مقالات الأعداد السابقة

مع نبي الرحمة: حفظ الله تعالى، نبيه -صلى الله عليه وسلم- من أدران الجاهلية

ظلت حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى البعثة حياة فاضلة شريفة، لم تعرف له فيها هفوة، ولم تحص عليه فيها زلة، لقد شبّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحوطه الله تعالى بعنايته، ويحفظه من أقذار الجاهلية، لما يريده له من كرامته ورسالته، حتى صار أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى صار معروفا “بالأمين” -صلى الله عليه وسلم-.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم قال الله تعالى يعدد نعمه على عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: {ألم يجدك يتيما فآوى. .} وذلك أن أباه توفي، وهو حمل في بطن أمه عليه السلام، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب، وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب، إلى أن توفي، وله من العمر ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدرر ويوقره، ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله تعالى على رأس أربعين سنة من عمره، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان، وكل ذلك بقدر الله تعالى وحسن تدبيره، إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل، فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم، فاختار الله تعالى له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج، كما أجرى الله تعالى سنته على الوجه الأتم والأكمل، فلما وصل إليهم آووه، ونصروه، وحاطوه، وقاتلوا بين يديه، رضي الله عنهم أجمعين. وكل هذا من حفظ الله تعالى له وكلاءته وعنايته به -صلى الله عليه وسلم-.

بغضت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأصنام:
ونشأ -صلى الله عليه وسلم- سليم العقيدة، صادق الإيمان، عميق التفكر، غير خاضع لترهات الجاهلية، فما عرف عنه أنه سجد لصنم قط، أو تمسح به، أو ذهب إلى عراف أو كاهن، بل بغض إليه عبادة الأصنام، والتمسح بها، روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن عروة بن الزبير قال: حدثني جار لخديجة بنت خويلد رضي الله عنها، أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول لخديجة: “أي خديجة، والله لا أعبد اللات، والله لا أعبد العزى أبدا”. قال: فتقول خديجة رضي الله عنها: خل اللات، خل العزى.
ولما لقي بحيرا الراهب، قال له بحيرا: أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وكان بحيرا سمع قومه يحلفون بهما، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لا تسألني بحق اللات والعزى شيئا، فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضي لهما”.
وروى النسائي في السنن الكبرى بسند قوي عن زيد بن حارثة -رضي الله عنه- قال: . . . كان صنمان من نحاس يقال لهما: إساف، ونائلة يتمسح بهما المشركون إذا طافوا، فطاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وطفت معه، فلما مررت، مسحت به، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا تمسه”، قال زيد: فطفنا، فقلت في نفسي: لأمسنه حتى أنظر ما يكون، فمسحته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “لا تمسه، ألم تنه؟ “.
قال زيد: فوالذي أكرمه، وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه، وأنزل عليه.

بغض إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشعر:
وكذلك بغض إليه -صلى الله عليه وسلم- قول الشعر، فلم يعرف عنه أنه قال شعرا، أو أنشأ قصيدة، أو حاول ذلك، لأن ذلك لا يتلاءم ومقام النبوة، ولم يكن الشعراء بذوي الأخلاق، والسيرة المرضية، فلا عجب أن نزهه الله سبحانه وتعالى عن الشعر، والرسالة تقتضي انطلاقا في الأسلوب والتعبير، والشعر تقيد والتزام، وصدق الله تعالى حيث يقول: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له}.
ومع هذا فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتذوق ما في الشعر من جمال، وحكمة، وروعة، ويستنشده أصحابه أحيانا، ولا عجب فهو القائل -صلى الله عليه وسلم-: “إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر حكمة”.
وهو القائل لحسان بن ثابت -رضي الله عنه-: “اهج المشركين، فإن جبريل معك”.

لم يشرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمرا، ولا قرب من فاحشة:
ولم يشرب خمرا قط -صلى الله عليه وسلم-، ولا اقترف فاحشة، ولا انغمس فيما كان ينغمس فيه أهل الجاهلية حينئذ من اللهو، واللعب، والميسر، ومصاحبة الأشرار ومعاشرة القيان، . . . على ما كان عليه من فتوة وشباب، وشرف ونسب، وعزة قبيلة، وكمال، وجمال، وغيرها من وسائل الإغراء.
ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر ذلك، وهو كبير، ويعده من نعم الله تعالى عليه، وعصمته له، فقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك بسند حسن عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “ما هممت بقبيح مما يهم به أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهلنا نرعاها: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء وصوت دفوف ومزامير، قلت: ما هذا؟
قالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟
فأخبرته، ثم فعلت ليلة أخرى مثل ذلك، فخرجت، فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فسمعت كما سمعت، حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي، فقال لي: ما فعلت؟
فقلت: ما فعلت شيئا”.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “فوالله ما هممت بعدهما بسوء مما يعمله أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته”.

________
مختصراً من (اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى