
ما يحدث هذه الأيام لقضيتنا يدعو للتفاول!
عرفان بلخي
يقال إن من أقسى ما تتعرض له النفس البشرية أن يقدم إليها الزيف في صورة الأصيل وأن يكون المقدِم والمقدم له مشتركين بمعرفة هذه المغالطة، ويعرف المقدِم أن بين يديه الامكانيات ويستطيع أن يسحق بها جماجم خصومه، وفي نفس الوقت يعرف المقدَم له أنه أعجز من أن يسلبه الذباب شيئا فيستنقذه منه، وتبقى هذه المعادلة العرجاء قائمة رغم النكير القلبي لها من جميع الأطراف.
ومن هذا الطراز ما يحدثنا عمرو بن العاص رضي الله عنه قبل إسلامه وقد مر بديار مسيلمة الكذاب فعرج عليه يزوره، وكان مما تجاذباه من الحديث أن سأل مسيلمة عمروا: كيف حال صاحبكم (ويقصد به محمدا صلى الله عليه وسلم)، فاجاب عمرو: أرى أن أمره فشا وأصحابه وأتباعه يزيدون، لكن ما أخبارك انت؟ قال مسيلمة: أتاني من السماء جديد وإن شئت فاسمع. ثم راح – يتلو عليه – من الكذبات المضحكات. فقال له عمرو: والله إنك لتعلم أنني أعلم أنك تكذب، ثم تركه بعد هذه الصفعة المؤلمة وانصرف.
وهكذا اغتر فرعون العصر بترسانته العسكرية وأسلحته النووية وقوته المادية، وبضعف شعبنا مادياً وقلة حيلته؛ فعمد إلى طمس هويته الاسلامية ومحاربته وملاحقته، ومحاولة البطش به بالحرب العسكرية وسفك الدماء والإبادات الجماعية والسجن والتعذيب وتدمير المدن والقرى وإهلاك الحرث والنسل، وسلب ونهب ثرواته وخيراته، مع إلقاء اللوم وتحميل مسؤولية جميع جرائمه وبطشه على هذا الشعب متهماً إياه بايواء الإرهاب وأهله، ومبرراً لنفسه بأنه يكافح الإرهاب ويزرع أرضنا بالأزهار واستتباب الأمن والاستقرار.
لكن ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ حتى لو كان فرعون أو بوش أو اوباما أو ترامب الرئيس الحالي لأمريكا الغاشمة أو غيرهم من الطواغيت، وهاهو ترامب يئس اليوم من إمكانية هزيمة المقاومة الإسلامية المتمثلة في حركة طالبان في بلادنا، بعد أن جرّب كل الوسائل المتاحة واستخدام مستوى أعلى من القوة لإخضاعها؛ إذ أمر في شهر إبريل/نيسان 2017 بإلقاء أكبر قنبلة في التاريخ على بلادنا، سماها “أم القنابل”، ويقال إن قدرتها التدميرية تعادل قدرة القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما في اليابان.
وقد أثبتت الآيام أن الأماني ومنطق فرعون واستراتيجيته العسكرية كانت أوهن من بيت العنكبوت؛ ففي هذه الأواخر شهد شهود من أهلها بأن جميع محاولات ثلاثة رؤساء لأمريكا في حرب أفغانستان باءت بالفشل الذريع، وأن ما قاله فرعون وملأوه لقومه كان كذبا بحتا. وعندنا مثل يقول أن الميت إذا أراد الله خزيه وهوانه فسيضرط عند غسل جثمانه.
واليوم تزامنا مع موت فرعون هذا العصر، كشفت مجموعة وثائق حكومية سرية حصلت عليها صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية أن كبار المسؤولين الأميركيين لم يقولوا الحقيقة حول الحرب التي بدأتها الولايات المتحدة في أفغانستان قبل 18 عامًا، وأنهم اختبأوا طوال تلك المدة وراء تصريحات “وردية” كانوا يعرفون أنها مزيفة، وكاذبة وتخفي أدلة لا لبس فيها عن أن الحرب أصبحت هناك غير قابلة لتحقيق نصر حاسم.
وذكرت الصحيفة أنها جمعت أكثر من ألفي صفحة تضم ملاحظات من مقابلات مع كبار المسؤولين العسكريين الأمريكيين، والدبلوماسيين، وعمال الإغاثة، والمسؤولين الأفغان، وغيرهم ممن لعبوا دوراً بارزاً في الحرب التي استمرت عقدين من الزمن.
وأشارت الصحيفة إلى أن الوثائق تناقض بيانات علنية كثيرة صدرت عن رؤساء أمريكيين، وقادة عسكريين ودبلوماسيين، أكدوا للأمريكيين عاماً بعد عام أنهم يحققون تقدماً باهرا في أفغانستان، وأن خوض الحرب فيها مجدٍ، وقالت: “توضح المقالات أن المسؤولين أصدروا بيانات زاهية، كانوا يعلمون أنها كاذبة، وخادعة وأخفوا أدلة لا تحتمل الشك عن استحالة الانتصار في الحرب”.
وقال دوغلاس لوت الجنرال في الجيش الذي كان مستشار البيت الأبيض حول الحرب الأفغانية في عهد الرئيسين بوش الابن وباراك أوباما، في مقابلة عام 2015: “لم يكن لدينا أي فهم أساسي لأفغانستان، لم نكن نعلم ما الذي نفعله”، وتساءل “ما الذي كنا نحاول فعله؟ لم تكن لدينا أدنى فكرة عما كنا مقبلين عليه”.
حقا كان فهمهم آنذاك إخضاع شعبنا لأفكارهم الهدامة ومبادئهم الفاسدة من زعم ديمقراطية جوفاء وحرية المرأة وثقافة التغريب وعلمنة الشارع وغيرها وذلك بالقوة، وإنفاقهم الأموال الطائلة في سبيل ذلك فأصبحت اليوم عليهم حسرة ووبالا، والله تعالى يقول: “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ” ۗ.
وكيف تكون حسرة ؟، يقول المفسرون: تصير ندامة عليهم، لأن أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، لأن الله مُعْلي كلمته، وجاعل كلمة الكفر السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك!.
أما الحيّ، فحُرِب ماله وذهبَ باطلا في غير دَرَك نفع، ورجع مغلوبًا مقهورًا محروبًا مسلوبًا. وأما الهالك، فقتل وسُلب، وعُجِّل به إلى نار الله يخلُد فيها، نعوذ بالله من غضبه.
وفي السياق نفسه، قال العنصر المتقاعد في القوات الخاصة لسلاح البحرية نايفي سيلز، وموظف البيت الأبيض في عهد بوش وأوباما، جيفري إيغرز، في مقابلته قال: “ما الذي حصلنا عليه مقابل هذه الجهود التي كلفت تريليون دولار؟ هل كان الأمر يستحق تريليون دولار؟”، وأضاف “بعد مقتل أسامة بن لادن، قلت إنه على الأرجح يضحك في قبره بالبحر، وهو يفكر في كم أنفقنا على أفغانستان”.
أجل بعد أكثر من ثمانية عشر عاما و87 مليار دولار أنفقتها الولايات المتحدة على تدريب الجيش الأفغاني، لا تزال هذه المؤسسة غير قادرة على حماية نفسها، فقد كان جزءا من الأهداف الأمريكية الكبرى في أفغانستان؛ هو تدريب عشرات آلاف من القوات، وذهبت معظم النفقات على إعادة الإعمار لتمويل ودعم الجيش وقوات الشرطة وتزويدهما بالمعدات والتدريب والتمويل هدرا، ولا أحد لا الجيش الأمريكي ولا أشرف غني رئيس ادارة كابل، يعتقد أن الجيش الوطني قادر على الدفاع عن نفسه. ففي الأعوام الغابرة دشنت أمريكا قوات جديدة، لمساعدة القوات النظامية، أسمتها الشرطة المحلية كما نسميها نحن الأفغان (الأربكية) وكانت من بنات أفكار الجنرال ديفيد باتريوس، أحد كبار قادة الجيش الأمريكي في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وقائد القوات الأمريكية لاحقًا، وهي قوات، يتم تجنيدها محليًا، وتولى تدريبها العمليات الخاصة الأمريكية، وتم تزويدها بأسلحة أساسية وغيرها من الدعم بالإضافة إلى رواتب شهرية منتظمة، ولكنها لم تفلح في استهداف مأمولها؛ بل على العكس نجحت الحركة في التعامل معها بعنف لامثيل له فقتلت أكثرها، ومن بقي على قيد الحياة هربت أو فرضت الحركة عليها الذل والهوان.
نعم قد أصبحت الإمارة الاسلامية تسيطراليوم على أكثر من نصف ساحة البلاد أو أكثر، كما تدرك أمريكا ذلك، وقد فشلت أمريكا في مواجهتها على أرض البلاد بجبالها وقبائلها وصلابتها على مدى 19 عاما تقريبا. وهناك عشرون ألف عسكري وضابط من قوات الناتو منهم 14 الف أمريكي في البلاد، ويريد ترامب أن يسحبهم جميعا أو على فترات سالمين إلى بلدهم، وتريد أمريكا فقط من الامارة الاسلامية ضمانات ألا توفر المأوى للقاعدة وداعش، وألا تسمح لهم بأي هجوم على أمريكا أو مصالحها، كما تريد أمريكا من الامارة قبول محادثات مباشرة مع الحكومة الأفغانية العميلة. وفي المقابل موقف المقاومة الإسلامية موقف ثابت لم يتغير، فإنها رغم كل ما ذكرناه من موقف فرعون العصر وجنوده، صامدة على الحق ماضية في طريقها عاقدة العزم على انسحاب القوات الغازية المعتدية وتغييرالنظام وإقامة شرع الله على أرض الله، ولم تزدها مواقف فرعون العصر إلا صبراً وإصراراً وصمودا وعزماً وحثاً لخطى السير، وهي بذلك متوكلة على الله موقنة بأن النصر من عند الله، وأن الله سيحقق وعده بنصرتها على عدوها وأن مصير عدوها المحتوم هو الهزيمة والهلاك، فالنصر قريب، بسواعد الإيمان المتوضئة، وبالقلوب النقية الطاهرة ان شاء الله، وستزقزق عصافير الترحاب، وتهدل حمائم السلام لأمة السلام، وتبقى بلادنا في سعادة وهناء، فالله معنا وناصرنا، وهل يخذل الإله الحق عبده المتمرغ له بعبادته على ظهر المعمورة ؟! كلا وحاشا فإن الله ولي المؤمنين.