لقاء مع وزير الاقتصاد بإمارة أفغانستان الإسلامية (قاري دين محمد حنيف)
تفريغ اللقاء: مجلة الصمود
فيما يلي، نضع بين أيدي قرائنا الأفاضل، التفريغ النصي للقاء الحِواريّ الهام والماتع الذي أجراه الإعلامي: (أويس الجلبي)، عبر شبكة يقين الإخبارية؛ مع وزير الاقتصاد في حكومة إمارة أفغانستان الإسلامية: (قاري دين محمد حنيف). اللقاء تناول جوانب عدة، منها: التعريف بالوزير وأبرز المحطات المفصلية في حياته، ودوره في حكومة الإمارة الإسلامية الأولى والحالية وفي فترة الاحتلال الأمريكي، وأبرز منجزات وزارة الاقتصاد، بالإضافة إلى المشاريع المستقبلية التي تعتزم الوزارة تنفيذها بإذن الله.
مرحلة الطفولة، والجانب الشخصي:
■ أين وُلِد معالي الوزير قاري دين محمد حنيف؟
أنا من ولاية بدخشان، من مديرية يفتال السفلى. وُلِدت في عام 1964م في أسرة متدينة علمية فقيرة ريفية.
■ مرحلة الطفولة دائماً ما تترك بصمتها على الشخص. ما هي أبرز المواقف الموجودة في الذهن من تلك المرحلة؟
طبعاً مرحلة الطفولة لها ميزة خاصة. أنا أيضاً -كأي طفل آخر- عشتُ حياتي، وليس هناك شك في أننا شهدنا لحظات صعودٍ وهبوطٍ في حياتنا وعانينا المشاكل، لكن على كل حال أبي كان حافظاً للقرآن الكريم وأستاذاً وإماماً للناس، وكان يسعى لتربيتنا بشكل جيد.
■ تقولُ أنك حفظتَ القرآن في سنٍ مبكرة، ولكننا نقرأ في الإسم: (“قارئ” دين محمد حنيف)؛ يعني القارئ -هنا في أفغانستان- يسمونه حافظ؛ فلماذا ليس (حافظ دين محمد حنيف)؟
نعم، لحسن الحظ تعلمتُ العلوم الإبتدائية من أبي. وفي سن الحادية عشر أو الثانية عشر، سافرت إلى محافظة قندوز بمرافقة أخي الذي يكبرني بعشر سنوات، وكان يشرف عليّ، وكنا نحفظ القرآن في مدرسة باسم (كاساني) وكان اسم أستاذ المدرسة: (عبد الأحد)، والمدرسة كانت مشهورة باسمه (مدرسة القارئ عبد الأحد). وأنا تقريباً حفظتُ 18 جزءاً ثم مرضت. وعندما تعافيتُ؛ رجعتُ إلى المنزل وأكملت الأثني عشر جزءاً المتبقية عند أبي. وقد حفظتُ القرآن الكريم بأكمله وكان عمري خمسة عشر سنة.
والناس في منطقتنا يسمون حافظ القرآن؛ قارئ، وليس حافظ. وبعد حفظ القرآن الكريم، أردت أن أتعلم المزيد وأواصل الدروس، ولكن للأسف بدأ هجوم الاتحاد السوفيتي واستلم الشيوعيون حكم البلاد، ولما كانت الحكومة ملحدة وقف الناس ضدها وبدأوا بالجهاد والمقاومة. وبسبب الحرب دُمِّرت المراكز التعليمية والمدارس كلياً أو جزئياً أو تعطلت.
■ هل هناك معلم أو أستاذ تذكرُهُ بموقفٍ أثر فيك بشكل كبير؟
أريدُ أن آتي لهذا لاحقاً؛ لأن المرحلة الإبتدائية لا يكون فيها التأثر كبيراً ولعلّي أواصل ما كنتُ أقوله؛ فعندما بدأ الجهاد ضد الاتحاد السوفيتي كنتُ صغيراً وعمري لا يسمح بالمشاركة في المقاومة، ومضت من عمري ثلاث أو أربع سنوات سدى دون أي شيء؛ لعدم وجود المراكز التعليمية والمدارس آنذاك.
بعد قضاء أربع سنوات، هاجرنا إلى باكستان، والتحقتُ بمدارس التعليم الديني، ودرستُ في مختلف المدارس هناك. وكانت تلك المدارس تعتمد المسلك الديوبندي، وتتلمذتُ على يد كثيرٍ من الأساتذة، واستفدتُ منهم، وأكملت عندهم دراسة المناهج لمدة تسع سنوات، ووصلتُ لمرحلة دراسة الكتب الستة من صحاح السنة في مرحلة دورة الحديث. وفي ذلك الوقت، بدأت حركة طالبان بالظهور على الساحة. أما من أثّر علي من الأساتذة فهم كثر، خاصة أساتذة التفسير، ولكن أخصّ منهم ثلاثة: دكتور شير علي شاه -أستاذ التفسير-، والشيخ الدكتور حسن جان -أستاذ الحديث والتفسير-، وأستاذ التفسير؛ الشيخ أمان الله. لقد أثر علي هؤلاء الثلاثة بشكل أكبر.
■ هل هناك وصية محددة لأحد هؤلاء المشايخ مازالت ترِدُ في الذاكرة؟
بالعموم كان هؤلاء المشايخ يُدرِّسون الحديث والتفسير، ودائماً يوصوننا بالإيمان وتقوى الله -عز وجل-، والأمانة. لقد ترسّخت هذه الوصايا في ذهني، وأنا أسعى لاتّباعها دائماً.
مرحلة الإمارة (الأولى)، وحركة طالبان:
■ هل دخلتم مع حركة طالبان في أفغانستان في فترة القتال أم بعدما فتحوا كابل ودخلوها؟
عندما بدأت حركة طالبان الإسلامية، كنت تقريباً في آخر سنة من دراستي، فتركت الدراسة؛ معتقداً أن الأمر سينتهي خلال شهر أو شهرين ثم أعود للدراسة، لكن الأمر لم يسِر كما كنتُ أظن، ولقد تعاونتُ مع الحركة منذ بدايتها، وكنتُ قد التحقت بالحركة قبل ثلاث سنوات من فتح كابل.
■ هنا يتبادر إلى الذهن سؤال: معالي الوزير ينتمي إلى منطقة في شمال أفغانستان، وفي فترة حكم الإمارة الأولى لحركة طالبان ربما كانت خارج سيطرة الحركة أو معارضة للحركة، وهو من عرقية الطاجيك، وكانت توصف طالبان في ذلك الوقت بأنها فقط من قبائل البشتون. بالنسبة لكم، ألم يكن ذلك يشكّل ضغطاً من داخل قومكم وداخل عائلتكم؟
بطبيعة الحال فإن النضال له مشاكله. أنا لم أكن الطاجيكي الوحيد في الإمارة، بل كان هناك مجاهدون آخرون من ولاية بدخشان انضمّوا قبل وصولي. ونحن جئنا بوفد مكوّن من 115 شخصاً من ولاية بدخشان، وانضممنا إلى طالبان عبر مقاطعة خوست. وقبل وصولنا كان هناك بين 40 إلى 50 شخصاً التحقوا قبلنا، وكلهم من بدخشان. كان هناك الكثير منا ولم يكن لدينا شعور بأي حساسية أو قلق من أي نوع كما يصوره الإعلام.
وقد تذكرتُ قصة مرتبطة بسؤالك؛ فعندما كنتُ في مكتب طالبان بقطر؛ انعقد مؤتمر في اليابان في مقاطعة كيوتو جامعة دوشيشا، شارك في المؤتمر رئيس المخابرات في حكومة كابل آنذاك معصوم ستانيكزاي، وكنتُ موجوداً، وكذلك ممثلون لأحزاب أخرى، وبعد اختتام المؤتمر؛ أجرى موظفوا وزارة الخارجية اليابانية محادثات خاصة معنا، وكانوا يسألونني باستغراب ويقولون: كيف تكون من الطاجيك، من بدخشان، وأصبحت وزيراً في حكومة طالبان؟ ثم سألوني: كيف قدِمت من قطر إلى اليابان بجواز سفر تم استخراجه من بدخشان؟
فقلتُ لهم: رغم أنني خارج البلد، لكن ليس لدي أي مشكلة مع بلدي وأبناء وطني، نحن نتعاون معهم، وهم يتعاونون معنا.
ولم أكن أنا الوزير الطاجيكي الوحيد في الإمارة السابقة بل كان هناك وزراء آخرون من كل القوميات.
■ مَن هو القائد الأقرب إلى السيد معالي الوزير في ذلك الوقت؟
هناك دوافع مختلفة لانضمامنا لطالبان؛ أولاً: كنا نتشارك نفس الرؤية والأيديولوجيا، وكانت بيننا المودة القلبية بالتأكيد أيضاً. يُضاف إلى ذلك، أنه في ذلك الوقت كان هناك نوع من الفوضى في أفغانستان.
إن شعبنا لم يقاتل الاتحاد السوفيتي من أجل هذه الفوضى، ولم يضحّوا من أجل الوصول لحرب أهلية. كانت أفغانستان تعاني من الصراع بين الاحزاب والقيادات بشكل خطير، وكان لابد من حل هذه المشكله وتوفير الأمن للبلاد.
في البداية، استتبّ الأمن في كل المقاطعات التي سيطرت عليها طالبان. ولذلك كان لابد للحركة أن تتحرك لتحرير بقية المحافظات لتخليصها من الحرب والفوضى، وكان يجب القضاء على تجزؤ السلطة وتأسيس إدارة مركزية تخضع لقيادة واحدة. ونحن انضممنا للحركة بناءً على هذا الأساس، من أجل الأمن القومي والقضاء على الحروب الداخلية في أفغانستان.
بصراحة، قبل أن أدخل في الحركة، لم أكن أعرف أحداً من أعضاء وقيادات حركة طالبان. فقط سمعنا بأن حركة باسم (طالبان) قد ظهرت وسيطرت على ولاية قندهار، واستتب الامن هناك. ثم سمعنا أن هلمند كذلك أصبحت آمنة، ثم زابل ومحافظات أخرى. ونحن كنا مسرورين من هذه الأخبار، وعرفنا أن هذه الحركة جيدة وتستطيع جلب الاستقرار للبلاد؛ لذلك انضممنا لها لنتعاون معهم ونتشارك في جلب الأمن لبقية المحافظات التي ما زالت غير آمنة.
نحن لم نتخذ القرار بشكل سطحيّ، بل قبل انضمامنا للحركة قمنا بجولة استطلاعية والتقينا ببعض شيوخ الإمارة واطمأننّا بأنهم شخصيات طيبة ومجاهدة وشاركوا في الجهاد ضد الاحتلال السوفيتي، وبعضهم من الذين أصيبوا في الجهاد، وهم متدينون يريدون إقامة نظام إسلامي في أفغانستان، ويسعون لإحلال الأمن في البلاد. وعندما التقينا بهم وتعرّفنا عليهم عن قرب، أدركنا أن الشعار الذي كانوا يحملونه مقبول ومطلوب لنا وسُرِرنا بذلك. وعلى هذا الأساس انضممنا للحركة.
■ هل سمحت لكم الفرصة أن تقابلوا الملا محمد عمر (رحمه الله)؟
نعم، لقد كانت رؤية ملا عمر -رحمه الله- أمراً سهلاً وبسيطاً للغاية بالنسبة للمجاهدين. نحن التقينا به عدة مرات قبل فتح كابل في الإمارة الأولى، وفي البداية أيضاً عندما أردنا الانضمام للحركة؛ أردنا التأكد بأنفسنا، فذهبنا مباشرة إلى قندهار والتقينا به، فاطمأننا على صحة توجهنا.
بعد ذلك كنا نلتقيه كلما تطلّب الأمر أو واجهنا مشكلة ونحتاج أن يعيننا على إيجاد حلٍ لها. كان هذا الأمر سهلاً. كان الملا محمد عمر -رحمه الله- لا يلتقي الأجانب إلا نادراً، لكن لقاءاته مع المجاهدين كانت مستمرة، وأي مجاهد تكون له حاجة ويريد لقاءه كان يزوره بكل سهولة ويسر.
■ كشخص تقول أنك قابلت الملا عمر -رحمه الله- مرات عديدة؛ هل هو قريب للصورة التي تُرسم له في الإعلام؟ حتى الصورة الفوتوغرافية -التي كانت تُتداول في وقتها- هل كنتم تعرفون أن هذه الصورة صحيحة أو لا؟
لا، أغلب الصور التي كانت تُتداول في الإعلام ملفقة وغير صحيحة. في ذلك الوقت، لم تكن هناك الهواتف المزودة بالكاميرات، ولم تكن الصور شائعة، وكان الملا عمر يُعارض التصوير. وتوجد صورة واحدة صحيحة تُظهر جانبه الأيمن فقط؛ هذه صحيحة، والبقية ملفقة.
■ كأشخاص تقابلون الملا محمد عمر -رحمه الله- وتكون عندكم انطباعات شخصية؛ كيف كنتم توازنون بين انطباعاتكم الشخصية المباشرة وما بين ما تستمعون إليه حتى في الإعلام؟
حياة الملا محمد عمر مجاهد -رحمه الله- كانت بسيطة وسلسة ليس فيها تكلف، وكان يجلس مع المجاهدين وحراسه حول مائدة واحدة ويأكل معهم، وكل مجاهد كان يريد زيارته؛ يزوره بكل سهولة. كان صبوراً وحليماً أمام كل مجاهد يقابله. وإذا التقى بشخصٍ وسمِع كلاماً منطقياً وحديثاً معقولاً؛ كان يتفقُ معه بسرعة.
ومن المثير للاهتمام، أن الغريب أو الضيف القادم من الخارج، عندما كان يدخل الغرفة ويرى عدة أشخاص يجلسون مع الملا محمد عمر -رحمه الله-؛ لم يكن يميزه عن الآخرين. لم يكن الضيف يعرف من هو الملا محمد عمر. كان هذا موضوعاً مثيراً للاهتمام بالنسبة لي.
■ في فترة الإمارة الأولى، هل كان لقاري دين محمد حنيف أي مسؤولية في الشأن العام أو وظيفة في الحكومة؟
نعم، في فترة الإمارة الأولى التي امتدت لخمس سنوات، كنتُ في نفس تخصص هذه الوزارة، لكنّها كانت تسمى في ذلك الوقت باسم وزارة التخطيط. وفي السنة الأخيرة انتقلتُ إلى وزارة التعليم العالي، وبقيتُ في المنصب لسنة أو أكثر بقليل.
■ في تلك الفترة، ما هي أبرز التحديات التي واجهتكم؟
في ذلك الوقت تخلصت أفغانستان من الاحتلال السوفيتي، لكن بدأت الصراعات والحروب الأهلية؛ وبسبب ذلك، كانت جميع المقاطعات تقريباً -بما في ذلك كابل- تعاني بشدة من آثار الحرب.
في ذلك الوقت، كان لدينا ما يقرب من 1000 مشروع، وكان معظمها عبارة عن خطط لإعادة الإعمار، لكن لم يكن لدينا الوقت الكافي لتنفيذ المشاريع وخطط البنية التحتية بشكل كامل. لم تكن هناك مساعدات خارجية، وميزانيتنا التي حصلنا عليها من داخل أفغانستان تم استخدامها لإعادة بناء ما تم تدميره. حتى جامعة كابل كانت ساحة معركة خلال الحرب الأهلية، وتم تدمير معظم كلياتها. قمنا بترتيبها خلال الإمارة السابقة. كما دُمِّرت مباني الوزارات والدوائر الأخرى؛ فأعدنا بناءها أيضاً. وفي الولايات تهدّمت مباني الدوائر الحكومية وأعدنا بناءها. العديد من المباني الأخرى دُمرت بسبب الحروب، وكانت مهمتنا في ذلك الوقت إعادة ترميم كل ما تم تدميره.
لا شك أن ذلك الوقت أيضاً كان يشهد بعض جبهات الحرب؛ لأن البلاد لم تدخل كلها تحت قيادة الإمارة، وهذه الحرب كانت تستهلك الموارد بشكل كبير، ولكن مع ذلك أولت الإمارة الإسلامية اهتماماً خاصاً بقطاعات مثل إعاده الإعمار والصحة، وقامت بالكثير من العمل في هذه المجالات آنذاك.
فترة الغزو الأمريكي:
■ كنتم وزيراً للتعليم العالي، وبدأت أحداث الحرب الأمريكية على أفغانستان في العام 2001م؛ في أول يوم للحرب وبدء القصف، أين كان معالي الوزير؟
في بداية الهجوم، كنتُ في مزار شريف، وكنتُ أرأسُ وفداً مهمته تثبيت الناس وإعادة تجميع وتنسيق المجاهدين في محافظات الشمال، وزرنا في جولتنا: مزار شريف، سربل، جوزجان، فارياب، قندوز، بغلان. وكنا نوصي الناس أن لا يقلقوا.
وفي الليلة التي بدأ فيها الهجوم بالضبط؛ كنت ضيفاً في جامعة بلخ. وبدأ الهجوم في حوالي الساعة الثامنة أو التاسعة، واستهدفوا المطارات. ورغم كل الهجوم الأمريكي لم يتمكنوا من إيقافنا عن العمل، بل واصلنا رحلتنا ولقاءاتنا. وبعد إتمام مهمتنا؛ رجعنا بثقة كاملة إلى كابل.
وبعد قرابة 25 يوماً من الحرب؛ احتُلت عدد من الولايات، ثم بعد ذلك احتُلّت كابل.
■ كيف كان وقع الانتقال من مقام الوزارة إلى حالة المقاتل الذي يتنقل ربما بين الكهوف وبين الأماكن المختلفة؛ على نفس معالي الوزير؟
بعدما خرجنا من كابل اختفينا في محافظات مختلفة في أفغانستان. ربما نقضي أسبوعاً في محافظة ما، ثم في الأسبوع الآخر نكونُ في محافظة أخرى. كنا نغيّر أماكننا باستمرار.
ومرة في ولاية خوست، كنا ذات ليلة في بيت أحدهم في شهر رمضان، واستيقظنا وجلسنا حول مائدة السحور، ثم استُهدف المكان بصواريخ الكروز الأمريكية، وكان عددنا في المكان بين 20 إلى 24 شخصاً، ومن بين كل هؤلاء؛ نجا أربعة أشخاص، ومن الذين نجوا من القصف كنتُ أنا ومولوي جلال الدين حقاني -رحمه الله- ومجاهدْين آخريْن، أما الباقون فاستشهدوا جميعا هناك.
■ تعرض الإنسان للقصف المباشر ونجاته، يترك بصمة في النفس في النظر للحياة؛ كيف كان تأثير هذه الحادثة على معالي الوزير؟
نعم، نجوتُ من هذا القصف الصاروخي وفقدتُ الوعي لبضع دقائق، وعندما أفقت لم أكن أدرك أين أنا وماذا يحدث. وبعد لحظات؛ استعدتُ إدراكي وأنّني في ولاية خوست في قرية (زرا خيل)، وأننا قُصِفنا، وأن رفاقي استشهدوا، وأنني على قيد الحياة. وبالتزامن مع هذه الأفكار؛ غمرني شعور بأمل كبير ومعنويات عالية، وقلتُ في نفسي: لعل الله -سبحانه وتعالى- يريدُ في المستقبل أن يستخدمك في سبيله، وأنه منحني حياة جديدة كمقدمة لأعمال مفيدة كبيرة في المستقبل.
■ ذكرت في معرض كلامك (جلال الدين حقاني) -رحمه الله-؛ ما هي المعلومات التي يمكن أن تخبرنا فيها عن شخصيته؟
نحن بعدما نجونا من حادثة القصف؛ لم نلتقِ ببعضنا البعض، ولكن دائماً كنّا نسأل عن بعضنا عبر طريقة أو أخرى، وكنتُ أسال عنه وعن حالته الصحية، فلدينا معلومات عن بعضنا هكذا. أما اللقاء المباشر فلم أره بعدما افترقنا، هو ذهب في اتجاه وأنا في اتجاه آخر. في ذلك الوقت كنا نعيش حياة حذره؛ كل واحد منا كان يجاهد الاحتلال ويحاول أيضاً الحفاظ على أمنه الشخصي. كانت الحياة آنذاك مليئة بالتحديات والمخاطر.
■ بعد أن سيطر الاحتلال الأمريكي على أفغانستان بشكل كامل؛ هل بقيتم في أفغانستان في حالة القتال أم انتقلتم من أفغانستان إلى مكان آخر؟
بقيتُ في أفغانستان مدة من الزمن، وخلال هذه الفترة كنتُ أنتقل من مكان لآخر. وبعد توقف لمدة سنة؛ بدأ الجهاد من جديد، وتم تقسيم المهام والمسؤوليات من جديد، وكنتُ مسؤولاً عسكرياً لمحافظة بدخشان لسنة كاملة. وبعد سنة أُسِست اللجنة السياسية لحركة طالبان، وصرتُ عضواً فيها، وواصلت عملي هناك. وقبل أن ننتقل إلى قطر، كانت اللجنة تُسمى باللجنة السياسية، وتقريباً أُسِست في عام 2004، وبعد انتقالها إلى قطر؛ تغيّر اسمها من اللجنة السياسية إلى المكتب السياسي.
وبعدما بدأت الإمارة الإسلامية مرة أخرى نشاطاتها الجهادية؛ كانت لها هيكلية مختصرة خاصة بها، إذ كان لكل قسم لجنة؛ اللجنة السياسية كانت تقوم بأعمال وزارة الخارجية، واللجنة العسكرية تقوم بأعمال وزارة الدفاع، واللجنة الثقافية تقوم بأعمال وزارة الثقافة، كما كانت لدينا لجنة التربية والتعليم لأعمال وزارة التربية والتعليم، ولجنة المالية لأعمال وزارة المالية، فكانت هذه اللجان المختلفه تدير كل الأعمال.
■ لكنكم في هذه الفترة توليتم لجان الحرب ثم انتقلتم إلى اللجنة السياسية؟
نعم، في السنة الأولى بعد الاحتلال كنتُ مسؤولاً عسكرياً في محافظة بدخشان لسنة، وبعد ذلك انتقلتُ إلى اللجنة السياسية، وفي الوقت نفسه كان هناك مجلس الشورى القيادي الذي يُشرف على كافة اللجان، وكنتُ عضواً كذلك في هذا المجلس القيادي.
■ تحدثتم عن الإنتقال إلى اللجنة السياسية، وتحديداً الإنتقال إلى قطر؛ هل كان خروجكم بالأسرة من أفغانستان إلى قطر؛ سهلاً؟
لا شك أن الطريق إلى قطر كان مليئاً بالمشاكل، فقد كانت الحالة التي كنا نعيش فيها مليئة بالتحديات والصعوبات في كل خطوة، وبرحمة الله تمكنّا من تجاوز كل تلك المشاكل ووصلنا إلى قطر.
مرحلة الانتقال للمكتب السياسي في قطر
■ مرحلة قطر مرحلة تتطلّب التعامل مع الدول، تمثلون فيها حركة مقاومة تقاوم الاحتلال الأمريكي؛ ما هي أبرز محطة في مرحلة قطر؟
بدأت الانتقال أواخر عام 2011، وتقريباً وصلتُ إلى قطر في الأول من شهر يناير من عام 2012. من أبرز المحطات في تلك المرحلة أننا أقمنا علاقات مع عدة دول، وكانت تلك العلاقات سريّة، وكنّا نزور دولاً مختلفة، لكن هذه الدول لم تكن ترغب بالكشف عن هذه الرحلات؛ فكنّا نحافظ على سرية هذه الرحلات والعلاقات. لقد كانت هذه العلاقات من أهم إنجازاتنا في مكتب قطر.
أيضاً بعد عامي 2011 و2012 كان الأمريكان يرغبون بفتح باب التفاوض معنا، لكنهم لم يرغبوا بالإعلان عن هذه الاتصالات. في ذلك الوقت كانوا يصفوننا بالإرهابيين أو المؤيدين للإرهاب، وجلوسهم معنا على طاولة المفاوضات كان يعتبر فشلاً لهم؛ لذلك لم يريدوا أن تكون المفاوضات علنية، بل أرادوها أن تجري سراً، وأن يتم التوصل إلى حل بعيداً عن الأضواء. نحن لم تكن لدينا أي مشكلة في الإعلان عن المفاوضات، بل كنا نرغب في أن تكون علنية، لكن الأمريكيين كانوا يرون في ذلك مشكلة.
■ تحدثت عن هذه القضايا الحساسة؛ قضايا السرية والتفاوض وماذا كانت تريد أمريكا؛ وأنت محتفظ بابتسامتك، ما سر هذه الابتسامة؟
طبعاً كما صمد المجاهدون في ساحة المعركة والجهاد، حاولنا أيضاً أن نكون صامدين وصابرين في ساحة التفاوض؛ على سبيل المثال: عندما شاركنا في مؤتمر اليابان بمدينة كيوتو حضر رئيس المخابرات من كابل أيضاً وشارك في المؤتمر، وكنا نحن أيضاً هناك، في المؤتمر كان هناك أستاذ فلسطيني من إحدى الجامعات يرصد الوضع ويريد أن يرى رد الفعل عندما نواجه أولئك الذين جاؤوا من كابل؛ لأننا كنا طرفين متعارضين وكنا ننتقد بعضنا البعض ونرفض بعضنا البعض وكنا نحارب في الميدان، كان الأستاذ الفلسطيني يريد أن يرى ماذا سنفعل عندما نلتقيهم. وعندما رأى الأستاذ الفلسطيني أن سلوكنا كان طبيعياً جداً؛ اقترب مني وقال: إنه مندهش ولم يتوقع أن يكون لدينا مثل هذا السلوك الطبيعي بل اعتقد أننا سوف نظهر رد فعل عدائي. قلت في جوابه: أن هذا له معنيان؛ الأول: يدل على أننا لسنا في حالة حرب مع الأفغان، بل نحن في حالة حرب مع الأمريكيين، أما الأفغان الذين يقفون إلى جانب الأمريكيين فنحن في حالة حرب معهم بشكل غير مباشر، وتعاملنا هذا يُظهر أننا لسنا في حالة حرب مباشرة مع الأفغان، المعنى الثاني: هو أن مجاهدينا صامدون وصابرون في الخنادق وعلينا أن نتحلّى بنفس الصبر في ساحة الدبلوماسية.
