مقالات الأعداد السابقة

ليلة البارود (قصّة فتح كابل)

أحمد فال الدين

 

لو لم يبقَ للإسلام في الدنيا عِرْقٌ ينبضُ، لرأيتَ عِرْقه بين سكان جبال الهمَلايا والهندكوشْ نابضاً، وعزْمَه هناك ناهضاً.” (شكيب أرسلان).

 

بدا يوم الأحد 15 من أغسطس/ آب 2021 يومًا عاديًا كغيره من أيام مدينة كابل، فهو اليوم الثاني من أيام العمل بعد عطلة نهاية الأسبوع يومي الخميس والجمعة. ضجّت شوارع حي «بولي تشرخي» الواقع شرقي كابل بالحركة. فبدتْ الشوارع مليئة بسيارات الأجرة، والباعة المتجولين المنادين على بضائعهم، وظهرت في الأفق جبال كابل ساكنةً كأنها الجزء الوحيد الثابت في هذه المدينة التي لم تعرف الاستقرار منذ 41 عامًا.

اندفعت دراجة وسط الشارع الرئيسي في «بولي تشرخي» مسرعة وعلى متنها شاب حنطي اللون معتدل الجسم، يرتدي ملابس أفغانية شبابيةً أنيقة: قميص وسروال أزرقان، وصدرية داكنة. كانت عيناه السوداوان تحدقان في جنبات الشوارع تتفحصان كل شيء كعينيْ صقر من صقور الجنوب الأفغاني. يتأمل الأزقة الضيقة، ويتفحص الواقفين أمام المقرّات الحكومية، ويندسّ بين كل تجمع لافت ليقف على طبيعته. كلما أسرع أو لفّ لفّة سريعة بدرّاجته سقطت سماعة الهاتف المندسة في أذنه اليسرى. تجاوز السوق المركزي للحي، ورفع السرعة طالعا مع المساكن المتسلقة فوق الجبل، انهمرت الدموع من عينه حتى اضطربت رؤيته للأشياء وللمدينة البادية في الأفق. أوقف دراجته وسمح لعينيه بالانهمار، ثم رفع يديه عن مقود الدراجة ووضعهما على جبهته وأجهش باكيا.

كانت السماعة في أذنه اليسرى تخبره بتحركات مقاتلي الإمارة الإسلامية، وتقدمهم للسيطرة على كابل. لم يستطع الرد على أميره الذي يوجه له الأوامر، فقد كانت عيناه تسحّان، وشفتاه تختلجان. حاول التماسك مؤنّبًا نفسه: لِمَ أنهار في هذه اللحظة ولمْ أنهَرْ قطّ رغم كل ما رأيت؟ وقف ملتفتا إلى أحياء كابل من فوق الجبل فانتفضت صورةٌ من ذاكرته. كان ذلك عام 2014، قبل سبع سنوات.

دخل (محمد أعظم) قرية هادئة بمنطقة تغاب رفقة أحد عشر رجلا من مقاتلي الإمارة الإسلامية، بينهم خاله وابن خاله وتسعة آخرون. دخلوا القرية الوادعة فاستقبلهم ربّ المنزل المتعاطف معهم، وتحلقوا حول مائدة العشاء وهم يخططون للإغارة على نقاط أمريكية. بدا الجوّ هادئا ولطيفًا، ودارت كؤوس الشاي الأخضر وامتدت الأيدي إلى مائدة الخبز والجبنة البلدية والأرز واللحم. كان هو وابن خاله أصغر الحضور، كان في عامه السابع عشر.

اندفع خاله ورفاقه الكبار يتحدثون عن قصص الجهاد التي خاضوها وعن معاركهم مع الأمريكيين، لكن صوتا سُمع فجأة ملأ المكان رعبًا. وقفتْ الأيدي في الهواء بكؤوس الشاي دون أن تصل الأفواه، وأنصت الجميع للصوت. لا شك أنها طائرة تجسس أمريكية، فقد أكسبتهم خبرة الكرّ والفرّ والقصف حاسة دقيقة للتمييز بين أصناف الطائرات، ثم ما لبثوا أن سمعوا صوت طائرة أباتشي. كانت التعليمات واضحة في مثل هذه الظروف، يجب أن يتفرقوا فورًا ويختبئوا، فالأمريكيون سينزلون للاشتباك المباشر معهم وأسْرهم. قفز الرجال كلٌّ في طريق، قفز بعضهم من الحائط وبدأ إطلاق النّار.

اندفع محمد أعظم راكضًا خارج الباب فلمح كومةَ قشٍّ ضخمةً في فناء الحائط مخصصة لعلف الأغنام فتوارى فيها. وجد نفسه داخل القش وهو يتذكر تعليمات قادته، عندما تختبئ عن الأمريكي حاولْ ألا تتنفس قدر المستطاع، اكتم أنفاسك واحبسها جيدًا. لم يعد محمد يرى شيئًا لكنه يسمع بوضوح، الجنود يصرخون، وإطلاق النّار يصّاعد، والنّساء يولولنَ باحثاتٍ عن أطفالهن. طال الوقت ولم يتبيّن له أي شيء، وبعد وقت سمع إطلاق نار متقطعا لكن الجلبة من بعيد لم تنقطع. هل يخرج؟ لعله إن أخرج رأسه سيلمحه أمريكي فيقنصه أو يأسره ليأخذه إلى باغرام أو غوانتانامو أو أحد سجون حكومة كابل.

بذل قصارى جهده ليتنفس بهدوء. بعد ساعات فتح ثغرة في القش مما يلي الحائط ووضع منخريه فيها حتى لا يختنق. لا يدري هل ما زال الأمريكيون هنا أم ذهبوا. عاش رعبا هائلًا، فقد كان يخاف من الاعتقال أكثر من خوفه الموت. حدث نفسه: لو أنني متأكد من أنني إذا خرجت أشتبك معهم ولو بالأيدي ثم أقتلَ لخرجت، سأكون في جنان الخلد بعد دقائق، لكني أخشى الاعتقال.

مرّت ساعات كان بعضها ما بين اليقظة والنّوم. طلع النّهار ثم انتصف. بدأ يشعر بعطش شديد. كان لا يعرف ما الذي يجري، فالأمريكيون أحيانا إذا نزلوا يقيمون بالمكان يومًا كاملا، وأحيانًا يشتبكون ويخرجون في ساعة. كان حائرًا.

اشتدّ العطش فبدأ يحاول إخراج رأسه من القش. لم ير أي أمريكي. رأى الحُفر منتشرة في المكان، والنّساء يقمن بالتنظيف، وأهل القرية يأتون ويذهبون للمساعدة. مشى خطوات حتى وصل وسط المنزل. تلقته ربة البيت:

  • أنت حي؟ حمدًا لله!

فتح فمه المتيبس عطشًا:

  • هل استشهد كل الإخوة؟
  • نعم.. لكن لم نجد جثة خالك. ابن خالك استشهد وحُمل إلى قريتكم ليدفن، لكننا ما زلنا نبحث عن جثة خالك.

ثم رفعت المرأة يدها وغطّت وجهها:

  • كالعادة، قام الأمريكيون برشّ وجوه الشهداء بالأسيد ليشوهوها.. لكن وجوههم ليست شائهة عند ربّهم.
  • أين جثامين الشهداء؟
  • دفنوا كلهم إلا خالك نبحث عنه.

