مقالات الأعداد السابقة

مع نبي الرحمة: الصدع بالدعوة إلى الله تعالى ورد قريش

(مختصراً من اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون)

 

الصدع بالدعوة وردود فعل قريش:

لما أظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدعوة للإسلام، وصدع بالحق كما أمره الله تعالى، لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك، أعظموه وناكروه([1])، وأجمعوا على خلافه وعداوته، إلا عمه أبو طالب الذي حدب([2]) عليه، ومنعه وقام دونه.

ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دعوته مظهرا لأمر الله تعالى لا يرده عنه شيء، ومعكرا على خرافات الشرك وترهاته، ويذكر حقائق الأصنام، وما لها من قيمة في الحقيقة، يضرب بعجزها الأمثال، ويبين بالبينات أن من عبدها وجعلها وسيلة بينه وبين الله تعالى فهو في ضلال مبين.

إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد فاجأ العرب بما لم يكونوا يألفونه، وقد استنكروا دعوته أشد الاستنكار، وكان كل همهم القضاء عليه وعلى أصحابه، فكان ذلك ردا تاريخيا على بعض دعاة القومية الذين زعموا أن محمدا -صلى الله عليه وسلم- إنما كان يمثل في رسالته آمال العرب ومطامحهم حينذاك، وهو زعم مضحك ترده وقائع التاريخ الثابتة كما رأينا، وما حمل هذا القائل وأمثاله على هذا القول إلا الغلو في دعوى القومية وجعل الإسلام أمرا منبثقا من ذاتية العرب وتفكيرهم، وهذا إنكار واضح لنبوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخفض عظيم لرسالة الإسلام([3]).

 

وفد قريش إلى أبي طالب:

فلما طال ذلك ورأت قريش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعتبهم([4]) من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، وهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري، والأسود بن المطلب، وأبو جهل عمرو بن هشام، والوليد بن المغيرة، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، والعاص بن وائل، فقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد شب آلهتنا وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.

 

موقف الوليد بن المغيرة:

روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم! إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة([5])، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق([6]) أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره([7]) عن غيره.

فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة: {ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر}([8]).

_____________

([1]) المناكرة: أي المحاربة.

([2]) حدب عليه: أي عطف وأشفق عليه.

([3]) انظر السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى ص ٤٩.

([4]) لا يعتبهم: اي لا يرضيهم.

([5]) الطلاوة: أي رونقا وحسنا.

([6]) الغدق: المطر الكثير.

([7]) يؤثر: أي يروي ويحكى عنه.

([8]) سورة المدثر آية (١١ – ٢٥)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى