مقالات الأعداد السابقة

مدنية ملعونة

حافظ منصور

 

إنّ مدنية الغرب والأمريكان، مدنية الذئاب لا ينقصها ظفر ولا ناب، مدنية الحيتان يأكل قويها ضعيفها، مدنية البارود والغاز الخانق والقنابل الذرية والعنقودية، مدنية ملعونة بريء منها عيسى، وبريءٌ منها محمد، وبريئة منها المدنية.

إنّ الأمريكي المتحضّر، لا يتأخّر عن شكرك إن ناولته المملحة على المائدة، ولا يقصر في الاعتذار إليك إنْ داس على رجلك خطأ في الطريق، وإن رأى كلبًا مريضًا، تألّم عليه وحمله إلى الطبيب، وهو أنيق نظيف مهذّب اللفظ لا يستهين بذرّة من هذه الآداب، ولكنّه لا يجدُ مانعًا يمنع رئيسه أن يأمر فيصبّ النّار الحامية على البلد الآمن، فيقتل الشيوخ الركّع، والأطفال الرضّع، والبهائم الرتّع، والنّساء والعجائز، ويدمّر ويخرّب، ويذبح الأبرياء، ويفعل مالا تفعله الذئاب ذوات الظفر والنّاب، ويدّعي أنّه المتمدّن! يحاربون قومًا آمنين، يحاربون النساء في الخدور، والأطفال في المدارس، والمرضى في المستشفيات، وينشؤون صرح مجدهم ويرفعون ذرى عظمتهم على جماجم المظلومين، وعظام الشهداء، ويسرقون وينهبون أموال شعبنا المسكين، ثم يتشدقون بالتمدّن.

 

السالبين من الفقير حقوقه *** وإذا شكى فالسجن والمستودع

بفسادهم عاش الدّخيل مكرّمًا **** وابن البلاد مشرّدٌ، ومضيّع

 

أهذه هي المدنية؟

إنْ كانت هذه المدنية وهؤلاء هم المتمدنين فلعنة الله على المدنية وأهلها.

وقصة هؤلاء السفّاحين هي حكاية تعلمناها ونحن تلاميذ في المدارس الابتدائية ولا زلنا نذكرها إلى اليوم، هي أنّ رجلًا كان يذبح العصافير في يومٍ باردٍ ويبكي، فقال عصفور منها لأخيه: ألا ترى إلى شفقة هذا الرجل ورقّة قلبه؟

قال: ويحك لا تنظر إلى دموعه، ولكن انظر إلى ما تصنع يداه.

نعم؛ هذا قضاء المدنية، وهذا حكم الديمقراطية.

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: وملاك الأمر كله، أن نعلم أننا نحن أساتذة الدنيا، ونحن سادتها، عززنا بقرآننا وديننا، ولا يزال القرآن مبعث عز لنا، فلنعد إليه، ولنجعله أمامنا في حياتنا، ومعقد فخارنا، ولندع الدنيا إلى اتباعه لأنه لا فلاح لها إلا به.

إننا اليوم أضعف من الغربيين في القوى المادية، فلم يبق لنا إلا القوى الروحية: قوة الإيمان وقوة الأخلاق، وقوة العفاف فلنحافظ عليها، ولنحارب الإلحاد والنفاق والفجور، لأنها عون للعدو علينا، وسلاح له يعمل فينا، وأن نجرد للعدو جندا أخرجوا حبه من قلوبهم، وضلالاتهم من رؤؤسهم، وعاداته من بيوتهم، وأبغضوه بغضا بلغ الشغاف، وخالط الدم، وسرى في الأعضاء وظهر في الأفعال. جنداً صدورهم حافلة بالإيمان، عامرة باليقين، يثقون بماضيهم وأنهم يستمدون منه الظفر: من ألف معركة منصورة كانوا أبطالها ومن ألف سنة مباركة كانوا ملوك الأرض فيها، ويثقون بحاضرهم وأن دمائهم، ما أضاعت هذا الإرث، ورؤوسهم ما فقدت هذه الذكريات، ونفوسهم ما خسرت ذلك الشمم وتلك الفضائل، ويثقون بمستقبلهم وأنهم سيملكون الأرض مره أخرى وسيعودون ملوكها.

جنداً شباباً هم في الحكمة كالشيوخ، لم تسترقهن الشهوات، ولم تستعبدهم الملذات، ولم تلعب بهم الصبايا، وشيوخاً هم في العزيمة كالشباب، لم تفتنهم المناصب، ولم يطغهم الغنى، ولم يسر في أعصابهم الخور.

بهذا الجيش فلنجاهد، جهاداً متصلا مستمراً، لا يني ولا يقف حتى يهدم قلاع العدو كلها، ظاهرها ومضمرها، وواضحها وخفيها.

 

يا فتية الإسلام سوُّوا صفّكم *** وبغير دين الله لا تتدرَّعوا

صونوا كما صان الحمى أجدادكم *** سيروا على آثارهم وتتبَّعوا

وليعلم الأعداء أنّا أمَّةٌ *** بعواصف التهديد لا تتزعزعُ

ولتشهد الدنيا بأنّا أمَّةٌ *** بسوى الزعامة في الورى لا تقنع

سنحطّم الأغلال عن أعناقنا *** ونصدُّ تيار الفساد ونمنع

ونقيم صرح العدل بين ربوعنا *** حتى يطيب مصيفنا والمربَعُ

لسنا نريد مناهجاً وضعيَّةً *** قرآننا السامي أعزُّ وأرفعُ

فيه التحرُّر والتقدُّم والعُلى *** وإلى الخلود هو الطريق المهيَعُ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى