مقالات الأعداد السابقة

مع نبي الرحمة: تهديد قريش لأبي طالب.. ومحاولة قتله ﷺ

الرحيق المختوم

 

جاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهَهُ، وإنا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفّه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين.

عظُم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله ﷺ وقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني، فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظنّ رسول الله ﷺ أن عمه خاذله، وأنه ضعف عن نصرته، فقال: (يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر -حتى يظهره الله أو أهلك فيه- ما تركته)، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولّى ناداه أبو طالب، فلما أقبل، قال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداَ. وأنشد:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر وقرّ بذاك منك عيونا

 

قريش بين يدي أبي طالب مرة أخرى

ولما رأت قريش أن رسول الله ﷺ ماضٍ في عمله؛ وعرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله ﷺ، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم في ذلك، فذهبوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة وقالوا له: يا أبا طالب إن هذا الفتى أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفّه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه. هذا والله ما لا يكون أبداً. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فقال: والله ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك.

لا تذكر المصادر التاريخية زمن هاتين الوفادتين، لكن يبدو بعد التأمل في القرائن والشواهد أنهما كانتا في أواسط السنة السادسة من النبوة، وأن الفصل بين الوفادتين لم يكن إلا يسيرا.

 

فكرة الطغاة في إعدام النبي ﷺ

وبعد فشل قريش وخيبتهم في الوفادتين، عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه ﷺ بطريق أخرى، وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي سبّبت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة، وهما: حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب .

فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوماً إلى رسول الله ﷺ فقال: أنا أكفر بـ «النجم إذا هوى» و«بالذي دنا فتدلى» ثم تسلط عليه بالأذى، وشقّ قميصه، وتفل في وجهه، إلا أن البزاق لم يقع عليه، وحينئذ دعا عليه النبي ﷺ وقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك)، وقد استجيب دعاؤه ﷺ، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش، حتى نزلوا في مكان من الشام يُقال له الزرقاء، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أخي، هو والله آكلي كما دعا محمد عليّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام، فغدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه.

ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطئ على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان.

ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله ﷺ ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل، قال: قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نُسْلمك لشيء أبداً، فامضِ لما تريد.

فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجراَ كما وصف، ثم جلس لرسول الله ﷺ ينتظره، وغدا رسول الله ﷺ كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم، ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله ﷺ، احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه، مرعوباً قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمّ بي أن يأكلني.

قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله ﷺ قال: ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه.

وبعد ذلك فجعل أبو جهل برسول الله ﷺ، ما أدى إلى إسلام حمزة وسيأتي.

أما طغاة قريش فلم تزل فكرة الإعدام تنضج في قلوبهم، روى ابن إسحاق عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكروا رسول الله ﷺ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله ﷺ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله ﷺ، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال: (أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح)، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجلٌ إلا كأنّما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدّهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول: انصرف يا أبا القاسم، فو الله ما كنت جهولاً.

فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ثم انصرفوا عنه. قال ابن عمرو: فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه، قط.

وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ﷺ، قال: بينا النبي ﷺ يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي ﷺ، وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى