معالم في طريق الدعوة (6): [صفات الدعاة]
محمد بن عبدالله الحصم
سبق أن عرّفنا الدعوة إلى الله بأنها: تعريف الناس بالدين الحق وحثهم عليه، فالدعاة إلى الله هم القائمون بهذا الأمر، فهم الذين يعرّفون الناس بالدين الحق ويحثونهم عليه ويرغبونهم فيه، وعلى رأس هؤلاء أنبياء الله صلوات ربي وسلامهم عليهم أجمعين، وخير الدعاة محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا”. ويدخل في الدعاة دخولًا أوليًا علماء الشريعة وطلبة العلم، والأئمة والمؤذنون، وغيرهم ممن يشتغلون في الوظائف الشرعية.
فهؤلاء هم حملة الدعوة والقائمون مقام الأنبياء في تعريف الناس بدينهم الحق، وهؤلاء لا بد أن يتصفوا بالصفات العظيمة، والأخلاق الحسنة، لأن الناس ينظرون في سمتهم وهديهم، فإن وجدوا خيرًا أحبوا هذا الدين وأقبلوا عليه، وإن رأوا تعارضًا بين أخلاق الدعاة وما يدعون إليه؛ زهدوا بما يقوله هؤلاء الدعاة، ونفروا منهم ومما يدعون إليه، وحتى تعرف أهمية أخلاق الداعية تدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ -رضي الله عنه- لمّا أطال الصلاة بالناس: “فتان فتان فتان” رواه البخاري، وفي رواية أخرى -عنده أيضا- قال: “يا معاذ، أفتان أنت!”. فجعل النبي صلى عليه وسلم هذا فتنة من معاذ للرجل وصدٌ له عن دينه، ولا شكّ أن تنفير الناس خلق ينبغي للدعاة الاتصاف بخلافه، وقد أصبح معاذ -رضي الله عنه- بعد هذه الوصية من كبار الدعاة حتى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم داعية إلى اليمن، وكان من وصيته له توكيدًا له ولغيره من الدعاة إلى قيام الساعة: “بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا”.
الحاصل أن الدعاة إلى الله كالثوب الأبيض الذي يتبين فيه أدنى دنس، فالمحافظة على طهر هذا الثوب ومشاهدة الناس له نقيا أعظم أسباب إقبال الناس عليهم واقتناعهم بما يقولون.
ومن هنا جاءت أهمية تذكير الدعاة بالصفات التي ينبغي التحلي بها لأجل هداية الناس، وعدم تنفيرهم.
- العلم والبصيرة، كما قال جل في علاه آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”. والبصيرة هي البينة من الأمر والعلم به، فالعلم طريق البصيرة قال شيخ الإسلام رحمه الله: على بصيرة، أي على بينة وعلم يدعو إليه بمنزل من الله. [مجموع الفتاوى (27/ 427)]
وقال ابن القيم -رحمه الله- في معنى الآية: فمن اتبعني؛ إن كان عطفًا على الضمير في أدعو إلى الله فهو دليل أن أتباعه هم الدعاة إلى الله، وإن كان عطفا على الضمير المنفصل فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم. والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى الله. [الصواعق المرسلة (1/ 155)]
وليس مطلوبا من كل داعية أن يكون ذا بصيرة بالشرع كله أو عنده بصيرة كبصيرة العلماء، لكن على الأقل على بصيرة فيما يدعو إليه. لأنه قد يتعرض للسؤال أو تورد عليه شبهة فلا يستطيع الجواب، خاصة من كان يدعو في زمن تكثر فيه الشبهات ويكثر فيه المنافقون الطاعنون بدين الله.
- العناية بالذكر والتعبد، لما لها من أثر في ثبات الداعية، وحياة قلبه، وإقبال الناس عليه، واقتداؤهم، نعم لأن الناس عندما يرون أثر العبادة عليه، ويرونه سبّاقًا لهم في هذا الخير الذي يدعوهم إليه، فهذا الأمر عندهم دليل صدقه في دعوته ونصحه، وجاء في كتاب (الزهد) للإمام أحمد وعن أبي نعيم في الحلية: قال ذر لأبيه عمر بن ذر: ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد، فإذا تكلمت أنت سمع البكاء من هاهنا وهاهنا؟ قال: «يا بني، ليس النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى».
بينما لو لم يرَ عليه الناس أثر العبادة، ولم يعرفوا الحرص منه والمنافسة لما يدعوهم إليه، كان عندهم بمنزلة النائحة الثكلى التي تظهر الحزن، وليس بها حزن، فتثقل عليهم الموعظة ويضعف تأثيرها.
- الإخلاص في دعوتهم بمعنى أنه يريد وجه الله، ولا يطلب من الناس جزاء ولا شكورًا. [إلا الذين آمنوا].
- الصدق وذلك بالعمل بالعلم، فلا تناقض بين أقوالهم وأعملهم. [وعملوا الصالحات].
- التواصي بالحق أي التناصح بأخذه، والعمل به، فهم فيما بينهم متناصحون، يوصي بعضهم بعضا بالدعوة إلى الله ونشر الدين، ويتعاهدون على سلوك منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله.[وتواصوا بالحق].
- الصبر على الأذى فيه والتواصي بذلك، بمعنى أنهم يتعاهدون على الصبر على الأذى في الدعوة، لأنه طريق مليء بالأذى، فالدعاة هم الصف الأول في مواجهة الباطل والفساد، فالسهام عليهم كثيرة والضغط عليهم شديد، من قبل سدنة الباطل، وعباد الشهوات، بالطعن والتشويه، والابتزاز، ولربما ضاقت الأرض بهؤلاء المفسدين المبطلين، فكأنها لا تسعهم والدعاة جميعا، فيتداعون لو استطاعوا لطردهم من الأرض، ولن يعدموا تهمة، فالإرهاب والتطرف والرجعية والتخلف تهم معلبة جاهزة للتشويه بكل متمسك بدينه، وقد يرتكس بهؤلاء المفسدين الهوى والفساد، فيجعلوا من الطهر تهمة كافية للطرد والتشريد، كما قال قوم لوط لنبيهم لوط عليه السلام: “أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”.
والمصلحون في هذه المواجهة محتسِبون متوكّلون على الله ربهم، وسلاحهم الصبر يذكر بعضهم بعضا به، ويتسلّون بأجر يُوفّاه الصابرون بغير حساب، ويتذكرون الدار الآخرة وما أعدّه الله للصابرين فيها، فيدفعهم ذلك إلى الثبات على دينهم. [وتواصوا بالصبر].
ومضمون هذه الوصايا في سورة العصر، تلك السورة الموجزة القصيرة بألفاظها، العظيمة البليغة الكبيرة بمعانيها، حتى قال عنها الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم. أي في المواعظ يقول الله تعالى: “وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ”.
(7-8) التحلي باللين والرحمة وترك الغلظة والفظاظة، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ”، فهذا محمد صلوات ربي وسلامه عليه على ما امتن به عليه من جميل الخصال، وطيب الفعال، وكريم الأخلاق، وحسن العشرة وأسباب الوفاق؛ يقول الله له إن الرحمة الإلهية التي أحاطت بك جعلتك سهلا لينا يجتمع حولك الناس ويقبلون عليك، إذ لو كنت على خلاف ذلك من القسوة والشدة لانفض عنك الناس ونفروا منك، فتأبى قلوب الناس أن تجتمع على الفظ الغليظ، ولا تأتلف قلوبهم إلا على الهين اللين السهل القريب، ذي الرحمة والرأفة.
الفَظّ: سيء الخلق الجافي، وغليظ القلب: القاسي الذي لا يرق ولا يتأثر.
فالداعية الناجح هو من يعتبر بهذه الآية، فيلين للناس ويرأف بهم ويرحمهم، ويتجاوز عنهم، فالفَظ الغليظ لا يقبله الناس، ولا ينتفعون به ولو عظم علمه، وقويت حجته.
وجميع صفاته محل اقتداء، قد ذكرهما الله في خواتيم سورة التوبة قال جل وعلا: “لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيم”. وهما:
9- الحرص مع الإشفاق، والحرص على الشيء: الشح عليه أن يضيع ويتلف. والإشفاق: الخوف على الشيء، فهو حريص على ما ينفع الناس يخاف عليهم من ضياعه، ويعز عليه ما يشق عليهم، ويشفق عليهم أن يقعوا فيه، وهذا يقتضي منه أن يبلغ الناس كل ما يعلم من الحق ويدلهم عليه، ويحذرهم من كل ما يضرهم في الدنيا والآخرة، ويشفق عليهم من الوقوع فيه، ولا يكتمهم علماً ينتفعون به.
10- الرحمة مع الإرفاق، والإرفاق المقصود به الرفق، والرفق من آثار الرحمة، أما الرحمة فهي ديننا ورسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا تنفك عن شيء من أحكام الدين، وبيّنّا ذلك في خصائص الدعوة أن رحمة الناس أحد منطلقات الدعوة، ومن آثار الرحمة التي ينبغي أن ينطبع في الداعية الرفق بالمدعوين في دعوتهم، يحتمل جفاءهم، ولا يحملهم على دينه، بل يقبل منهم القليل، ولا يعنفهم ولا يقنطهم، وهذه كلها من الرحمة والرفق. وبلغ الرفق بالحبيب صلى الله عليه وسلم أنه كان رفيقا حتى بأعدائه كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله» فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قد قلت: وعليكم “.
نعم هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم رفيقا حتى باليهود قتلة الأنبياء إخوان القردة والخنازير، انظر كيف يعاملهم!! فينبغي للدعاة جميعا التحلي بالرفق في مقام الدعوة حتى مع الكفار.