طبعاً لا شك أن المخالفين في الاجتماع عرضوا وجهات نظرهم، ونحن عرضنا وجهات نظرنا، كانت أفكارنا معاكسة تماماً لما قالوه، لكن علاقتنا كانت طبيعية. لقد كان موقفنا موقف المظلوم والأغلبية المطلقة لأعضاء المؤتمر رحبوا بتصريحاتنا أكثر من تصريحات خصومنا.
مرحلة فتح كابل
■ أين كنتم في يوم دخول حركة طالبان إلى كابل؟
فتح كابل كان أمراً غير متوقعٍ بالنسبة لنا. خطتنا كانت أن لا يدخل المجاهدون كابل، بل أن يبقوا حولها حتى نستولي على السلطة بطريقة سلمية، ونشرنا إشعاراً بهذا الشأن، ولكن تم إبلاغنا في منتصف اليوم أن كابول خلت من السلطة؛ مما اضطر المجاهدين إلى دخول المدينة خاصة مع مناشدات أهالي كابل بأن هناك احتمالية للفوضى ونهب الأموال في ظل هروب قيادات النظام السابق، لذا كان لابد من دخول المجاهدين المدينة بناءً على رغبة أهلها.
في ذلك الوقت، كنتُ عضواً في المكتب السياسي في قطر ومسؤولاً عن مناطق آسيا الوسطى وروسيا وإيران وتركيا. اتصلَت بي سفارات روسيا وتركيا ودول آسيا الوسطى في كابل لطلب تأمين مجاهدينا لسفاراتهم. تلك الليله لم أنم حتى الساعة الواحدة أو الثانية ليلاً بتوقيت قطر، حيث كنا على اتصال مستمر مع المجاهدين وأمرناهم بحماية السفارات من أي خطر، وانشغلنا بتأمين السفارات حتى وقت متأخر من الليل.
بعد حوالي يومين أو ثلاثة أيام ذهبنا إلى كابل برفقة وفد من تسعة أشخاص برئاسة الملا برادر آخوند، وذلك على متن طائرة قطرية هبطت في مطار قندهار.
■ في تلك الأيام كان لكم خطاب لأحد مناديب الأمم المتحدة بخصوص ترككم في أفغانستان؛ لو حدثتنا عن هذه الجزئية؟
نعم، قضينا ليلة أو ليلتين في قندهار ثم أتينا إلى كابل. في كابل بعد أسبوع تقريباً وقبل الإعلان عن حكومة الإمارة الإسلامية؛ عقدنا اجتماعاً مع بعثة الأمم المتحدة ومكتب الأمم المتحدة في وزارة الخارجية في كابل، أجرينا محادثات معهم وقلتُ لهم: إنكم جلبتم النظام الجمهوري إلى أفغانستان وقدمتم له قدراً كبيراً من المساعدات السياسية والعسكرية على مدار العشرين عاماً الماضية، إذا كنتم لا تريدون مساعدتنا فلا توجد مشكلة عندنا، فقط اعترفوا بحكومتنا ولا تفرضوا علينا العقوبات وبعد 20 شهراً فقط قارنوا بين إنجازات حكومتنا وإنجازات حكومة الجمهورية التي دعمتموها على مدار 20 سنة، وسترون أيهما ناجح وأيهما فاشل، طبعاً بشرط الاعتراف وعدم فرض العقوبات.
تسلم وزارة الاقتصاد
■ عند تشكيل حكومة الإمارة الإسلامية، توليتم منصب وزير الاقتصاد. ما هي الأشياء المرتبطة بذاكرتكم في اليوم الأول لدخولكم الوزارة، وما هي الحال التي وجدتم عليها الوزارة؟
الشيء الوحيد الذي كان يخطر ببالي عند دخولي للوزارة هو أنني كنتُ قبل 20 سنة وزيراً في هذه الوزارة التي كانت تسمى في ذلك الوقت باسم (وزارة التخطيط)، وبعد كل الأحداث التي مرّت لم يخطر في بالي أصلاً وما كنت أتوقع أن أعود إلى هذه الوزارة مرة أخرى، ودخولي إلى الوزارة كان مفاجئاً لي وكانت هذه اللحظة بالنسبة لي غريبة جداً. بعض الناس يقولون أن التاريخ لا يتكرر، ولكن هذه المرة لم تصدق هذه العبارة، فقد أعاد التاريخ نفسه وعدتُ لنفس المكان.
أما وضع الوزارة فبكل أسف إن المشاكل التي رأيناها أكدت لنا أن الأمريكان جاؤوا للخراب وخرجوا بالخراب. المشاريع التي كانت موجودة كانت ممولة من البنك الدولي وممولة من البنك الآسيوي ومساعدات من الهند ودول مختلفة، وقد تم إيقاف كل هذه المشاريع. كان من المؤسف للغاية بالنسبة لنا أن نواجه هذا الوضع لأن مهمة وزارة الاقتصاد تنسيق كافة الشؤون الاقتصادية والإشراف على المشاريع التنموية، كنا مسؤولين عن كل هذه المشاريع، ورأينا أن كل هذه المشاريع تأخرت، وبطبيعة الحال فإن تأخير هذه المشاريع يؤدي إلى زيادة معدلات الفقر والبطالة. بالإضافة إلى ذلك، تم تجميد أموالنا في الخارج؛ وهذه شكلت مشكلة كبيرة أخرى. وبسبب العقوبات واجهت علاقاتنا مع البنوك الأخرى مشاكل كبيرة. ونتيجه لهذا الوضع، حتى الشركات المهتمة بالاستثمار في أفغانستان لم تستطع الاستثمار في هذه الظروف.
هذه كانت بعض المشاكل التي واجهناها عندما تولينا المسؤولية.
