مقالات الأعداد السابقة

معالم في طريق الدعوة (7): [صفات الدعاة – 2]

محمد بن عبدالله الحصم

 

نستكمل في هذا المقال ما بدأناه في المقال السابق من ذكر الصفات التي ينبغي للدعاة الاتصاف بها حتى يقبل الناس عليهم ويتأثرون بهم وينتفعون بدعوتهم، وقد ذكرنا في المقال السابق عشرا من الصفات ونلحقها بأحد عشر صفة، وتمثل هذه الصفات الإحدى وعشرون أهم الصفات التي ينبغي أن يكون عليها الدعاة إلى الله:

 

11- لا يسألون أجرا على دعوتهم: وهذا من أعظم الأدلة على إخلاصهم وصدقهم، فلا يزال الناس يجلّون الداعية ويقبلون عليه، ما دام عفيفا عن أموالهم، مستغن عنهم، فإذا رأوه ينظر إلى ما بأيديهم، وما في جيوبهم زهدوا فيه وأعرضوا عنه، وأصبحوا يشكون في جميع تصرفاته بأن له فيها أهدافا مادية، ومآرب أخرى. لذلك كان الاستغناء عن الناس والزهد بما في أيديهم صفة من صفات الأنبياء، أمرهم الله بإظهارها، فجميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ممن ذكر الله في القرآن قالوا لأممهم: “وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين”. وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول: “قل لا أسالكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين”، “أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون” وقال سبحانه: “قل ما سألتكم من أجر فهو لكم، إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيد”.

 

12- الاهتداء بما يقولون: فتوافق أفعالهم ما يدعون الناس إليه، فلا تتناقض أفعالهم وأقوالهم، بل هم أول الممتثلين لما يقولون.

وهذا أيضا من أدلة صدق الداعية: العمل بما يدعو إليه، فلو رأى الناس تناقضا بين قوله وفعله لزهدوا في دعوته، وشككوا بكل ما يقول، وحجتهم على ذلك لو كان حقا لكان هو أول الممتثلين.

وتدبر كيف استدل حبيب النجار صاحب يس بهذه الصفة والتي قبلها على صدق الرسل ووجوب اتباعهم قال تعالى: “وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ “.. فلن ينجح الداعية حتى يتصف بهاتين الصفتين.

 

13- التواضع: فإن المتكبر بغيض إلى الله بغيض إلى خلقه، لا يصلح قدوة في الخير ولا يكون، كتبه الله عليه الذل والخزي والهوان في الدنيا، والعذاب العظيم في الآخرة، وعن عِيَاضِ بنِ حِمَارٍ رضي اللَّه عنه قَالَ: قالَ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “إِن اللَّه أَوحَى إِليَّ أَنْ تَواضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلى أَحدٍ، وَلاَ يَبغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ” رواه مسلم.

وعَنْ أَبي هريرة رضي اللَّه عنه أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “مَا نَقَصَتْ صَدقَةٌ مِنْ مالٍ، وَمَا زَادَ اللَّه عَبداً بِعَفوٍ إِلاَّ عِزّاً، ومَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ” رواه مسلم.

 

14- نفع الناس: والمقصود بها الايجابية في مجتمعه، فلا يفقدونه في أفراحهم ولا أتراحهم، فيشارك الناس في أفراحهم، ويواسيهم ويسليهم في أحزانهم، ويبذل الشفاعة لمن يطلبها منهم، وعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: جاء رجل إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله، أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: “أحب الناس إلى الله، أنفعهم للناس، يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينا، أو يطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة، أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -مسجد المدينة- شهرا”. [رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب].

ولا تعني الإيجابية المخالطة الكاملة، لأن هذا سيكون على حساب دينه وإيمانه، بل يخالطهم بقدر ما يحصل المقصود، لأن الخلطة الكاملة تسقط هيبته، وقد يتجرأ عليه السفهاء وهذا واقع.

 

15- سلامة الصدر من الأدناس: وهذه صفة عظيمة، ذات أثر بليغ في الداعية نفسه قبل غيره، فلا يحقد على أحد، ولا يجد في نفسه غلا على مسلم، فإن روض نفسه على ذلك أراحها من هم الخصومات التي تشتت الذهن وتؤلم القلب، وتحمل على الظلم والجهل.

