
مشاريع كبيرة وطموحة في أفغانستان (الحلقة 3)
المشاريع الوطنية الكبرى: مشروع الري وإدارة المياه
محمد صادق الرافعي
ليس هناك من ينكر أن أفغانستان من الدول الغنية في قطاع المياه، وأنها تنعم من المياه الجارية في مختلف مناطق البلاد ما يجعلها آمنة في مجال الأمن الغذائي والاقتصادي، شریطة إدارة المياه بشكل صحيح، الأمر الذي تعذّر تحقيقه في السنوات السابقة لأسباب عدة؛ منها الأزمات المتتالية والتدخلات الأجنبية، ومنها الفساد الإداري والمالي، ومنها الإهمال في التخطيط الاستراتيجي الصارم، حيث أدت هذه الأسباب وغيرها إلى إهدار هذه المياه، وعدم الانتفاع بها والاستفادة منها لصالح الشعب، واستغلال دول الجوار هذه المياه والاستفادة منها لصالحها والتقدم من خلالها في مجالات مختلفة، والعجب أن أفغانستان تعتمد في مجال الطاقة على الدول التي تصب مياه أفغانستان في أنهارها، وتتدفق إلى أراضيها مجانًا، ورغم المشكلات التي عاشتها أفغانستان زمن الاحتلالين، فإنها تتمتع بوفرة مائية كبيرة، ولا يزال نصيبها من المياه المتجددة أعلى من العديد من جيرانها.
وكان هذا المشروع تعقد عليه آمال الشعب الأفغاني منذ أزمنة مديدة، وكان طموحًا عُطّل منذ نصف قرن، وحُلمًا كبيرًا لشعب أبيّ أُوقِف، فبدّدته وتيرة الأحداث المريرة والأهوال المتتالية من الحرب والتهجير والتدخل الأجنبي والفساد والفوضى؛ ما جعل هذا الشعب على شفا حفرة من اليأس والقنوط، وكاد أن يصبح نسيًا منسيًا بين الشعوب، لكن الله فتح له أبواب الأمل، وأحياه مرة أخرى، وها هو اليوم استقل في حكمه ومصيره، وبحث عن طموحاته ورغباته، معتمدًا على مواهبه وكفاءاته، ومتكئًا على جهود أبنائه الذين لم يألوا سعيًا في إعادة بناء وإعمار الوطن. وبفضل إرساء الإمارة الإسلامية الاستقرار والأمن في البلاد، أصبح هذا الحلم قاب قوسين أو أدنى من التحقق. فمع إتمام مشروع إدارة المياه ستتحول الصحراء القاحلة في مختلف مناطق أفغانستان -بإذن الله- إلى أراضٍ زراعية خصبة ومناطق صناعية مزدهرة.
في قلب أفغانستان وعلى قمم جبال الهندوكوش الشاهقة، ثلوج تبدو كخزانة بيضاء في قلب الطبيعة لمياه هي شريان الحياة للبلاد بأكملها. هذا الذهب الأزرق الذي ينبع من وسط الجبال يمنح الصحاري جمالًا رائعًا والمزارع حياة جديدة، وينفخ في أفغانستان روحًا وانتعاشًا، ويحسّن من معيشة أفغانستان الاقتصادية.
تمتلك أفغانستان موارد مائية كبيرة، إذ يوجد أكثر من 220 نهرًا كبيرًا تنبع من جبال الهندوكش وجبال الهيمالايا الشاهقة. وهذه المصادر، التي يتم توفير 85% منها من الأنهار السطحية و15% من المياه الجوفية، أعطت الأمل وسبل العيش لشعب أفغانستان.
وتعتبر احتياطيات الثلوج في جبال الهيمالايا وجبال الهندوكش مصدرًا قيمًا لإمدادات المياه في المستقبل، وإن تمكنت الحكومة الأفغانية والشعب الأفغاني من استغلال هذه الموارد بطريقة صحيحة، وباستخدام التكنولوجيا الحديثة، وطرق الري الجديدة، إضافة إلى زيادة الوعي العام حول الإدارة السليمة للموارد المائية والاستثمار في البنية التحتية؛ فإنها لن تحل أزمة المياه فحسب، بل سيتم أيضًا زيادة النمو الاقتصادي، ومن ثم السير إلى مستقبل أكثر استدامة.
ومع هذا، فإن هناك تحديات تقف مانعة أمام هذه الموارد المائية؛ كالتغير المناخي، وانخفاض هطول الأمطار، وارتفاع درجة الحرارة، وضياع المياه الجوفية بشكل عشوائي. فعلى سبيل المثال، نرى اليوم أن أنهارًا كبيرة مثل نهر هلمند ونهر آمو دريا اللذان كانا جاريين فيما مضى دون انقطاع، لكنهما اليوم يواجهان انخفاضًا في منسوب المياه في أكثر فصول السنة، مما عرقل حياة المزارعين وأصحاب الماشية، وأثّر على كابل رغم مرور عدة أنهار منها، لأن المياه اللازمة لكابل يتم توفيرها من المياه الجوفية.
ونظرًا إلى أهمية القضية، فإن الإمارة الإسلامية منذ اضطلاعها بأعباء الحكم، ركزت على هذا الجانب بكل جدية وبدأت جهودًا حثيثةً في هذا المجال، ولا تزال المساعي على قدم وساق، ولا تزال الجهود مستمرة. ويعد مشروع الري وإدارة المياه من المشاريع الكبيرة والطموحة في أفغانستان، والذي عند اكتمال تنفيذه ستحدث في البلاد ثورة اقتصادية قيمة، وحسب تأكيد رئيس الوزراء الأفغاني للشؤون الاقتصادية؛ الملا عبد الغني برادر، فإن الحكومة جادة في مجال إدارة موارد المياه في عموم أفغانستان، لافتًا إلى أن الإمارة الإسلامية شمرت عن ساعد الجد للعمل في هذا المجال وإدارة ملف المياه بشكل أساسي.
قناة قوش تيبة
من أحد الجوانب البارزة في هذا المجال؛ مشروع قوشتيبة العملاق، وهو مشروع ري ضخم في شمال أفغانستان، بدأ تنفيذه، من قبل الإمارة الإسلامية، عام 2022، لنقل المياه من نهر آمو. يبلغ طول القناة 285 كم، ويُتوقع أن تعزز الاكتفاء الذاتي من القمح، وأن تُحدث نقلة زراعية كبيرة في البلاد. وفي الوقت الحالي، تم الانتهاء من 64% من هذا المشروع العملاق، كما تم الانتهاء من 90% من المرحلة الثانية من الحفر، ويجري بناء أربعة جسور رئيسية على طول القناة بسرعة كبيرة. وتعد أكبر قناة مائية في المنطقة لتوفير مياه الري اللازمة لمناطق شاسعة من الأراضي الزراعية. وتبدأ القناة من نهر جيحون في منطقة كلدار بولاية بلخ، مرورًا بصحراء منطقة كلدار، وتتقاطع مع طريق (هراتان – مزار شريف).
وفي خطوة لتعزيز التشجير وحماية البيئة، تم نقل 400 ألف شتلة من أشجار السمسم إلى محيط قناة قوش تيبه، وذلك بتوجيه من إدارة الزراعة في كابل، ضمن جهود تهدف إلى زيادة المساحات الخضراء، وحماية التربة من التآكل، وخلق بيئة أكثر استدامة وصحة. ويأتي هذا المشروع كجزء من مبادرات مستمرة لتشجير المنطقة، حيث سبق أن قام مزارعو ولاية لوجر بتنفيذ مبادرة مماثلة، نقلوا خلالها أكثر من 150 ألف شتلة لدعم الغطاء النباتي حول القناة.
ويهدف مشروع القناة إلى تحويل مياه نهر آمو لريّ مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، حيث ستتمكن القناة من إرواء 550 ألف هكتار، مما يسهم في تعزيز الإنتاج الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي في البلاد. وحسب المحللين الاقتصاديين فإن بناء هذه القناة سيعود بالنفع وسيحقق فوائد كثيرة للأفغان، مثل: إنشاء مزارع مختلفة لإنتاج الأسماك، والموانئ الصغيرة، والطاقة، وإنشاء بساتين الفاكهة، وإنشاء مناطق زراعية وصناعية ومتنزهات، مما سيمهد الطريق للتنمية الحضرية. ويمكن من خلالها تحسين الخدمات الأساسية، مما سيحقق الانتعاش الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة للسكان المحليين.
هذا وقد أفادت وزارة الزراعة الأفغانية بأن خطة الاستخدام الأمثل للأراضي المحيطة بقناة قوش تيبة، التي أعدّتها الوزارة، قد قُدّمت إلى كبار مسؤولي الإمارة الإسلامية. وصرّح وزير الزراعة، المولوي عطاء الله عمري، بأنه ينبغي تحقيق الاستفادة الفعالة من الأراضي المحيطة بقناة قوش تيبة فور اكتمالها. وتتكوّن هذه الخطة من خمسة محاور و91 بندًا، وتشمل محاورها الأساسية: المجمعات الصناعية، وإصلاح الأراضي، والإدارة المستدامة، ومراقبة القناة وصيانتها، وإيصال المنتجات الزراعية إلى الأسواق، وتوفير التسهيلات للمستثمرين.
وبحسب المعلومات، فقد تناولت الخطة أيضًا دراسة استغلال الموارد الطبيعية وتعزيز التنمية الاقتصادية في المناطق المحيطة بالقناة، مما سيسهم في إحداث تحولات إيجابية في المنطقة بدعم من القطاع الخاص.
وعليه، فإن قضية المياه في أفغانستان أكبر من أن تكون مجرد مورد طبيعي، بل هي قضية حياة وأمل لشعب يتطلّع لمستقبل زاهر في قلب الجبال الصعبة والأنهار الجارية، وهي عنصر حيوي ويعتبر رمز حياة وأمل للشعب الأفغاني. وإن تمكنت الحكومة من تحويل التحديات إلى فرص من خلال التعاون المحلي والدولي، فإن هذا الذهب الأزرق يمكن أن يكون بداية لمستقبل أكثر إشراقا وتقدمًا.
مشروع قناة قوش تيبة أحد المشاريع المرتبطة بمشروع إدارة المياه الكبير، وهناك جهود واسعة في هذا المجال، ندلي بتفاصيلها قدر الإمكان في الحلقات الآتية، بإذن الله.