ما أجمل العفو عند المقدرة!
عرفان بلخي
ستعود بلادنا إلى استقلالها وستعلن مرة أخرى حريتها التي سُلِبت منذ عشرات الأعوام، وسوف تتطهر من براثن المحتلين وتحل العقد في هذا الصدد واحدة تلو أخرى، وسيعض المحتل وحليفه أنامل الغيض والندامة، فالمهانة والخزي والهزيمة مصيرهم المحتوم بإذن الله.
لقد أصبح الظلام على حافة الإنهيار، والصبح سوف ينفلق بالنور، والرِؤية الصالحة سيتحقق تعبيرها، وسيسجل تاريخ الغد بطولات مجاهدينا بحروف من نور. تزداد فرحة القلوب بالفتح يوما بعد يوم، وسيكون ذلك النصر بلسما للقلوب الجريحة المتألمة، وضماداً للجروح التي مازالت تنزف دما من فراق الأحبة والأعزاء.
لقد أصبحت الحرب فتحا ونصرا ورُفِع رأس المسلمين عزا وفخرا وهُزم المحتلون مرة أخرى، والسؤال الذي يطرح نفسه ويجول في كثير من الخواطرهو: ماذا سيكون مصير الذين صفقوا للاحتلال وارتكبوا الجرائم؟ وكيف سيعامل أمير المؤمنين أعداء الأمس بعد الانتصار؟ وماهو موقف الإمارة الاسلامية إزاء من عادوها بكل ما أوتوا من قوة؟ والجواب نجده في بيان أمير المؤمنين، وشاهدنا ما فعله مع أعدائه من أسرى العدو في الآونة الأخيرة، فقد عفى عنهم وأطلق سراحهم، وألبسهم حلية مباركة.
إن زعيم الامارة الاسلامية الشيخ هبة الله اخندزاده -حفظه الله تعالى من كل مكروه- قال بعد توقيع اتفاقية الدوحة في بيان: “إننا نطمئن شعبناً المضطهد بأن كل فرد من أفراد هذا الوطن (ذكوراً وإناثاً) سيحصل على حقوقه في ظل نظام إسلامي واقعي عادل ومن ساهم أو شارك في معارضة الإمارة الإسلامية وفي المجموع كل من لديه مخاوف تجاه الإمارة الإسلامية، فإننا قد عفونا له كل ما مضى، ونرجو له في المستقبل حياة رغيدة في ظل الأخوة الإسلامية، والمحبة والوطنية”. ثم أردف في بيانه في عيد الفطر بقوله: “إن الأشخاص والجهات التي لديها تخوّفات من النظام القادم بعد إنهاء الاحتلال فإنّ الإماره الإسلامية تطمئن الجميع مرّة أخری بأنّ الإمارة لا تنتهج سياسة حکر السلطة، وأنّ الحقوق ستعطی إلی أصحابها رجالا کانو أو نساء، ولن يشعر أحد بالمحکومية والحرمان، وسيتمّ الاعتناء بجميع المجالات التي تُتعتبر ضرورية لتقوية المجتمع وتوفير الرفاه”.
فقد طمأن كل من يساوره الشك والخوف من معاملة الإمارة الإسلامية بعد النصر، وأصدر العفو عن كل من ارتكب جريرة بحق إخوانه المجاهدين أو طاردهم او أساء معاملتهم. وهذا العفو ليس بمستغرب عليه، فإنه قائد فئة مؤمنة تحملت الأذى والاضطهاد والهجرة والمطاردة والشتات والعذاب، وعند النصر تأست برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكة، يوم المرحمة، ويوم البر والعفو، ويوم العز والتواضع.
فبعد أن تم تطهير البيت العتيق من الأوثان يوم فتح مكة، أراد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة داخل الكعبة، فأمر عثمان بن طلحة رضي الله عنه أن يأتي بمفتاح البيت، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة، فمكث به نهارا طويلا ثم خرج، فاستبق الناس، ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في جموع الناس.
وبادر أهل مكة رجالًا ونساءً يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله، وانقادت أعنَّتهم للحق بعد أن حاربوه طويلًا، وكانوا مثلًا للبغي والظلم، وعلموا أن الإسلام هو الدين الحق الذي يجب اعتناقه، والانضواء تحت لوائه.
ههنا أصابت القرشيين رهبةٌ شديدة وخوف عظيم مما سيؤول إليه أمرهم بعد أن نصر الله نبيه نصرا مؤزرا، وتذكروا ما مضى منهم من الأذى له وللمسلمين، وإخراجه وأصحابه من مكة، واضطرارهم إلى مفارقة أهليهم وأوطانهم، وتوجسوا خيفة أن يجرد عليهم سيف الانتقام فيقتلهم وقد تملك رقابهم، وطمعوا بعفوه وصفحه عنهم، وقد عهدوه دوما عفوا حليما.
لكن أعلن النبي صلى الله عليه وسلم عفوه عن أهل مكة، والملأ ملتفون حوله -رغم قدرته على إبادتهم، ورغم ما ألحقوه بالمسلمين من الأذى والاضطهاد- عند الكعبة، فقال لهم: “يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟” قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. فأعتق رقابهم بعد أن أمكنه الله منها، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء، ودانت قريش واستسلم الطغاة ودخلت مكة في حوزة الإسلام وخضع أهلها لحكمه وسلطانه.
إن عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعدائه بعد أن صاروا أُسارى في يده، يظنون كلَّ الظن أنهم سيُأخَذون بذنوبهم وجرائمهم، وقد نشف الدم في عروقهم، وتيبَّست أعصابهم، واصفرَّت جلودهم من شدة ما هم فيه من الفزع والخوف أن يقضي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يستحقونه قضاءً يقضي عليهم، أو يضرب عليهم الرق ويجعلهم عبيدًا يتقاسمهم المجاهدون، فما زال ما فعلوه بالمستضعفين شاخصًا في النفوس، وما زالت أيديهم تقطر من دماء الشهداء، وما أذاقوه للمؤمنين بمكة من ويلات وعذابات لم يُمحَ بعدُ من الذاكرة.
هذا موقف من مواقف العفو الكريم، والصفح الجميل، لم يعرفه التاريخ، ولا عرف مثله في النبل والإحسان ومكارم الأخلاق، وقفه الرسول صلى الله عليه وسلم مع من أساؤوا إليه، وكذبوه وسَخِروا منه، وآذَوْه بالقول والفعل حتى أخرَجوه من بلده المحرَّم الآمن مهاجرًا في سبيل أداء رسالته ونشْر هداها، وآذوا أصحابه وأخرَجوهم من ديارهم وأموالهم وعشائرهم.
واستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح، هذا درس في أخلاقيات الفتح والنصر، فأقرب الدعاة إلى نشر دعوتهم أحاسنهم أخلاقًا، وأحق الدعوات بالنجاح أكارمها أخلاقًا، ومن ثم كان من أثر عفو النبي – صلى الله عليه وسلم – الشامل عن أهل مكة، أن دخلوا رجالاً ونساءً، وأحراراً وعبيداً في دين الله طواعية واختياراً، وبدخول مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجاً. لقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بعفوه عن أهل مكة للدنيا كلها، وللأجيال المتعاقبة مثلا في البر والرحمة، وسمو نفس لم تعرفه البشرية بأسْرِها، وهذا من دلائل نبوته وعظيم أخلاقه، فإنه لا يستطيع أن يفعل هذا إلا نبي مرسل.
ألا ما أجمل العفو عند المقدرة، وما أعظم النفوس التي تسمو على الأحقاد والانتقام، بل تسمو على أن تقابل السيئة بالسيئة، ولكن تعفو وتصفح، والعفو عن من؟ عن قوم طالما عذبوه وأصحابه، وهموا بقتله مرارا، وأخرجوه وأتباعه من ديارهم وأهليهم وأموالهم، ولم ينفكّوا عن محاربته والكيد له حتى بعد الهجرة.
(وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، صدق الله العظيم.