جلس محمد أعظم على عتبة الباب مرهقا متعبًا مُلتاعَ الفؤاد. بعد لحظات اقتربت السيّدة حاملةً جرة ماء، فشرب وغسل وجهه ثم وقف ونفض عن ملابسه القشَّ وطلب خبزًا. أكل قطعة واندفع بين أزقة الحي منطلقا إلى قريته. اندفع وسط المروج الخضراء وهو يتذكر آخر أحاديثه البارحة مع رفاقه، لكن ذهنه كان مشغولا بالتفكير في صديقه ابن خاله، تذكر ما قالته له السيّدة عنه من أنّ صاروخا ضرب وجهه حتى ذهب نصفه! كيف سأعيش دون صديقي؟ كيف استشهد صديقي وبقيت؟ هل أنا خير منه؟ قطعًا لا. اندفع وسط الحقول وهو ينظر يمنة ويسرة. يعرف هذه المناطق جيّدًا ويعرف كل الطرق الالتفافية فيها. كان يلبس ملابس عادية ولا يستطيع أحد تمييزَه عن أي أفغاني عادي لا علاقة له بمقاومة الأمريكيين. تمتد الحقول أمام ناظريه المتعَبَين وهو يفكر: هل سيدرك دفن صديقه؟ تذكر طفولتهما ولعبهما معًا، وتذكر ابتسامته في لحظات الاشتباك مع العدوّ.

بعد 55 دقيقة من السير وصل قريته. كان أول ما لمح جماعة من الرجال راجعين من جهة المقبرة. انتابته حسرة فوات دفن صديقه. سلم سريعا على الرجال الحزانى وخالفهم إلى المقبرة الواقعة في سفح جبل جميل. مشى خطوات ثم دخل المقبرة وتوجه لأحدث قبر فيها ووقف عليه.

تحت هذا الثرى يرقد صديقي! أدار وجهه إلى الجبال المحيطة والقرية الوادعة والقبور الجاثمة. شعر بأنّ الزمن توقف. كيف يتحول إنسان كان مليئًا بالمشاعر والرغبات والطموحات ومحاولات تغيير العالم إلى جثة هامدة تحت الأرض؟!

جلس عند رأس القبر وبدأ يبكي، كان يبكي بحرقة وأسى، وازداد شعوره بالأسى لأنّه يبكي، فهل يليق بالفارس أن يبكي؟ أليس البكاء للنّساء الجالسات في البيوت بعيدًا عن ساحات الوغى؟ هل يليق بمقاتل أفغاني يصارع 54 دولة أن يبكي لفقدان رفيقه أو خاله؟

لكنّ الدموع كانت تنثال كلما حاول كفكفتها. مدّ يدًا مرتعشة وقبض قبضة من ثرى صديقه، ثم قال: قتلك الأمريكيون بين ديار أهلك! هل يظنّون أنّهم كلما قتلوا شخصًا ربحوا شبرًا من أرضنا؟! هذه الأرض التي تكاد وديانها ووهادها وتلاعها تفيض بدم الغزاة. هذه الأرض التي كان عليها الصوفي الفارس أبوالقاسم القشيري، والسلطان محمود الغزنوي. إذا كانوا يظنون أنهم سيقتلعون ديننا وثقافتنا، فعليهم أن يعلموا أنّ اقتلاع هذه الجبال الشمّاء أسهل من ذلك.

مرّت ساعة وهو جالس لا يتحرك. لا تسمع أذناه إلا حفيف الأشجار وأصواتا متقطعة آتية من جهة القرية. رفع بصره في الأفق فمرتْ صقور في الهواء فأتبعها طرفَه، رمقها وهي تبتعد متواريةً خلف الغمام المنساب بين الجبال. إلى متى أنا جالس هنا؟

نفض طرف ثوبه ووقف. انحدر مع الربوة متّجها إلى القرية. هذا صديق روحي وابن خالي ورفيق جهادي قتله الأمريكيون، وذاك أبي قتله الفرنسيون قبل، فلماذا يأتون إلى قرانا ليقتلونا؟

تسارعت خطاه وهو يرى نساء قريته مجتمعات في أحد البيوت الواقعة شرقي القرية. ابتعد عن البيت حتى لا يُرى آثار الدموع في عينيه. فمتى كان الفارس يبكي؟ أسرع منحدرًا مع الطريق المغبّر الذي يشق البيوت الطينية للقرية، وهو يتذكر بيتًا كان أحد قادته الميدانيين يُترجمه له من العربية دومًأ:

 

معاذَ الإله أن تنوحَ نساؤُنا         على هالكٍ.. أوْ أنْ نضجَّ من القتلِ!

