مقالات الأعداد السابقة

معالم في طريق الدعوة 8: (قواعد في الدعوة إلى الله)

محمد بن عبدالله الحصم

القواعد جمع قاعدة، وهي الأساس الذي يرتكز عليه، هذا في اللغة، أما ما نقصده بقواعد الدعوة، فأحكام عامة للداعية يعرف بها ما يجب وما لا يجب، وبماذا يبدأ، وكيف يرتب أولوياته.

 

القاعدة الأولى: الإخلاص في الدعوة لله تعالى

هذه هي القاعدة الأولى وهي الإخلاص لله تعالى بأن تكون دعوته لله ليست له مآرب أخرى، وأهداف دنيوية، والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: “قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي” والشاهد قوله: “إلى الله”، لأن بعض الناس يجعل من التدين والدخول في صف الدعاة سُلماً لتحقيق مآربه ومجده الشخصي، وطموحاته الدنيوية، قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه في كتاب التوحيد معلقا على هذه الآية الكريمة: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيرا لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه.

فالدعوة المثمرة الصحيحة هي التي “إلى الله”  ليست إلى شخص، أو إلى جماعة، أو إلى قومية ضيقة، أو وطنية أضيق منها،وكم جنى ويجني المسلمون المر من هذه الحزبيات والولاءات الضيقة، فمن كانت تجمعهم كلمة التوحيد فيرى المسلم الموريتاني أن ما يصيب أخاه الاندونيسي أمرا يعنيه، ويراه كالاعتداء عليه تماما، ويتكدر خاطره، ويشعر أن كرامته أهينت، وأرضه استبيحت، أصبح هذا نفسه اليوم لما حللنا عقد الولاء والبراء من الدين والعقيدة، وعقدناه على القومية أو الوطنية أصبح يراه هذا شيئا لا يهمه، ولا يعنيه، ولا يتكدر له خاطر، فضلا من أي يفكر في نصرته والقتال إلى جانبه.

وليست الدعوة حزبية كما عليه حال البعض اليوم، فلا يرى الدعوة الحق إلا ما هو عليه، لذلك لا يفرح لهداية شخص اهتدى على غير ما عليه حزبه، بل ربما تسلط الشيطان عليه فيرى بقاء ذاك الشخص على تفريطه وفسقه وضلاله خير من التزامه مع غير حزبه وعلى غير نهجه.

والأصل أن الأمة واحدة، والحزبية مذمومة في كتاب ربنا قال تعالى: “وإن هذه أمتكم أمة واحدة  وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون”، وقال تعالى: “إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شي إنما أمرهم إلى الله ثم ينبؤهم بما كانوا يفعلون”.

فالحزبية البغيضة سيئة الأثر على الإسلام وأهله، وأدخلتنا في حروب علمية ودعوية إن صح التعبير، مع اتفاقنا على الأصول والكثير من الفروع، وأغلب هذه المهاترات على مسائل يختلف فيها النظر، ويحتملها الرأي والاجتهاد، وكل مأجور إن شاء الله. خاصة وأن الأحزاب أصبح واقعا يفرض نفسه وإن رفضناه ولم نتابع عليه، وندعو إلى خلافه، لكنه حصل فما السبيل ؟! وكيف يتم تجاوزه

أقول نُوَلِّ كلا وما تولى، ونتناصح برحمة فيما بيننا، ونركز على جوانب الاتفاق الكثيرة التي تلزمنا أن نتعاون مع بعضنا. وكل الأخطاء يتم فيها التناصح، وإن كانت من مسائل الاجتهاد فالعذر فيها سابق ولا يجوز الإنكار فيها، وسنبين هذا لاحقا إن شاء الله.

 

القاعدة الثانية: التوحيد أولا

وتعني هذه القاعدة أن التوحيد أول مواضيع الدعوة التي ينبغي للداعي أن يبدأ بها، لأن التوحيد شرط لصحة العمل، فجميع الأعمال لا يقبلها الله إلا بالتوحيد، قال في النظم مقررا هذه القاعدة:

والأدلة على هذه القاعدة كثيرة جدا منها قوله تعالى: “وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ”، وقال سبحانه: “وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ”، وقال: “وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ”.

فإذا كانت الأعمال لا تصح إلا به، فلابد أن يكون التوحيد أولا في العلم والعمل والدعوة، ومن الأدلة على أن التوحيد أولا حديث ابن عباس يقول: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم، تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس» رواه البخاري.

والشاهد من الحديث قوله: “فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله”.

وليس معنى قولنا (التوحيد أولا) عدم بيان محاسن الشرع وآدابه وما جاء به من هدى وأخلاق. لا، بل نعني الاهتمام بهذا الجانب وإعلام المدعو أنه لن يُقبل منه شيء إلا به، وعرضه أولا قبل غيره، فهذا أبو سفيان يعرض دعوة النبي لهرقل الروم وهو يومئذ مشرك فيجيب لهرقل، عن سؤاله بماذا يأمركم؟: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة. [رواه البخاري]. وكذلك لا يعني النهي عن الشرك أولاً الاقتصار عليه حتى يؤمنوا، بل ينكر الشرك وجميع المنكرات، لكنه يبدأ بالشرك ويعظم أمره أولا، فالأنبياء جميعا ذكر الله نهيهم لأقوامهم عن الشرك به، ولم يقتصروا عليه بل نهوهم أيضا عن المعاصي الذنوب الأخرى وهذا واضح في القرآن.

 

القاعدة الثالثة: البدء بالأهم فالمهم

وهذا ترتيب مطلوب في كل شيء فبعد التوحيد، يركز الصلاة، لأنها الركن الثاني في الإسلام بعد الشهادتين، ثم الركن الثالث؛ الزكاة، فالرابع؛ الصيام، فالخامس؛ الحج، وهكذا حتى يأخذوا بكافة عرى الإسلام، كما كان النبي صلى عليه وسلم يبعث الدعاة على ذلك كما في حديث معاذ السابق «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم، تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس».

 

القاعدة الرابعة: الأقربون أولى بالدعوة

والمراد بالأقربين أي بالنسب، فالدعوة معروف وهم أولى الناس به، وقد يغيب هذا المعنى عن جملة من الناس؛ وهو أن ينفع أقاربه دينياً فوق نفعهم دنيوياً، وبهذا أمر الله رسوله وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ” وأنذر عشيرتك الأقربين” قال الطبري: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر عشيرتك من قومك الأقربين إليك قرابة، وحذرهم من عذابنا أن ينزل بهم بكفرهم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: لما أنزلت هذه الآية {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فاجتمعوا فعم وخص، فقال: «يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها».

وهذا مقتضى العقل وما تدعو إليه الفطرة، وإن كانت الدعوة لا تتوقف عندهم، لكن يجب البداية بهم، وهذا ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، فأول من آمن به من النساء أقربهن إليه زوجته خديجة، وأول من آمن به من الرجال أقربهم إليه حبيبه ونديمه أبو بكر، وأول من آمن به من الصبيان ابن عمه وربيبه علي، وأول من آمن به من الموالى مولاه وحبه زيد، وهؤلاء هم أقرب الناس له، صلى الله على نبينا محمد ورضي عنهم أجمعين.

 

القاعدة الخامسة: الأصل في الدعوة الجهرية لا السرية

نعم هذا الأصل، فليس في هذا الدين شيء يستحيى منه فلا يذكر، أو شيء يشك فيه فيخفى، بل آيات بينات، وأحاديث صادقات، وشرائع محكمات، من لدن حكيم حميد، من لا يأتي فيما قال أو شرع باطل من بين يديه ولا من خلفه جل وعز، أو كلام رسول كريم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فهذه دعوتنا واضحة نيرة بينة، أخبار كلها صدق، وأحكام كلها عدل، ومن قام هذا المقام كان الله معه يسدده ويثبته وينصره، وماذا بعد معية الله للدعاة إليه؟! ولنا في أنبياء الله عبرة، لما خاف موسى وهارون من جهل وفرعون وطغيانه أن يبطش بهم “قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى”. وهذا ما حصل؛ يدخل الرجلان على أكبر طاغوت عرفته البشرية فرعون، وفي بلاطه وبين جنوده، فيقول له موسى: “لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا” أي هالكا، ثم بلغ الله من حفظه له أن فلق البحر لموسى لإنقاذه من فرعون، نعم هذه معية الله، وهكذا الله يفعل، وصدق إذ يقول:”ومن يتوكل على الله فهو حسبه”.

وإن كانت هناك ظروف تمنع منها كالدعوة في بلاد تعادي الإسلام وتعاقب الدعاة وتزج بهم في السجون، فهنا يجوز الإسرار بها إبقاء على المهج والأعراض، ودفعا للضرر الواقع، وهذا كما يحصل للأيغور المسلمين في الصين اليوم، وكما حصل  لأهلنا في القوقاز وما حولها في أوائل القرن العشرين على يد الشيوعية البلشفية، والأمثلة على ذلك كثيرة في السابق والحاضر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى