوات التلفيزيونية أن عبد الصبور قد تمّ إطلاق سراحه من السجن بناء علی اتفاقية السلام بين الإمارة الإسلامية والولايات المتحدة، وهذه غيرة الله علی عبده الذي نصر دينه،
حیث استخدم لنصره المجاهدين الشجعان، وفي هذا درس كبير للشجعان، وهذه ليست قصة قديمة من التاريخ لنبحث عن أدلتها في كتب التاريخ، هذه قصة حية أظهرها الله لنا، فخرج عبد الصبور من السجن شامخا، رافعا رأسه. وسيبقی شجاعا بطلا غازيا عبر التاريخ باذن الله …