 

شخصت ابتسامة صديقه في خياله فاعترتْه قشعريرةٌ وهو يعض شفته السفلى مفكّرًا في أول لقاء سيجمعه مع الأمريكيين. تذكر خاله الذي لم توجد جثته بعد. هل أسره الأمريكيون؟ وهل علم بمقتل ابنه؟ ترى أين هو الآن؟ توسط القرية محاولا ألا يلتفت يمينا ولا يسارًا حتى لا يرى أحد عينيه بوضوح.

 

استيقظ محمد أعظم من ذكرياته واندفعت دراجته النّارية تشق الطرق الملتوية والنّتوءات الجبلية شرقي كابل. تسرع الدراجة وسط الجموع المشغولة بتتبع الأخبار التي تتحدث عن عنوان واحد: طالبان على أبواب كابل. تجاوز محمد أعظم منطقة ’’سوق مركزي‘‘ فلاحظ كثرة النّاس داخل السّوق رغم الأسئلة الحيرى على الوجوه. كانت الجماجم مسكونة بأسئلة حارقة: أيُعقل أن يقع هذا بهذه السرعة؟ أين أكثر من ثلاثمائة ألف جندي أفغاني صنعتهم الولايات المتحدة على عينيها عَقدين كاملين؟ أين الرئيس أشرف غني وخطابُه الذي ألقى قبل ساعات متعهدًا بدحر طالبان؟ أين نائبه أمر الله صالح المتعهدُ بحماية البلاد من طالبان؟ هل انتفض غزَلُ الولايات المتحدة عشرين عامًا في أسبوعين؟

وصلت الدراجة الحمراء إلى المنطقة الخضراء بحي الوزير أكبر خان. تتميز المنطقة بحيطانها الخرسانية الطويلة التي سهر الأمريكيون على تشييدها وتحصينها طويلا. نظر أعظم إلى الحيطان ثم تمتم – والعَبرة تخنقه- تاليا الآية الكريمة: {لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ} [سورة الحشر]. انتبه وسط كل هذا إلى بعض النّاس منشغلين بإغلاق دكاكينهم. كانت أيديهم تُحكم إغلاق الأقفال وهم فاغرون أفواههم خوفًا؛ فهذه مدينة تحتفظ بذاكرة مرعبة عن أيام استيلاء المجاهدين على كابل وتشظيها بين الفصائل المتنازعة. تأمل الأوجه المتوجسة بينما كان هو يشعر بأمان لم يجربه منذ ولادته عام 1997م، قبل دخول الأمريكيين إلى كابل بأربع سنوات. لم يشعر بطمأنينة وحرية كالتي يشعر بها هذا اليوم، 15 من أغسطس 2021. رنّ هاتفه بعدما تجاوز السفارتين الكندية والفرنسية على الشارع رقم 15. سمع وسوسة مسؤولة من المِلقان المندسّ في أذنه:

التعليمات واضحة يا محمد. لقد دخل المجاهدون إلى المدينة رغم أنّهم ماكانوا يودّون ذلك. دخلوا لأنّ بعض العصابات بدأت تنهب بعدما علمتْ بهروب الرئيس وتفكك عصابات الجيش والشرطة. مسؤوليتنا الآن هي تأمين النّاس.

هدأ السرعة ليخفف وقع الرياح وليسمع صوت رئيسه واضحًا:

  • أنت ورفاقك مكلفون بنقل المجاهدين إلى النقاط الحساسة لحراستها. هم لا يعرفون المدينة، كثير منهم لم يدخل كابل قط.
  • عُلم!

