معالم في طريق الدعوة (9): قواعد في الدعوة إلى الله (2)
محمد بن عبدالله الحصم
القاعدة السادسة: ليس على الدعاة إلا البلاغ المبين
وأدلة هذه القاعدة كثيرة جدا ومتنوعة من كتاب الله، منها ما ينص على أن المطلوب من الأنبياء مجرد البلاغ الواضح المبين كقوله تعالى: “فإنما عليك البلاغ المبين” وقال: “فهل على الرسل إلا البلاغ المبين” وليس مطلوبا منهم إكراه الناس على الدين، أو إجبارهم على الهدى، قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” وقال: “إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ”. واختص جل وعلا بهداية القلوب والتوفيق فجعلها له وحده قال تعالى: “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)”.
وفي هذه القاعدة العظيمة راحة للقلب والجسد، ويسر وتيسير، وتطرد الحزن والملل عن الداعية عندما يرى الناس معرضين عن الحق الذي معه مع وضوحه وجلائه، لأنه يعلم أن الهادي هو الله وأن أمر القلوب إليه، فلو شاء لهداهم أجمعين، وأن إعراض الناس عنه ليس فشلا منه، إذ الهادي هو الله، وإنما المطلوب منه فقط البلاغ المبين والواضح. ولم يطلب الله منا أن ننقب عن قلوب الناس ونشق بطونهم، بل أمر بأخذ الناس على الظاهر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم» [متفق عليه عن أبي سعيد].
القاعدة السابعة: إعطاء الناس قدرهم، ومراعاة أحوالهم
والأصل في هذه القاعدة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عن عائشة رضي الله عنها، والحديث مختلف في صحته وممن حسنه الشيخ الألباني والشيخ شعيب الأرناؤط رحمهما الله تعالى.
قال المناوي في شرح الحديث (أنزلوا الناس منازلهم) أي: احفظوا حرمة كل واحد على قدره وعاملوه بما يلائم حاله في عمر ودين وعلم وشرف فلا تسووا بين الخادم والمخدوم والرئيس والمرؤوس فإنه يورث عداوة وحقدا في النفوس [فيض القدير (3/ 57)].
وروى أحمد وغيره عن عباد بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا! ويعرف لعالمنا حقه”.
فأسلوبك لا بد أن يتناسب مع مكانة المدعو وحاله، فتختار له العبارات التي تعبر عن احترامك للكبير ورحمتك وإشفاقك بالصغير، ومعرفة حق العالم، وليس معنى هذا أن تجعل لهؤلاء مجلسا خاصا وهؤلاء مجلسا، أو أن تشتغل بدعوة الأشراف وتترك دعوة الفقراء والضعفاء، فقد نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولم يقبله ممن اقترحه فقال: “وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ”.
القاعدة الثامنة: التمسك بالثوابت
أقصد بالثوابت، الأسس التي قام عليها الإسلام، بحيث إن تنوزل عنها هدم هذا الدين، كالشهادتين وباقي أركان الإسلام، وليس معنى هذا جواز التنازل عن باقي الأمور، لا.. فالله نهانا عن أي شيء من هذا القبيل وتوعدنا توعدا عظيما إن فعلناه، قال تعالى لنبيه محمد ذي الإيمان الراسخ والعقل الراجح صلى الله عليه وسلم: “ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا. إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا”، ولم يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم تغيير شيء من الثوابت، بل طلبوا منه تأجيل هدمهم لمعبوداتهم سنة حتى يحج إليها ويهدى لها، فيهدمونها ويأتونه بأموالها، فأنزل الله هذه الآيات مهددا من يفعل ذلك، فعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم منها.
والآيات كثيرة في هذا، ونذكر آية أخرى وهي قول الله عز وجل: “فلا تطع المكذبين. ودوا لو تدهن فيدهنون”، فالكفرة دينهم باطل لا يضرهم أن يتنازلوا عن شيء منه، فكيف نرضى أن نتنازل عن شيء من ديننا الحق، لكي يتنازلوا هم عن شيء من باطلهم. ورحم الله الشهيد سيد قطب عندما قال في تفسير هذه الآية: “ولقد وردت روايات شتى فيما كان يساوم فيه المشركون النبي صلى الله عليه وسلم، ويدهنون له؛ ليدهن لهم ويلين، كما يودون، ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه؛ ليتابعوه في دينه، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب، على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول!
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان حاسمًا في موقفه من دينه، لا يساوم فيه، ولا يدهن، ولا يلين، حتى وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة، وهو محاصر بدعوته، وأصحابه القلائل يتخطفون، ويعذبون، ويؤذون في الله أشد الإيذاء، وهم صابرون، ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الطغاة المتجبرين، تأليفًا لقلوبهم، أو دفعًا لأذاهم، ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب، أو من بعيد، وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبًا، وأحسنهم معاملة، وأبرُّهم بعشيرة، وأحرصهم على اليسر والتيسير. فأما الدين فهو الدين، وهو فيه عند توجيه ربه؛ حيث يقول له سبحانه: “فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ” اهـ.
وهذه المداهنة المنهي عنها شرعا كما تقدم أصبحت وللأسف منهجا لبعض الدعاة والجماعات، حتى لا يكاد يخلو عمل محرم منهم، وبحجة لن نتركها للعلمانيين، فبدل أن يطبق الباطل على أيدي العلمانيين وأمثالهم، أصبح الإخوة في الله من يتعسفون في تطبيقه بحجة إبقاء الثقة فيهم، فأصبحوا من حيث لا يشعرون أداة من أدوات الباطل، والبعض قد استمرأ ذلك فزين له سوء عمله والعياذ بالله، فلا للباطل كسروا ولا للإسلام نصروا، بل جنوا على الأمة جناية عظيمة حيث تزين بهم الباطل، وأعطوه لبوسا شرعيا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأعجب ما سمعت من الفتاوى في هذا الباب جواز تولي القضاء، بل ووجوب السبق إليه، وأي قضاء؟! القضاء الوضعي!!!
وقد كان السلف يكرهون تولي القضاء الشرعي، تحرجا وورعا من أن يحكم بظلم، أو يحمل على ذلك من قبل ولاة شرعيين أقاموا الدين، وقاموا بالجهاد، فما بال وما حال من ينافس ليحكم بين الناس بالباطل ويجد من يفتي له بذلك؟!!!
فما أبعد ما بين المنهجين!!
وما تقدم أول قيح يفرزه مسلسل التنازلات وهو: تشويه الحقائق، ولبس الحق بالباطل، وضياع البصيرة.
ثانيا: من إفرازاته أيضا تكوين قاعدة من الدعاة ضعيفة قابلة للتنازل إلى أبعد الحدود.
ثالثا: إضعاف الروح الإيمانية عند الأفراد، لأن هذا المنهج يفقدهم معاني الثبات والتضحية والصبر.
إلى غير ذلك من إفرازات قبيحة، وحصاد مر، ولي رسالة كاملة في التمسك بالثوابت فصلت فيها وبينت الآثار السيئة لهذا المنهج، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
القاعدة التاسعة: تجنب الحديث فيما تنكره عقول الناس
والأصل في هذا رواه البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: «حدثوا الناس، بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله».
وما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
نعم ليس مناسبا أن يخوض في مسائل الصفات وخلاف الصفاتية ذاكرا شبههم، بحجة الرد عليها، فعقول الناس لا تدرك هذه الشبهات، وربما زهد أحدهم بدينه، أو علقت فيه شبهة يصعب إزالتها منه.
وقل مثل ذلك في أحاديث الرجاء التي قد تهوّن المعصية وتجرّئ عليها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، حريصا على كتم هذا العلم خوفا أن يتكل الناس ويتهاونوا في أسباب النجاة والفلاح من الاستغفار والعمل الصالح، كما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه في الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاذ رديفه على الرحل، قال: «يا معاذ بن جبل»، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: «يا معاذ»، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا، قال: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، صدقا من قلبه، إلا حرمه الله على النار»، قال يا رسول الله: أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: «إذاً يتكلوا» وأخبر بها معاذ عند موته تأثما.
وقل مثل ذلك في القدر وخلاف أهل السنة مع طائفتي الجبرية والقدرية، لأن القدر سر الله في خلقه ولم يذكر لنا إلا خطوطا عريضة فيه، وليس لنا التعمق فيه، بل موقفنا هو الإيمان بما علمنا من ذلك وتسليم ما اشتبه علينا منه إلى الله.
ومثله الحديث فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم لأن الخوض في ذلك سيوغر القلوب على بعض الصحابة، ويسيء الظن بهم، والمطلوب هو سلامة الصدر عليهم، والترضي عنهم، وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا» رواه الطبراني، وصححه الألباني.
القاعدة العاشرة: التخول في الموعظة كراهية السآمة
والوعظ هو النصح، والتخول المقصود به التعاهد بالوقت المناسب، لأن القلوب إذا اعتادت على سماع الوعظ بشكل يومي ملَّت وقست، فمن المناسب اختيار أوقات متباعدة، مثل مرة في الأسبوع، أو نحو ذلك ليحصل المقصود بها من ترقيق القلوب، وهذا واضح لمن تأمله.
والأصل في هذه القاعدة حديث عبد الله بن مسعود، ففي الصحيحين عن شقيق أبي وائل، قال: كان عبد الله يذكرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهية أن أملكم، «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام، كراهية السآمة علينا»
القاعدة الحادية عشرة: الجمع بين الوعظ والتعليم
الناس بحاجة إلى أمرين من الداعية:
الأمر الأول: التعليم
الأمر الثاني: الوعظ
فالتعليم هو للمسائل التي يحتاجونها من طهارة وصلاة ومسائل عقدية وغير ذلك، وأما الوعظ فهو ترقيق القلوب وزيادة الإيمان بالترهيب والترغيب، ومن الأخطاء الواقعة أن ينصرف جهد الداعية لأحد الأمرين دون الآخر فتجده منشغلا بتعليم المسائل ولم يعظ الناس يوما، أو دائما ما يعظ لكن دون تعليم للمسائل وتفقيه للناس، فالجمهور الأول تجده يعلم مع قسوة قلب، والجمهور الثاني تجده رقيق القلب مع جهل!
والمقصود بها أن يجمع الداعية بين تعليم العلم وزجر القلوب وتحريكها للأخذ به، لأن الكثير يقدم المادة العلمية بلا مشاعر، فتصبح مادة جافة في قلب المتلقي، فمثلا عندما يعلم الناس الوضوء يجعله حركات مجردة، لا يحرك القلوب بذكر فضل هذه العبادة، وكونها شطر الإيمان، وأثرها في تكفير الذنوب، بخروج الخطايا مع الماء أو مع آخر قطر الماء من عينيه، ويديه، وقدميه.
وفي الصلاة مثلا يلفت انتباه المتلقي لإظهار الحروف وتحقيقها، دون التنبيه، لمعانيها ورمزيتها، وينبه لسكون الحركة بعد الركوع وطمأنينة الحركة، دون أن ينبه إلى كونه موقف حمد لله يستشعر به فضل الله عليه ونعمه التي لا تحصى، وما في توفيقه للوقوف بين يديه من اجتباء واصطفاء لهذا الموقف العظيم.
وهكذا في باقي أركان الصلاة، وفي الزكاة، والصيام، والحج، وسائر العبادات، ذات الحكم الظاهرة، والأسرار التي قد تخفى على الكثير فيجليها للناس ليأخذوا بها بقوة وقناعة، ويؤدونها بحب وإخلاص، وشتان بين مصل يستشعر هذه المعاني، وبين آخر يؤديها كحركات مجردة لا لون لها ولا طعم. والله أعلم.