لن ننسى مجزرة قلعة جانجي أبداً
إسحاق موحّد
قبل 16 عاماً هاجمت أمريكا أفغانستان بأسلحتها الفتاكة، فاحتلت هذه البقعة الإسلامية بمساعدة أذنابها الأقزام عبيد الدرهم والدولار، وكانت أياماً صعبة، وأذكر بأنني لم أزل في سن المراهقة، فكنت أرى الطائرات الأمريكية تطير في السماء وتقصف كل مكان، يقتلون من شاؤوا، ويعتقلون ويأسرون من شاؤوا، واندثرت البيوت، وقُبر أصحابها تحت أطنانٍ من التراب، ويكأنّ الإنسانية فقدت قيمتها.
وقد عمّ الحداد في بيتنا، وكان أبي حزيناً كئيباً، تهطل دموعه على وجنتيه، وكان يقول في جواب أمي: إنّ الكفار جاؤوا ليقضوا على الإسلام، والله أعلم ماذا سيكون مصير المسلمين، سقطت الإمارة الإسلامية فأين سيذهب المجاهدون؟
وكنتُ لا أبالي بهذه القضايا والمسائل أو كنتُ لا أعرفها، ولكن كنت أعرف آثار الهمّ والغمّ على وجه أبي، فكنتُ أحزن، وأتفكر.
وكان الأمريكان بمساعدة أذنابهم العملاء يهجمون على المجاهدين من كل جانبٍ، وكانت وسائل إعلام العدوّ تنشر الأكاذيب والترهات، وكانت تكسر بها قلوب المسلمين. فكان الإمام يقرأ القنوت في الصلوات، وكان عدد المصلين قليل ولكن كانوا يُؤمّنون بقلوب حزينة. وأمّا إذاعة الإمارة الإسلامية فكانت تشجع وتحرّض لبضعة أيام معدودة، ولكن بعد أيام قصفتها الطائرات الأمريكية.
فتفرّق المجاهدون وحوصر عددٌ كبير منهم في ولاية قندوز. وكان كل من (الجنرال دوستم) و(عطاء نور) وأفراد الهالك (فهيم) يطمعون باحتلال قندوز، وكان كل منهم يسعى إلى احتلالها لينال رضى أسياده الأمريكان، ولكنّ المجاهدين اضطروا -بأمر مسؤوليهم- أن يستسلموا بعد إعطائهم الأمان من قبل دوستم، فتعهّد دوستم بأن يذهب بهؤلاء المجاهدين إلى مركزهم في ولاية قندهار آمنين وسالمين.
ولكن أنّى لهذا الرجل الغدّار الذي لا يوجد في قلبه ذرة من الإنسانية أن يفي بعهده؟! فنقض عهده وسلّم المجاهدين المستسلمين إلى الكفار، كما قتل وجرح عدداً كبيراً منهم.
وحكى شهود العيان قصصاً عجيبة عن تلك المجزرة الرهيبة، حيث یقول شاهد عيان: أدخل دوستم المجاهدين في الشاحنات ثم أغلق الباب عليهم وهم بالمئات، فنقص الأوكسيجين ولم يكن بإمكانهم أن يتنفسوا، فبدأوا يضربون جدار الشاحنة الحديدي بأيديهم اللطيفة علّ جنوده يشفقون عليهم ويفتحوا الباب. ولكن أنّى لأصحاب القلوب القاسية الشفقة أو الإحساس بذرة من الإنسانية والغيرة؟! فبدلاً من أن يرحموهم فتحوا نيران رشاشاتهم عليهم ليسقط كثير منهم شهداء في داخل الشاحنات.
وأثناء قيام دوستم بنقل المجاهدين من مزار شريف إلى قلعه جانجي، أمر جنوده بتجريد المجاهدين من الأسلحة، ثم ألقوا بالمجاهدين في سرداب، وكانوا يمكرون ليسلموهم إلى الأمريكان. وههنا عرف المجاهدون كيد دوستم، فقاتلوا ولم يستسلموا، واستمرّ القتال مع الأمريكان وأذنابهم نحو 6 أيام، وكانت أياماً عصيبة وعجيبة، فكان الأمريكان يستخدمون شتى أنواع الأسلحة لقمع المجاهدين الذين كانوا داخل السرداب.
يقول مجاهدٌ: كنا في السرداب، إذ استعمل الأمريكان سلاحاً عجيباً، فسمعنا في الوهلة الأولى دوي انفجار، ثم رأينا النار تدخل من المنافذ إلى داخل الغرف، واحترق بعض المجاهدين فيها، فسعينا إلى إخراج ملابسهم كي لا يحترقوا، ورغم كل ذلك لم نستسلم للكفّار.
ويقول أحد المجاهدين الذين كانوا في قلعه جانجي من البداية إلى النهاية وأنجاه الله من تلك المجزرة وهو حتى الآن بيننا حيٌ يرزق: كان 14 من شهر رمضان المبارك وكنّا في السرداب، وكان منظراً رهيباً، أجساد الشهداء هنا وهناك، قد خضّبت دماء الشهداء الفرش، وسقطت الجدران على أجساد الشهداء، وآهات الجرحى كانت تفطّر القلوب، وكان السرداب مظلماً إذا أخرجت يدك لم تكد تراها، كان منظراً فظيعاً لا ينمحي من الذهن.
وبعدما استفرغ دوستم والأجانب مكائدهم، أجروا المياه في السرداب. يقول أحد المجاهدين: عندما أجروا المياه في السرداب، كانت في البداية قليلة، ولكنها كثرت، حتى وصلت إلى الساق ثم إلى الركبة ثم إلى الفخذ ثم إلى البطن ثم إلى الحلق، وكان مشهداً رهيباً،. ما أقبح عملهم، وما أحط أخلاقهم، وما أبعدهم عن الأخلاق الحربية!
بدأ المجاهدون -بما فيهم الجرحى- يذكرون الله، وكلٌ يودّع الآخر وموعد لقائهم الجنة، فهذا يتوضأ، وذاك يشرب الماء، وذلك يتلو القرآن، وهذا يتسامح مع أخيه، وآخر يضحك ويستبشر بلقاء الله. وارتفعت أجساد الشهداء على المياه، واختلطت المياه بدماء الشهداء وأبوال المجاهدين والفضلات. وبالجملة كان مشهداً رهيباً فظيعاً محزناً، ولا أجد كلمات تصف ذلك المشهد.
وبعد ستة أيام خرج المجاهدون المتبقّون من السرداب، فوقعوا أسرى بأيدي مليشيا دوستم وأسيادهم الأجانب، فقتلوا عدداً كبيراً منهم، وسلّموا الباقين إلى الأمريكان.
اللهم تقبل شهداءنا وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين، واجعلنا منهم ومعهم يا رب العالمين.