تجاوز السفارة الأمريكية فاستيقظت صورة ابن خاله في ذاكرته؛ ماذا لو كان معي ليعيش هذه اللحظات؟! سفارة الاستكبار العالمي خالية ليس أمامها حارس واحد؛ من كان يستطيع العبور من هنا؟ تجمّدت أفكاره وهو يرى مجموعة من الرجال المسلحين بعمائمهم الطويلة وملابسهم القروية آتين من نهاية الشارع. لوّح بيده اليسرى وتجاوزهم. عليه الوصول إلى الدوار 15 ليجد المجموعة التي سيوصلها إلى أحد الأسواق، ثم ينتظر أمرًا بإيصال مجموعات أخرى إلى عدة نقاط حساسة.

أسرع مع الشارع الفوضوي ذي الاتجاهين، يرمق المارة المتوجسين الذين لا يعرفون بالضبط ما الذي يقع؟ فكّر في التصريحات الأخيرة التي سمعها عبر الراديو من أشرف غني وأمر الله صالح؛ أين كل ذلك؟

فكّر في أن الفرق شاسع بين من يقاتل عن شرفه ووطنه لتكون كلمة الله هي العليا، وبين من يقاتل ليتسلم راتبًا! خطر له أنّ الإنسان إذا كان يقاتل ليتسلم راتبًا فإنّ من الحمق أن يقاتل باستماتةٍ حتى لا يُقتل قبل قبض راتبه.

أحس نفسه في ملحمة كونية كبرى. شعر بكونه مجاهدًا من ملايين المقاتلين الذين يسيرون على خُطى خالد بن الوليد وقُتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم والملا محمدعمر. ملأ صدره بالرياح ورفع طرفه إلى السماء وهو يشعر بنشوة وانشراح. تذكر صبيحة مقتل والده على أيدي الفرنسيين بمنطقة تغاب. ثم اختفتْ صورة والده وحلت محلها صورة أمه، تلك المرأة البشتونية الصلبة التي تستقبل المصائب بقلب جَلْد وروح وثابة، تلك الأمّ التي تنظر إلى الموت في الميدان نظرة الفرسان إليه، لا نظرة المرأة العادية الخائفة. كيف لا؟ وقد تعلمت من جدتها أنّ الرجل يقبح به أن يموت تخمة، ويحسن به أن يموت في ميادين القراع والنّزال.

وصل الدوّار 15 فرأى أربع سيارات مليئة بالمقاتلين ذوي الشعور المنسدلة والعمائم الطويلة. كانت وجوههم مرهَقةً وشفاههم ذاوية، لكن عيونهم طافحة بالبِشر والحياة والتوثب. شباب تتراوح أعمارهم بين 18 و 22 عامًا. وُلد معظمهم بعد دخول القوّات الأمريكية إلى أفغانستان، وولد بعضهم قبيل دخولها بعام أو عامين، قال في نفسه: إذا كان الجيل الذي ربته الولايات المتحدة هو الذي يقوم بطردها اليوم؛ فما الذي جنته تلك القوة الكافرة الغاشمة؟

نزل عن دراجته وترجّل قاصدًا الرجل ذا اللحية الكثّة والعمامة البيضاء الطويلة، المتشح ببندقية كلاشنكوف. تحادثا سريعا ثم عاد إلى دراجته وبدأ يقود الموكب. كانت وراءه عشر سيارات محملة بالرجال المسلحين؛ يتوشّح معظمهم الأسلحة الخفيفة وقاذفات الآر بي جي.

تقدّم محمد أعظم الموكب وهو في حالة نفسية متوترة: ماذا لو رأى والدي هذا اليوم؟ ماذا لو علم والدي أنّ دمه لم يذهب هدرًا؟ كيف لو علم أنّ الفرنسيين الذي خرجوا من ديارهم البعيدة وأتوا إليه ليقتلوه في قريته لم يحققوا أي شيء؟ ها هم المجاهدون يعودون تحت بصر العالم إلى قصر الرئاسة! ها هو ابنك يوزع المقاتلين على سفارات الناتو ليؤمنوها لهم بعد عجزهم عن تأمينها! مرّت ساعات من العمل المرهق، والتوزيع المحكَم للمقاتلين على مقرات السفارات والهيئات الدولية والأسواق ومؤسسات الدولة.

في الساعات المتأخرة من المساء جلس محمد يتأمل الصور التي ظهرت على كل تلفاز نقلا عن قناة الجزيرة. كان جالسا في مقهى تتربع في ركنه شاشة تلفزيونية كبيرة. كان تلفزيون «طلوع نيوز» المحلية ينقل صورًا مباشرة من القصر الرئاسي نقلا عن قناة الجزيرة. ظهر مراسل الجزيرة الأفغاني محمد حميد الله شاه على الشاشة رفقة قادة من طالبان وهم يدخلون القصر الرئاسي آمنين!.

عدّة رجال مسلحين طوال اللّحى معتجرين بالعمائم، والمراسل بينهم يتحدث بعربية لا يفهمها محمد جيدا، لكن الصورة كافية. كانوا يتقدمون إلى داخل القصر. لا حظ في الصورة وجود رجل حليق يلبس ملابس غربية بينهم. كان الرجل الحليق أحد مساعدي الرئيس الهارب أشرف غني. قال ببشتونية واضحة:

  • جئت لأسلمكم مفاتيح القصر.

تحركت الكاميرا داخل القصر. أشار المراسل إلى المجلس الأنيق المنضّد في طرف الصالة الواسعة:

هناك كان يجلس الرئيس لا ستقبال الضيوف الأجانب.

ثم رأى محمد أعظم مقاتلي الإمارة الإسلامية يجلسون على الأرائك ذاتها التي كان يجلس عليها الأمريكيون وأشرف غني لينسقوا قتل والده وابن خاله. ثم ظهر على الشاشة شاب أبيض ملتح معتمّ. وضع سلاحه أمامه وبدأ يقرأ سورة النصر: {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [سورة النصر: 1-3].

وارتفع التكبير من أطراف القاعة. تجمدت عيناه السوداوان على شاشة التلفاز، وسكنتْ يده في الهواء ممسكة بكوب الشاي. لم تعد يده للطاولة ولا ارتفعت جهة فمه. مرّ نحو دقيقة. أفاق وتلفت في حنايا المقهى فلاحظ الأوجه الحيرى، ولمح رجلا خمسينيا حاد الملامح يتأمله. أرجع الكوب للطاولة وبدأ يتفرس الأوجه المختلفة التي تحيط به. وجوه تتراقص طربا بالحدث المتكشف على الشاشة، وأخرى صامتة صمت المفاجأة والأسى.

ثم أحس بإبهام يده ترتجف، وبخدر في ركبتيه، مع رغبة عارمة في الاحتفال ومعانقة المنتصرين. وقف دفعة واحدة حتى اصطدمت ركبته بطرف الطاولة. أخذ أربعمائة «أفغاني» ووضعها على الطاولة وخرج، ثلاثمائة للوجبة والشاي، والبقية بقشيش انتصار المجاهدين. خرج من باب المطعم فنفحته نسمات أغسطس.. وسمع من بعيد أصوات إطلاق الرصاص احتفاءً بفتح كابل.

اعتدل على دراجته التي بدأت تطوي الطريق طيًا وهو يستعيد الصور الأولى من حياته. كان ذلك أواخر 2001، يوم كان في عامه الرابع. سمع والدَه وأمه يومها يتحدثان – همسًا وخِيفةً- عن القصف الذي بدأته الولايات المتحدة على كل شبر من أرض أفغانستان. يوم كان لا يمر يوم دون خبر اعتقال أو قتل أو احتلال. زاد سرعة الدراجة مالئا رئتيه من هواء كابل. كابل التي يحكمها الحماةُ مرة أخرى، ويغادرها الغزاة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى