مقالات الأعداد السابقة

ليتنا نلتقي كما كان بالأمس قبل الأفــول!

laitananltqi

كان صدیقي أحمد یُسكن عائلته في إحدی القری القريبة من كابول وقد استشهد والداه وثلاثة من إخوانه إثر قصف الاحتلال وتحول بیتهم إلى قبر.

وكان صدیقنا آنذاك یشتغل بالدراسة في أحد الجوامع في بلد مجاورٍ لأفغانستان، فلم ینجُ من القصف إلا أخته الوحیدة بعد أن أُصيبت بجروح وعولجت بعد ذلك.

اضظرّ أحمد أن یعود إلی أفغانستان بعد أن تألم كثیراً لفقد أعزّ الناس وأحبهم إليه، وصار لأخته أباً وأماً وأخاً حنوناً. لم ینس أحمد صوت أمه الحنون حین كانت تخاطبه بصوتها المحبب (بنيّ أحمد)، ولم تنس أخت أحمد صرخات أسرتها التي كانت تعلو وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت الركام، وتتنفس آخر لحظات حیاتها المؤلمة.

كان وقع الحادث هائلاً على الأخ والأخت، فالدموع تلازم أعينهما طيلة ساعات في النهار. لم یرضَ أحمد وأخته إلا الثأر من العدو الصلیبي الذي يرى أن قتل أبوي أحمد وإخوانه نصراً ومفخرة. فحمل أحمد السلاح وجاهد في الله وأثخن في الأعداء، وأخته كانت تدعو له بالصبر والفلاح.

ذات یوم تداول أهالي القریة خبراً مفاده: أن مجاهداً من الطالبان تمكن من تنفيذ عملیة استشهادیة مما أدى إلى هلاك عشرین ملیشیاً وفرار الآخرین وهلاك ثلاثة من الأمریكیین وتدمیر آلیات حربیة للعملاء، فكانت النساء یحكین القصة عند اجتماعهن مساءً قبیل غروب الشمس، وكانت أخت أحمد ترى ملامح السرور على وجوه النساء عند استماعهن لأخبار انتصارات المجاهدین.

وفي يوم من الأیام (قبل أسبوعین) كانت شقیقة أحمد ترتب الدار وتكنس الفناء عند الصباح، فإذا بباب المنزل الخشبي يُطرق، فتحت الباب فإذا برجل يقف مهموماً، نظرت إليه من فتحة الباب وعرفته -إنه صديق أحمد الذي انضم بصفوف المجاهدین- فتسمّرت في مكانها لخاطرة خطرت ببالها: لماذا جاء صدیق أحمد وحیداً مهموماً یتلكأ بالكلام. هل أحمد…؟؟؟

هل كان البطل الذي نفّذ تلك العملیة الاستشهادیة التي تحكیها نساء القریة كان…؟؟

لم تستطع أن تواصل ما خطر ببالها فلم تتمالك نفسها حتی سألته فجأة: أین أحمد؟؟

لم يستطع صدیق أحمد أن یتكلم هادئاً، وقال بنبرة الحزن والألم وعينيه تذرفان الدموع: نفذ أحمد عملیة استشهادیة لیلتقي بأبویه

(یا الله ….) كلمة خرجت من لسان أخت أحمد.

سقطت المكنسة من یدها دون أن تشعر، لم يحتمل قلبها سماع كلمات صدیق أحمد، فسقطت علی الأرض فوراً مغشياً علیها.

وبعد ساعات.. فتحت أخت أحمد عينيها فإذا هي في بیت جارها وحولها عدد من النساء یسترجعن ویقرأن سورة (یس) وأخری تقرأ (لا إله إلا الله) وأخری تبكي، فإذا بصوت عجوزة یكسر الصمت الجزئي: كیف حالك یا بنیتي؟ هل تشعرين بالألم؟ هل تشعرين بالصداع؟ هل تشعرين بالدوار؟

أخت أحمد أشارت برأسها أن لا. أي لا أجد ألماً ولا صداعاً ولا دواراً، فقالت العجوزة: الحمدلله، لا تحزني إن لله ما أعطی و له ما أخذ، (أخوك كان مجاهداً فنال ما كان یتمنی).

(أخوك كان مجاهداً فنال ما كان یتمنی)..جملة أعادت إلى مخيلة أخت أحمد شهادة أبویها وصرخات إخوتها مرة أخری، خفق قلبها بشدة وشعرت بصداع عمیق، وماكادت العجوز تنهي كلماتها حتی أجهشت أخت أحمد بالبكاء دون أن تستطيع تمالك نفسها.

فشجعتها العجوزة قائلة: لا تبكي يا بنیتي، إن الله لا یمهل الظالم، لقد جمع الله أخاكِ بأبویكِ فلا تبكي يا بینتي، لا تبكي يا بنیت….

انقطع صوت العجوز فلم تسمح لها الدموع أن تكمل كلماتها.

وفي مساء نفس الیوم جاء عم أحمد وذهب بأخت أحمد إلی بیته في قریة من قری ولایة غزني.

أخت أحمد لم تنسَ أخاها الذي كان استشهاده صدمة كبری لها، كانت تذكر المزاح الذي وقع بینهما عندما كانا مشغولان بإصلاح حدیقة الخضروات الصغیرة في آخر زیارة له قبل یوم من تلقي خبر استشهاده.

كانت تتذكر تلك اللحظات وتنهمر الدموع من عينيها، وتقول لنفسها (یا أخي متی نلتقي؟ هل ترنا نلتقي؟)

بهذه الكلمات التي خضبتها الدموع كانت أخت أحمد تخاطب طيف ذكرى أخیها الذي كان كل حیاتها، لكن الدموع التي تنهمر من عيني أخت أحمد لم تكن قط دموع حسرة وندم علی ما فعل أحمد، فحاشا لله أن تندم أخت أحمد علی ما فعل شقیقها وقد كانت أكبر مشجعة لأخیها للانضمام إلى المجاهدین. حاشا لله أن تندم نفسٌ مومنة علی ما قدم أخوها من عمل نال به الشهادة الكریمة في دین الله، ولكنما هو ألم الفراق الطویل.

أخت أحمد مسلمة، مجاهدة، صابرة، فقدت جمیع أفراد أسرتها، ورأت أمام ناظريها استشهاد أبویها وإخوتها، ثم فقدت بعد ذلك أخاها الأخير. الأحاسیس كانت مؤلمة جداً، لكنها مع إسلامها لا تخفي إنسانیتها ولا تخفي قوتها ولا تكتم مشاعرها في ظل الواقع المؤلم الذي یعاني منه الشعب الأفغاني.

نعم كان كاهلها مثقل بالأحمال المضنية، فتجاري الدموع ولكنها لا تيأس.

كانت كثيراً ما تدعو للمجاهدین، وتتبّع أخبار انتصاراتهم، وتفرح عندما تأتیها أخبار الانتصارات فتنتشلها من كبوة الحزن وتحصنها من عتمة القنوط. كان قلبها ينبض بالإیمان رغم عناء الفقدان ووحشة فراق أخیها، لكنها كانت ماضية على العهد في الثبات علی درب الحق الذي سار علیه أخوها الشهید وأبویها وإخوانها.

كانت تناجي طيف ذكريات أخيها بلغتها الافغانیة، وتذكرنا بأبیات الشاعر العربي:

فأهتف: يا ليتنا نلتقي كمــــا     كان بالأمس قبل الأفــول

لأحكي إليك شجوني وهمي     فكم من تباريح هم ثقيل!!

ولكنها أمنيات الحنين فمـــا     عاد من عاد بعــد الرحيل

*******

ولكنني رغم هذي الهمــوم     ورغم التأرجح وســـط العباب

ورغم الطغاة وما يمكرون     وما عندهم من صنوف العذاب

فإن المعالم تبدي الطــريق     وتكشف ما حوله مــــن ضباب

********

وألمح أضواء فجـــر جديد     يزلزل أركان جمع الضلال

وتوقظ أضــــواؤه النائمين     وتنقذ أرواحهم مـــــن كلال

وتورق أغصان نبت جديد     يعم البطاح نـــــــديَّ الظلال

*********

فنَمْ هــانئًا يا شقيقي الحــبيب     فلن يملك الظلم وقـف المسير

فرغم العناء سيمضي الجميع     بدرب الكفاح الطويل العسير

فعزم الأُباة يزيح الطغـــــــاة     بعون الإلـــــــه العلي القــدير

وفي يوم من الأيام (ولم يكن مضى على استشهاد أحمد أسبوع) ذاع في القریة التي كانت أخت أحمد تعیش فیها في بیت عمها الكبیر في السن خبر أوجع أهل القریة، حيث كان الخبر أن الملیشیات ستأتي مساء ذلك الیوم وتحاصر القریة بذریعة تجمع المجاهدین فيها ودعم أهالي القریة للمجاهدین، وماكاد الخبر ينتشر في كل القریة حتی دخلت عربات الملیشیات المدججة بالسلاح وحاصرت القریة، وبدأ عناصر الملیشیات بإطلاق الرصاص الحي علی أهل القریة، وأحرقوا بعض البیوت، واعتقلوا الرجال والنساء. سمعت أخت أحمد تلك الویلات والآهات المدویة في القریة، فظنّت أنه حان اللقاء بأبویها وأخیها، فلاحت في مخيّلتها الأبیات:

هل تـــــــرانا نلتقـــــي أم أنهــــــــا             كانت اللقيا على أرض السراب؟!

ثم ولَّت وتلاشــــــــــــى ظلُّهــــــــا             واستحالت ذكــــــــــرياتٍ للعذاب

هكذا يســــــــــــــأل قلبي كلمـــــــا            طالت الأيام من بعــــــــــد الغياب

فإذا طيفــــــك يرنــــــو باســـــــمًا            وكأني في استماع للجـــــــــــواب

أولــــــم نمــــضِ على الدرب مـعًا            كي يعــــود الخـير للأرض اليباب

فمضينا فـــــــــــي طريــــق شائك            نتخلى فيـــــــــــه عن كل الرغاب

ودفنَّا الشــــــــــوق فـــــي أعماقنا            ومضينا في رضــــــــاء واحتساب

قد تعاهـــــــــــدنا على الســير معًا             ثم عاجلت مُجيبًا للذهــــــــــــــاب

حين نـــــــــــاداك ربٌّ منعـــــــــمٌ            لحياة في جنـــــــــان ورحـــــــاب

ولقــــــــــــاء فـــي نعيــــم دائــــم            بجنود الله مرحى بالصحــــــــــاب

قدَّموا الأرواح والعمـــــــر فـــــدا            مستجيبين على غــير ارتيــــــــاب

فليعُد قلبك مـــــــن غفلاتـــــــــــه            فلقاء الخلد في تلك الرحـــــــــــاب

أيها الراحل عذرًا في شكــــــــاتي            فإلى طيفك أنَّات عتـــــــــــــــــاب

قد تركــــــت القلب يــــدمي مثقلاً              تائهًا في الليل في عمق   الضبــاب

وإذ أطـــــــــوي وحيدًا حائــــــرًا            أقطع الدرب طويلاً في   اكتئـــــاب

وبینما كانت شاردة بخیالها، إذ بالمليشيات يقتحمون منزل عمها، وكانت قد اختبأت في أحد زوايا المنزل، إلا أن المليشيات تمكنوا من العثور علیها وسحبوها إلى ساحة واسعة مع سائر النساء الرجال الذین اعتقلوهم. فأمرهم الملیشیات بركوب السیارات والعربات فركب الجمیع، ولكن أخت الشهيد امتنعت وصرخت ولم تسمح للعدو أن يعتقلها، لأنها عاهدت أخاها قبل ذلك بعدم الاستسلام لقتلة أسرتها.

غير أني سوف أمضي مثلمـــــــا               كنت تلقـــاني في وجــــه الصعاب

سوف يمضي الرأس مرفوعًا فلا               يرتضي ضعفًا بقـــول أو جــــواب

سوف تحذوني دماء عابقـــــــات               قـــــــد أنارت كل فــــــجٍ للذهــــاب

امتنعت أخت أحمد من أن تركب في العربة وصفعت العمیل، مما أثار غضب العمیل فأطلق الرصاص على رأسها مما أدی إلی استشهادها نحسبها شهيدة والله حسيبها.

إنه الإیمان الذي یُحیي شعلة القلوب فلا تنطفىء، ويُحيي النفوس ويحميها من ظلمات الیأس، ويستعلي بالروح عن المادة، فتستشرف الحياة في الآخرة، التي هي دار القرار، فیمضي القلب علی الدرب بخطی وئیدة واثقة. لقد مضت أخت أحمد إلی لقاء الله -بإذن الله- وإلى لقاء أخیها وأبویها وأخوتها الراحلین، وقد استجاب الله دعاءها، رحمها الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى