مقالات الأعداد السابقة

مع نبي الرحمة: دعوته خفاءً وعلناً في الأقربين

(مختصراً من اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون)

 

استخفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في دار الأرقم

كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يأمر أصحابه بالتزام الحيطة، والحذر، والتخفي، وعدم الإعلان عن الإسلام إلى أن يقضي الله أمره، فكانوا إذا أرادوا الصلاة خرجوا إلى الشعاب، فاستخفوا فيها بصلاتهم عن أنظار قريش، وقد بقوا على ذلك طيلة مدة الدعوة السرية.

 

أول دم أهريق في الإسلام

وبينما سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- في نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شعب من شعاب مكة، إذا بجماعة من المشركين يظهرون عليهم، وهم يصلون، فاستنكروا عملهم، وعابوا عليهم ما يصنعون، فلم يتركهم المشركون حتى قاتلوهم، واضطر المسلمون أن يدافعوا عن أنفسهم، فضرب سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أحد المشركين بلحي(١) بعير فشجّه، فكان هذا أول دم أهريق في الإسلام.

روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال: أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أول من أهراق دما في سبيل الله.

هذا الحادث من الاعتداء على المسلمين خلال صلاتهم في الشعاب، حمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على نصح المسلمين بالتخفي، والتزام البيوت مدة من الزمن حتى تستقر الأحوال، وخاصة أن المسلمين ليس لهم من القوة ما يواجهون به قريشا، ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا، وكانت بمعزل عن أعين المشركين ومجالسهم، فاتخذها مركزا للدعوة إلى الله تعالى، ولاجتماعه بالمسلمين من أجل الإرشاد والتعليم، ويتعهدهم بالتربية حتى كوّن -صلى الله عليه وسلم- منهم أناسا يستهينون بكل الآلام والبلاء في سبيل دينهم، وعقيدتهم، وكان من يريد الإسلام يأتي إليها مستخفيا خشية أن يناله أذى من قريش.

ومكث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في دار الأرقم بن أبي الأرقم إلى أن صدع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة كما سيأتي.

مرت ثلاث سنوات، والدعوة لم تزل سرية فردية، وخلال هذه الفترة تكوّنت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها، ثم تنزل الوحي يكلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمعالنته قومه، ومجابهة باطلهم، ومهاجمة أصنامهم جهارا.

 

الجهر بالدعوة

وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين (٢١٤) واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (٢١٥) فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون} [الشعراء].

والسورة التي وقعت فيها الآية -وهي سورة الشعراء- ذكرت فيها أولا قصة موسى عليه السلام من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل، ونجاتهم من فرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه، وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى عليه السلام خلال دعوة فرعون وقومه إلى الله تعالى.

وهذا التفصيل إنما جيء به حين أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدعوة قومه إلى الله، ليكون أمامه، وأمام أصحابه نموذجا لما سيلقونه من التكذيب، والاضطهاد حينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ بداية دعوتهم.

ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل المكذبين للرسل، من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة -علاوة على ما ذكر من أمر فرعون وقومه- ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب بما يؤول إليه أمرهم، وبما سيلقون من مؤاخذة الله إن استمروا على التكذيب، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم لا للمكذبين.

 

الدعوة في الأقربين:

بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتنفيذ أمر ربه، فكان أول شيء فعله أن دعا جميع ذويه وأهل قرابته، وعشيرته من بني هاشم، ونفر من بني عبد المطلب بن عبد مناف، فاجتمع أربعون أو خمسة وأربعون رجلا، فصنع لهم مدا من طعام عليه رجل شاة، فأكلوا حتى شبعوا، وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس، ثم دعا بغمر(2) من لبن، فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يمس، فلما انتهوا من طعامهم وشرابهم بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبرهم بما أنزل الله عليه، وأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يكمل كلامه ويدعوهم إلى الله، فابتدره أبو لهب الكلام، وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمومتك فتكلم بما تريد ودع الصباة(3)، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأن أحق من أخذك فحبسك بنو أبيك، إن أقمت على ما أنت عليه، فهو أيسر عليك من أن تثب عليك بطون قريش وتمدها العرب، فما رأيت أحدا جاء على بني أبيه بشر مما جئتهم به.

فتفرق القوم، ولم يكلمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المجلس.

ثم دعاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثانية، وصنع لهم من الطعام مثل ما صنع أول مرة، فأكلوا وشربوا، ثم خطبهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له”، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: “إن الرائد (4) لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا، والله يا بني عبد المطلب ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟”.

فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به، فوالله لا أزال أحوطك، وأمنعك غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.

ثم تكلم سائر القوم كلاما لينا غير أبي لهب فإنه قال: يا بني عبد المطلب! هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم، فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم، وإن منعتموه قتلتم.

فقالت صفية عمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي طالب: أي أخي! أيحسن بك خذلان ابن أخيك؟ فوالله ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ عبد المطلب نبي فهو هو.

فقال أبو لهب: هذا والله الباطل والأماني، وكلام النساء في الحجال (5)، إذا قامت بطون قريش، وقامت معها العرب فما قوتنا بهم؟ فوالله ما نحن عندهم إلا أكلة رأس (6)، فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا.

 

_________

[1]: لحي البعير: هما العظمان اللذن فيهما الأسنان من داخل الفم، ويكون للإنسان والدابة.

(2) الغمر: بضم الغين وفتح الميم، هو القدح الصغير.

(3) يقال: صبأ فلان إذا خرج من دين إلى دين غيره، وكانت العرب تسمي النبي -صلى الله عليه وسلم- الصابئ، لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام.

(4) أصل الرائد: الذي يتقدم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث.

(5): الحجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب.

(6): ما هم إلا أكلة رأس: أي قليل، قدر ما يشبعهم رأس واحد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى