معالم في طريق الدعوة (2): الغاية من الدعوة وأحوال المدعوين
محمد بن عبدالله الحصم
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد: فقد تحدثنا في المقال السابق عن فضل الدعوة والدعاة، وبيَّنا أن الدعوة والاحتساب تمثل الأمن المجتمعي، وأن الدعاة إلى الله هم صمام أمان للمجتمع من العقوبة الإلهية، وسنتحدث في هذا المقال عن الغاية من الدعوة إلى الله والحكمة الإلهية منها، وعن أحوال المدعوين، وكيفية دعوتهم، والتعامل معهم.
فأقول وبالله التوفيق:
غاية الدعوة وهدفها الأساس هو أن تسير الحياة على منهاج الله وفطرته التي أراد سبحانه أن يكون العباد عليها، فلم يخلقهم ربهم هملا ولم يتركهم سدى، بل أنزل لهم شرعا فيه كل ما يحتاجونه، بحيث لو ساروا عليه نجحوا واستقاموا، ولو تركوه فشلوا وانحرفوا، ثم أي شرع خير من شرع الله ؟! وأي منهاج أفضل مما اختاره العليم الحكيم لعباده؟!
وقد أكرمنا الله بهذا الكتاب “القرآن الكريم” الذي هو خير الكتب، وأرسل إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم الذي هو خير الرسل، وقد جاءنا بحنيفية سمحة وشرع عظيم محكم، كامل شامل، لا نحتاج معه إلى غيره، ولا يوصل إلى رضا الله غيره، ولن ينجو من العذاب ويفوز بالجنة إلا من استسلم له، ومن لم يفعل فقد تنكب الصراط، وباء بالمعيشة الضنك في الدنيا والخزي والعذاب الأليم في الآخرة، وصدق الله إذ يقول: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى).
قال ابن عباس: تضمن الله لمن قرأ القرآن، واتبع ما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا هذه الآية.
فما أخسر وأصغر وأحقر وأفجر من أعرض عن هذا المنهج الطاهر، وتلقف أهواء الشرق والغرب!! ولا يفعل ذلك إلا من ضعف يقينه، وساء ظنه بربه قال الله تعالى: (أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون)، وقال سبحانه: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون).
أما عن مراتب الدعوة فثلاث مراتب بحسب حال المدعو:
المرتبة الأولى: الدعوة باللين والحكمة، وهذه تناسب من كان منهم مريدا للحق مؤثرا له على غيره، ولم يشغله باطل عن تتبع الحق وطلبه.
المرتبة الثانية: الدعوة بالوعظ والترغيب والترهيب والجدال الحسن، وهذه تناسب من صده عن اتباع الحق شبهة عرضت له فيجادل بالتي هي أحسن حتى تزال شبهته، أو صده اشتغاله بباطل يلهيه عن معرفة الحق، كما صد بلقيس عن الإيمان ما كانت فيه من الملك، لذلك هددهم نبي الله سليمان بجنود لا قبل لهم بها، فأذعنوا له وأسلموا.
أما المرتبة الثالثة والأخيرة: فهي الدعوة بالقتال، والانتقال من الجدال إلى الجلاد، وهي تناسب المعاندين المبطلين، الضالين المضلين، فلا بد معهم من السيف ليزيل عنهم أغشية الهوى، وسكرة الباطل.
قال العلامة ابن القيم في كتابه القيم الصواعق المرسلة: فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها أقسام بحسب حال المدعو، فإنه إما أن يكون طالبا للحق، راغبا، فيه محبا له، مؤثرا له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة، ولا جدال، وإما أن يكون معرضا مشتغلا بضد الحق، ولكن لو عرفه عرفه وآثره واتبعه، فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب وإما أن يكون معاندا معارضا فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع إلى الحق وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن. اهـ
وهذه المراتب الثلاث يتدرج الداعي بها، فيبدأ بالحكمة والتعريف بالحق بأحسن أسلوب، فإن عرضت للمدعو شبهة، أو كان معرضا ملتهيا لا معاندا، ينتقل معه إلى المرتبة الثانية، فيجادله حتى يذهب شبهته، أو يزجره ويعظه إن كان لاهيا لينتبه، فإن أظهر العناد فعلاجه السيف، فيجاهد حتى يدخل في الدين الحق أو ينزل تحت سلطان المسلمين، وهذه الرتبة وهي الجهاد ليست لكل أحد، بل هي منوطة بإمام المسلمين، كما أنها تسقط بعدم القدرة، وهي الاستطاعة التي أمر الله عباده بتحصيلها لا أن تستسلم الأمة لحال الضعف والهوان، قال الله تعالى آمرا عباده ببذل الوسع في تحصيل أسباب القوة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) ثم بين الحكمة من هذا الأمر فقال: (ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم) أي: لتكون الأمة مهابة الجانب، ويحسب لها الأعداء الظاهرين والأخفياء ألف حساب، وعز الأمة وعلوها لا يكون إلا بالجهاد في سبيل الله.