■ علمنا أن لديكم وزارة للمالية؛ فما الفرق عندكم بين وزارة الاقتصاد ووزارة المالية؟
واجب وزارة الاقتصاد هو وضع السياسات، وقيادة اقتصاد البلاد، وتحديد الاحتياجات والأولويات الاقتصادية للبلاد، والإشراف على المشاريع المنفذة في البلاد وتوحيدها وتحليلها وتقييمها ومراقبتها. هذه مسؤولية وزارة الاقتصاد.
أما وزارة المالية، فكما يوحي اسمها، تتعامل مع المسائل المالية وتقوم بجمع الإيرادات الداخلية وتجميع الضرائب والرسوم الجمركية. وبالتالي فإن الموازنة العاديه تابعة لوزارة المالية. كانت الموازنة الانكشافية أو التنموية في السابق تابعة لوزارة الاقتصاد، لكن الآن أصبحت تابعة لوزارة المالية؛ مما يعني أنهم هم الذين يحددون الميزانية في هذا السياق.
■ هل استمر الموظفين السابقين في عهد الحكومة السابقة في مناصبهم في الوزارة أم ماذا حصل لهم؟
لا شك أنه عندما وصلنا إلى وزارة الاقتصاد أبقينا جميع الموظفين الموجودين في أماكنهم، وقد ترك عدد قليل من كبار الإداريين مناصبهم وغادروا، وهؤلاء لا يتجاوزون ثلاثة أو أربعة أشخاص، فقمنا بتعيين أشخاص جدد مكانهم. وبخلاف هؤلاء، بقي جميع الموظفون من الحكومة السابقة؛ لأننا نعتقد أن هؤلاء أشخاص محترفون في عملهم وهم يحبّون وطنهم ويريدون خدمته، وبنصائحهم وبالتعاون معهم سنسيّر شؤون الوزارة، فمن كان خبيراً في عمله وملتزماً بأداء واجباته ووفياً لبلاده بقي عمله، أما الخبراء غير الأوفياء فقد تركوا العمل.
■ تتحدث وسائل الإعلام التي تخالفكم دائماً عن أن الحكومة هي حكومة بشتونية توظف البشتون وتركز على البشتون. طبعاً أنتم أصلاً لستم من البشتون وفي مقام الوزارة، لكن بناء على هذه الاتهامات؛ هل وزارتكم الآن أصبحت وزارة بشتونية بعدما استلمتموها؟
يوجد في هذه الوزارة وزير واحد ونائبان. أنا من الطاجيك، ونائبي المتخصص هو من الشيعة، ونائبي الإداري من الأوزبك. أي شخص موهوب وحاصل على تعليم عالي وخبير ويتقدم للوظيفة؛ لن نسأله عن اللغة التي يتحدثها ومن أين أنت ومن أي قبيلة أو من أي ولاية، نحن سنعيّنه في الموقع الشاغر بالنظر لكفاءته وتعليمه.
■ ما هي أهم المنجزات التي تعتزون بها خلال هذه السنتين ونصف؟
لا شك أن وزارة الاقتصاد تشارك في جميع القطاعات التي يتم فيها إنشاء المشاريع التنموية، فيتم إعداد السياسات من قبل وزارة الاقتصاد وتوحيدها وتحليلها.
لدينا العديد من المشاريع -بما في ذلك مشروع (قوش تيبه) الذي يعرفه الجميع، بدأ هذا المشروع قبل عامين فقط وشهد تقدماً كبيراً، وهناك مشاريع مختلفة في مناطق مختلفة. أيضاً جميع الجمعيات الخيرية والمنظمات الموجودة هنا مسجلة في وزارة الاقتصاد وتحصل على تراخيصها من الوزارة، لأن الوزارة تشرف على أنشطتها. ومنذ عودة الإمارة للحكم؛ سجلنا حوالي 600 إلى 700 مؤسسة. حالياً هناك 2424 مؤسسة نشطة في أفغانستان، وهي التي تم تسجيلها في عهد الحكومة السابقة وفي عهد الإمارة الإسلامية، تعمل هذه المؤسسات في مجالات متنوعة بما في ذلك الصحة والتعليم والتنمية الريفية وغيرها. نحن نأخذ في الاعتبار نوع نشاط كل مؤسسة ونقدمه إلى القسم المناسب، فمثلاً: إذا كانت مؤسسة تعمل في قطاع التعليم نقدمها إلى وزارة التربية والتعليم، وإذا كانت تعمل في قطاع الصحة نقدمها إلى وزارة الصحة، وإذا كانت تعمل في القرى نقدمها إلى وزارة التنمية الريفية؛ أي أنه مع الأخذ في الاعتبار نوع نشاط المكتب فإننا نقوم بتقديمه إلى الوزارة المختصة، وتوقّع كل مؤسسة مذكرة تفاهم مع الوزارة المختصة، وتبدأ عملها بموجب ذلك، كما تشرف الوزارة المختصة على عمل المؤسسة ونحن نشرف عليها أيضاً.
■ ما علاقة المنظمات الخيرية بعمل وزارة الاقتصاد؟
طبعاً بمجيء الإمارة؛ جميع المنظمات والجمعيات الخيرية توقفت عن العمل، فقط كانوا يقدمون مساعدات إنسانية بسيطة، فعقدنا معهم اجتماعات وأقنعناهم باستئناف أنشطتهم مرة أخرى، وأقنعناهم بتحويل المساعدات من النوع الإنساني إلى التنموي، بالطبع عندما تتحول المساعدات إلى الشق التنموي فإن ذلك سيكون أمراً جيداً لأن الناس سيجدون فرص عمل.
المساعدات الإنسانية تشبه المسكنات؛ فهي لا تعالج المشكلة جذرياً ولكنها تساعد في تخفيف الألم مؤقتاً، أما المساعدات التنموية فستساهم في حل العديد من المشاكل بشكل دائم؛ ولذلك تم ربط هذه المنظمات بوزارتنا المعنية بخطط التنمية.
نحن لدينا في الهيكلية ثلاثة نواب لرئيس الوزراء؛ للشؤون السياسية، والشؤون الاقتصادية، والشؤون الإدارية والمالية. يرأس ملا برادر اخوند النيابة الاقتصادية، وتتمتع وزارة الاقتصاد بمكانة الأمانة للنيابة الاقتصادية.
بناء على توجيهات الملا برادر اخوند؛ تعمل وزارتنا على تحديد أولويات كل إدارة؛ على سبيل المثال: قمنا بعقد اجتماعات مع جميع الوزارات، وجمعنا أولوياتها وعملنا عليها لمدة ستة إلى سبعة أشهر تقريباً. لقد عملنا على الأولويات وجمعناها ووضعنا استراتيجية تنمية وطنية للسنوات الخمس المقبلة على أساس أولويات جميع الوزارات. آمل أن تتم الموافقة على هذه الاستراتيجية لأنها خطة جيدة لمستقبل البلاد. ميزة هذه الاستراتيجية هي أنها تسمح بتحديد الأولويات للشركات المحلية والدولية التي ترغب في الاستثمار في أفغانستان.
عندما تُعبّر أي شركة عن رغبتها في الاستثمار؛ سنقدّم لها قائمة بالأولويات في كل قطاع ترغب في الاستثمار فيه، هذا يسهل عملية التنسيق ويضمن أن يتم توجيه الاستثمارات نحو القطاعات ذات الأولويات العالية والمتناسبة مع استراتيجية التنمية الوطنية التي توفر فرص العمل وتحل المشاكل.
■ هل يمكن أن تعطينا أبرز ملامح هذه الخطة الخمسية التي وضعتموها؟
سأذكر أمثلة تعكس أبرز ملامح هذه الخطة؛ على سبيل المثال: لدينا حالياً مستشفى نموذجي في أفغانستان، يجب أن يكون لدينا مثل هذا المستشفى، لدينا مرضى السرطان وغيرها من الأمراض الخطيرة وهم للأسف يسافرون إلى الخارج لتلقي العلاج. الإمارة الإسلامية تسعى لبناء مستشفى نموذجي ذو قدرة عالية يلبي احتياجات المرضى الأفغان. لقد تناولنا هذه النقطة في الخطة الاستراتيجية.
أيضاً يعمل ما يقرب من 70% من شعب أفغانستان -بشكل مباشر أو غير مباشر- في القطاع الزراعي، ومع ذلك فإن طريقة زراعتنا تعتمد بشكل رئيسي على الطرق التقليدية. نحن نسعى إلى تحديث هذا القطاع من خلال الزراعة الآلية. بالإضافة إلى ذلك، ليس لدينا بنية تحتية قياسية للتخزين والتبريد، وهذا يعتبر عائقاً كبيراً أمام تطوير قطاع الزراعة؛ لذلك فإن تهيئة بنية تحتية قياسية لبيوت التبريد وتطوير عمليات المعالجة والتعبئة يُعدّ جزءاً هاماً من خطتنا الاستراتيجية لتحسين قطاع الزراعة في البلاد.
شيء آخر؛ هو الكهرباء. تتمتع أفغانستان بقدرة هائلة على إنتاج الكهرباء. يمكننا إنتاج الكهرباء من مصادر المياه والطاقة الشمسية وطاقة الرياح والفحم، ولسوء الحظ ليس لدينا حالياً أكثر من 1000 ميجا وات من الكهرباء ونستوردها من جيراننا، ونريد أن نحقق الاكتفاء الذاتي في المستقبل. الكهرباء لا يجب أن تكون مستوردة، بل يجب أن تكون محلية.
أيضاً أفغانستان دولة غير ساحلية، ولكنها تعتبر نقطة تلاقٍ بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا. نحن نسعى لتحويل طرقنا السريعة إلى طرق نموذجية. حاليا -للأسف- طرقنا السريعة ليست صالحة وتأثرت بشكل كبير. في السنوات الخمس المقبلة، نرغب في تطوير الطرق السريعة بمعايير عالية لتصبح نقطة اتصال مهمة بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا.
كذلك لا توجد شبكة سكك حديدية في أفغانستان، ونتطلع إلى بنائها خلال السنوات الخمس المقبلة، وهكذا ستصبح نقطة الوصل بين الدول المختلفة.
هذه كانت أمثلة قليلة فقط من المشاريع التي نتطلع إلى تنفيذها خلال الخطة الخمسية.
■ هل لديكم التفصيل العملي لهذه الخطط الذي يمكن للمواطن الأفغاني أن يرى نتيجته بعد خمس سنوات مباشرة؟
وزارة الاقتصاد في الإمارة الإسلامية حصلت على الدراسات اللازمة، وتقدم التسهيلات للراغبين بالاستثمار. وندعو جميع الشركات المحلية والأجنبية للقدوم إلى أفغانستان والاستثمار في أي قطاع يرونه مناسباً، ونحن لدينا الدراسات اللازمة والخبرة. أملنا كبير ونحن نتوقع إمكانية تطبيق خططنا بنسبة 100% إن شاء الله.
وعلى الرغم من عدم وجود مساعدات خارجية لأفغانستان حالياً، فإن جميع مشاريعنا تعتمد على عائداتنا المحلية، والمشاريع المذكورة تتطلب نفقات كثيرة لكننا وضعنا خطة. ولأولئك المهتمين والراغبين في الاستثمار سننشئ بيئة مناسبة لهم.
لا شك أن أفغانستان بلد فقير بسبب الحروب المستمرة التي كانت قائمة هنا، لكنها غنية جداً بالموارد والمواد الخام. وأفغانستان فرصة جيده للشركات المستثمرة لأنها ستحصل على أرباح مضاعفة مقارنة بحجم ما سيستثمرونه.
■ المستثمر الخارجي ربما يميل إلى الأرقام أكثر من الخطط المكتوبة على الورق. بالإحصائيات؛ ما هو مقياس التطور في وزارة الاقتصاد بين أدائكم في السنتين وأكثر الماضية وأداء الفترة السابقة؟
لا شك في ذلك، وأريد أن أقدم لكم صورة عن طبيعة ما كان يحصل سابقاً بالاعتماد على تقرير صدر -تقريباً- في الثاني من مايو، من مكتب (سيجرا) وهو المفتش العام الأمريكي الخاص لشؤون أفغانستان، موجهاً إلى الكونجرس الأمريكي؛ يشيرُ فيه إلى أن الولايات المتحدة قد أنفقت 144 مليار دولار أمريكي على إعادة إعمار أفغانستان خلال العشرين عاماً الماضية من عهد الجمهورية.
إن إنفاق 144 مليار دولار خلال 20 عاماً من أجل إعادة إعمار أفغانستان هو مبلغ كبير من المال، ولكننا لا نرى نتيجة ما تم إنجازه بهذا المبلغ! فلم يتم إنجاز أي عمل أساسي في أفغانستان؛ لم يتم إنجاز أي من أعمال البنية التحتية، ليس لدينا مستشفى نموذجي، وليس لدينا كهرباء يمكنها حل مشكلتنا، وليس لدينا زراعة آلية، وليس لدينا مدن نموذجية دائمة، بل -على العكس- شهدنا تدهوراً في الوضع الاقتصادي، حيث تضرر الإنتاج الصناعي، وتعطلت الشركات المنتجة، وازدادت حالات الفساد المالي والإداري، وتزايدت زراعة المخدرات حتى ارتفعت إلى أكثر من 95%. هذه هي إنجازاتهم! وكذلك أرتفع عدد المدمنين على المخدرات إلى قرابة أربعة ملايين شخص أو أكثر، وتم تحويل أفغانستان إلى دولة تعتمد على المساعدات الخارجية. وبمجيء الإمارة انقطعت جميع المساعدات، فقط تم تقديم مساعدات إنسانية بقيمة صافية تقدر بمليار ونصف أو اقل من ملياري دولار عبر المنظمات الخيرية والأمم المتحدة، ولكن لم يتم تقديم أي مساعدات تنموية للإمارة.
وفي الوقت نفسه، قدمت إدارة (سيجار) الأمريكية أيضاً تقريراً آخر؛ وقالت أنه مع التطورات التي حدثت في أفغانستان؛ سقطت الجمهورية، وجاءت الإمارة، وتم إنفاق 17 مليار دولار في أفغانستان.
وأردنا أن نعرف أين قُدّمت هذه المساعدة؛ لأننا لا نرى لها أي أثر، ولا نعلم عنها شيئاً. بحثنا واكتشفنا كيف أُنفِقت 17 مليار دولار في أفغانستان وهي لم تصل إلى الإمارة ولا لعموم الشعب الأفغاني؛ فوجدنا أنه حُسِب ضمن هذا المبلغ تكلفة نقل الأفغان من كابل إلى أمريكا، وقُدّرت بخمسة مليارات و360 مليون دولار؛ مما يعني أن هذه الأموال استخدمت لترحيل الأفغان من أفغانستان إلى أمريكا والدول الأوروبية والغربية. بالإضافة إلى ذلك، تم إنفاق خمسة مليارات ونصف المليار دولار على إعادة توطين الأفغان في الدول المعنية، مما يعني أن الإجمالي المنفق على وصول الأفغان وإعادة توطينهم في الدول الغربية تجاوز عتبة العشرة مليارات دولار ومليارين و800 مليون أو ثلاثه مليارات و800 مليون دولار من أموال الأفغان المجمدة التي تم تحويلها إلى سويسرا قد تم تضمينها أيضاً في هذا المجموع، وقد تم إنفاق مبالغ أخرى في قطاعات خارج أفغانستان -لا أتذكرها الآن- فقط إجمالي مبلغ مليارين و800 مليون دولار من هذه الأموال سُلّمت للجمعيات الخيرية والأمم المتحدة لتُوزّع ضمن المساعدات الإنسانية في أفغانستان؛ أي أنها لم تسلم للإمارة الإسلامية، بل تستخدم عبر الأمم المتحدة ومكاتب الجمعيات الخيرية في أفغانستان.
الإمارة الإسلامية حالياً لا تعتمد على المساعدات الخارجية، وتحقق إنجازاتها باستخدام الإيرادات المحلية؛ على سبيل المثال: خلال العشرين سنة الماضية بلغت صادرات أفغانستان ما بين 600 مليون دولار و700 مليون دولار أو ربما وصلت إلى 800 مليون دولار وليس أكثر من ذلك، ومع ذلك في سنتين ونصف من حكم الإمارة ارتفعت الصادرات إلى ملياري دولار، وهناك أيضاً استقرار في الوضع المالي لدينا، حيث بقي سعر عملتنا الأفغاني ثابتاً.
في الحكومة السابقة كانت أفغانستان في مقدمة الدول المتأثرة بالفساد في الجوانب الإدارية والمالية، والآن نقترب من القضاء على هذه المشكله تقريباَ.
ويتم العمل على معالجة مدمني المخدرات، كما يجري العمل على بناء عدة طرق سريعة في أفغانستان، مثلا: الطريق الصعب (سالانج) الذي اشتهر بتعقيداته وإغلاق أنفاقه في فصل الشتاء؛ يخضع حالياً لعمليات إعادة بناء. بالإضافة إلى ذلك، المشاريع الكبرى الأخرى التي توفر فرص العمل، وتقلل من حدة الفقر؛ إما بدأت بالفعل أو على وشك البدء.
وجميع هذه الجهود تُموّل من الإيرادات الداخلية.
■ هل من رسالة أخرى تودّون أن ترسلوها للمستثمرين؟ هل أبواب وزارتكم مفتوحة لهم؟
خطتنا التي تسمى الخطة الاستراتيجية للتطوير العام، بعدما يتم الموافقة عليها وتأكيدها، سنضعها تحت تصرف الشركات والمستثمرين ونشجعهم على الاستثمار في أي قطاع يرونه مناسباً ويشعرون بالاهتمام به، ونحن سنوفر كل التسهيلات لهم.
■ مابين صورة (قاري دين محمد حنيف) وهو في عمر صغير يخرج خائفاً من أفغانستان ليلاً إلى باكستان، وحتى تتعطل مسيرته التعليمية في أكثر من مرحلة بسبب الحروب، ثم يخرج من تحت المبنى المقصوف ويرى أصحابه وهم قد استشهدوا بجواره، وصورة (قاري دين محمد حنيف) وهو يجلس على كرسي الوزارة الآن يخطط لمستقبل أفغانستان؛ كيف تنظر لهذه الصورة منذ الطفولة إلى الوقت الحالي؟
المرء يعيش بين الخوف والرجاء؛ هناك خوف ورجاء. الشعور بتجاوزنا لجميع المصاعب والتحديات ووصولنا إلى هذه المرحلة هو شعور جيد. أنا أرجو أن لا يتعرض أي أفغاني لمثل هذه المشاكل التي عشناها مرة أخرى. ولكننا نخشى أننا -في الوقت الحالي- في مرحلة الامتحان. الخوف يكمن فيما إذا كنا سننجح أو نفشل في هذه المرحلة. عندما ننجز مهمتنا وننهيها؛ يقوم الناس بالحكم علينا؛ إذا قمنا بعمل جيد وخدمناهم سيثنون علينا، وهذا هو نجاحنا، لكن إذا فشلنا سيتذكرون فشلنا، وبالطبع هذا ما يجعلنا نخاف من الخاتمة لأنه حتى الأنبياء كانوا يسألون الله حسن الختام، وكان إبراهيم الخليل -عليه السلام- يقول: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين). أنا أريد حسن الخاتمة في النهاية، وأسال الله -سبحانه وتعالى- أن يخرجني من هذا الابتلاء بنجاح.