وهذا ليس بالأمر السهل، وطوبى لمن قدر عليه وراضت نفسه عليه، ففي المسند في قصة الأنصاري الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: “يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة”، فطلع عليهم رجل من الأنصار، وتكرر هذا، فأراد عبد الله بن عمرو معرفة عمله الذي بلغ به هذا الأمر حتى قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال. فتحيل عليه ليبات عنده فلم يذكر له صلاة ليل ولم يكن له كبير عمل، فأخبره عبد الله بالأمر فقال له: قال: ما هو إلا ما رأيت. فلما ولى دعاه فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير إني لا أجد في نفسي على مسلم غشا، ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله -عز وجل- إياه. قال عبد الله: قلت: هي التي بلغت بك وهي التي لا نطيق.

وهذا صاحب يس لما بشر بالجنة: “قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين”، قالها في الوقت الذين كان قومه يضربونه، ويدوسونه بأقدامهم، حتى خرجت قصبه من دبره كما في التفاسير، في تلك اللحظات كان يتمنى لو كشف الأمر لقاتليه، فآمنوا فأنالهم الله ما أناله من الكرامة، وهذا غاية في الصدق والإخلاص وسلامة الصدر.رحمه الله ورضي عنه.

 

16- الحلم: فالحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة، وهذا من صفاة الكبار كالأنبياء الكرام، ولا يسود الناس إلا من يحلم عليهم، وهو يدل على كمال العقل والصبر، وسلامة الصدر، وأثره في الناس كبير، فالحليم زعيم.

فاتصاف الداعية بالحلم يقربه إلى الناس، فيألفونه ويقبلون عليه، أما الغضوب فينفر الناس عنه، ولا يستفيدون منه، والحلم خلق يحبه الله ورسوله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: ٍ”إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة “.

 

17- الأناة: التمهل وهي ضد الاستعجال، وكم في الاستعجال من آفة، وكم في الأناة من فائدة، وهي دليل على كمال العقل والصبر. وفي فضلها ما جاء في حديث الأشج السابق من محبة الله ورسوله لهذا الخلق.

 

18- حسن الإسوة “القدوة الصالحة”: فيجب على الداعية أن يعلم أن الناس ينظرون إليه، ويراقبون تصرفاته، ويسبرون أقواله وأفعاله، وكلما كان تأثيره أكبر زادت مراقبة الناس له أكثر، فإن لم قدوة لهم، إذا أمرهم بشيء كان أول الممتثلين له، وإذا نهاهم عن شيء كان أشد المجتنبين له، وانتبه الفاروق عمر لهذا الأمر فقد جاء عنه رضي الله عنه أنه إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدًا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة.

فهكذا الدعاة ينبغي أن يجعلوا من أنفسهم ومن بيوتهم قدوة للناس وأسوة حسنة.

 

19- العناية بحسن المظهر: ينبغي للدعاة أن يجمعوا بين أمرين؛ حسن المظهر بلا إسراف، وبذاذة بلا إسفاف، جمعا بين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. أما حسن المظهر والعناية به خاصة في الاجتماعات العامة والأعياد، واستقبال الوفود، فقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم له جبة خاصة يلبسها للجمعة وللوفد، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أنها أخرجت جبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكفوفة الجيب والكمين والفرجين، بالديباج. رواه أبو داود، وزاد البخاري في «الأدب المفرد»: وكان يلبسها للوفد والجمعة. وجاء عند مسلم عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس». وروى البيهقي عن عمران بن حصين -رضي الله عنهما- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إن الله يحب إذا أنعم على عبد أن يرى أثر نعمته عليه». رواه البيهقي.

فهذه الأحاديث ظاهرة في استحباب حسن المظهر، وذلك لكي لا تقتحمه عيون الناس ولا يزدرونه، فالمظهر الحسن يجذب القلوب، لكن يكون ذلك باعتدال بلا إسراف، وفي النظم قال: كذا بذاذة بلا إسفاف. وقد جاء في الحديث الذي يرويه أبو داود وابن ماجة يحسنه الشيخ الألباني عن أبي أمامة ثعلبة الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “البذاذة من الإيمان” والبذاذة معناها: التجوز وعدم المبالغة في الاهتمام باللباس، بل يلبس كما يلبس أواسط الناس. بلا إسفاف أي: بلا استهتار ونزول عن مستوى أواسط الناس. والله أعلم.

 

20- حسن الإعداد للمادة الدعوية منطقا ومنطوقا (مادة وأسلوبا): سواء كانت خطبة جمعة، أو محاضرة دينية، وحسن الإعداد يكون بالعناية بالأدلة الشرعية من كتاب الله والسنة الصحيحة، والأخذ من كتب العلماء المعتبرين، وترك الكتب مجهولة المصادر، أو مجهولة المؤلف، والانتباه للأحاديث الضعيفة والموضوعة، ففي ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم غنى عنها، ولكي يثق المتلقي بما تقول ويطمئن لما تدعوهم إليه، ويختار في كل موسم ما يناسبه من المواضيع، فهناك مواضيع موسمية لا يمكن تجاهلها، للداعية خطيب أو غيره، هذا من حيث المادة وهي المنطوق. والحذر كل الحذر من الإلقاء للناس عفو الخاطر بلا إعداد وتحضير فإنه جالب للملل ومنقص للقدر ومبعد عن تحقيق الهدف.

أما من حيث المنطق والأسلوب فلكل مقام مقال، فمقام الوعظ والزجر يختلف عن مقام التفقيه والدروس المنهجية، ومقام البسط والتطويل يختلف عن مقام التجوز والاختصار، فخطب الجمعة لا يناسبها التطويل، بل يجعلها مختصرة مركزة واضحة الأحكام مفهومة المعنى، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الاختصار في خطبة الجمعة علامة على علم الخطيب وفقهه، ففي صحيح مسلم عن عمار بن ياسر رضي الله قال: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا هذه الصلاة، واقصروا هذه الخطب، فإن من البيان لسحرا»، وقوله صلى الله عليه وسلم: “وإن من البيان لسحرا” إشارة إلى العناية بالأسلوب التي تقدم به المادة الدعوية، وعلى قدرة صاحب البيان على التأثير بالمستمع حتى يؤثر فيه كما يؤثر السحر بالمسحور.

(وأنصح أحبتي الدعاة بإتقان مهارات الإلقاء وأخذ دورات في ذلك فمن المحزن والله أن أخل الباطل أصحاب تأثير كبير على الناس لما يتقنونه من مهارات الإلقاء بينما أهل الحق ودعاة الإسلام يكون إلقاؤهم هزيلا ضعيفا وقد صدق من قال أننا نملك البضاعة الجيدة لكن التسويق غير جيد) وكلمة أخيرة أوجهها لإخواني الخطباء، بوجوب العناية بالخطب، وإعطائها حقها من الإعداد، واختيار الأسلوب المناسب، والعبارات المؤثرة، فالله سبحانه قد تعبد الناس بالذهاب للمسجد كل جمعة وأمرهم بالإنصات إليك، وجعل من يتكلم في حضرة كلامك فقد لغى، ومن لغى لا جمعة له، فأعط الخطبة حقها، وأنزلها حيث أنزلها الله، وبين لهم الأحكام التي يجهلون، وصحح لهم المواقف التي يتبنون، وقل الحق ولو كان مرا، ولا تمر هذه الفتن التي تتطلب منهم موقفا صحيحا ثم لا تبين لهم الحق من الباطل، ولا الموقف والمخرج الشرعي منها، وذلك كله بحكمة لا بفتنة، وبايجاز واختصار وبأسلوب يحرك القلوب، وينير الدروب، أعاذنا الله وإياكم من جميع الفتن والخطوب.

 

21- التوكل على الله والإكثار من الدعاء: وهذان الأمران يحتاجهما كل مسلم في كل وقت، وعلى أية حال، فلا غنى عنه طرفة عين، فهو الهادي وهو الموفق، وقلوب المدعوين بين أصبعين من أصابعه، فلو شاء لفتح لكلماتك القلوب، واختصر عليك الدروب، فأفلحت ونجحت، وبورك لك وقتك وعلمك ودعوتك، ففوض أمرك إلى الله فإنه بصير بك وبغيرك، واعلم أن هذا الدين منصور بك ومن دونك، واحذر أشد الحذر، من العجب بنفسك، أو احتقار غيرك، فالله من هدى وخذل، وليس لك من الأمر شيء، فإن حصل لك نجاح فذاك فضل الله فاحمده واشكره، وإن حصل لك إخفاق فهذا أمر الله، وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى