مقالات الأعداد السابقة

مع نبي الرحمة: رسول الله صلى الله عليه وسلم.. حواضنه، مبعثه، دعوته، أسماؤه

حواضنه صلى الله عليه وسلم

فمنهن أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب.

ومنهن ثويبة وحليمة، والشيماء ابنتها وهي أخته من الرضاعة كانت تحضنه مع أمها، وهي التي قدمت عليه في وفد هوازن، فبسط لها رداءه، وأجلسها عليه رعاية لحقها.

ومنهن الفاضلة الجليلة أم أيمن بركة الحبشية، وكان ورثها من أبيه، وكانت دايته وزوجها من حبه زيد بن حارثة، فولدت له أسامة، وهي التي دخل عليها أبو بكر وعمر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقالا: يا أم أيمن ما يبكيك فما عند الله خير لرسوله؟ قالت: إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، وإنما أبكي لانقطاع خبر السماء، فهيجتهما على البكاء فبكيا.

 

مبعثه صلى الله عليه وسلم وأول ما نزل عليه

بعثه الله على رأس أربعين وهي سن الكمال. قيل: ولها تبعث الرسل، وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون سنة فهذا لا يعرف له أثر متصل يجب المصير إليه. (وأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر النبوة الرؤيا، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح). قيل: وكان ذلك ستة أشهر، ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، والله أعلم.

ثم أكرمه الله تعالى بالنبوة، فجاءه الملك وهو بغار حراء، وكان يحب الخلوة فيه، فأول ما أنزل عليه {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [لعلق: ١]. هذا قول عائشة والجمهور.

وقال جابر: أول ما أنزل عليه {ياأيها المدثر} [المدثر: ١]. والصحيح قول عائشة؛ لوجوه، أحدها: أن قوله: ما أنا بقارئ، صريح في أنه لم يقرأ قبل ذلك شيئا.

الثاني: الأمر بالقراءة في الترتيب قبل الأمر بالإنذار، فإنه إذا قرأ في نفسه أنذر بما قرأه، فأمره بالقراءة أولا، ثم بالإنذار بما قرأه ثانيا.

الثالث: أن حديث جابر، وقوله: أول ما أنزل من القرآن {ياأيها المدثر} [المدثر: ١] قول جابر، وعائشة أخبرت عن خبره صلى الله عليه وسلم عن نفسه بذلك.

الرابع: أن حديث جابر الذي احتج به صريح في أنه قد تقدم نزول الملك عليه أولا قبل نزول {ياأيها المدثر} [المدثر: ١]. فإنه قال: فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء، فرجعت إلى أهلي فقلت: زملوني دثروني، فأنزل الله {ياأيها المدثر} [المدثر: ١] وقد أخبر أن الملك الذي جاءه بحراء أنزل عليه {اقرأ باسم ربك الذي خلق} [العلق: ١] فدل حديث جابر على تأخر نزول {ياأيها المدثر} [المدثر: ١] والحجة في روايته لا في رأيه، والله أعلم.

 

ترتيب الدعوة ولها مراتب

المرتبة الأولى: النبوة. الثانية: إنذار عشيرته الأقربين. الثالثة: إنذار قومه. الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة. الخامسة: إنذار جميع من بلغته دعوته من الجن والإنس إلى آخر الدهر.

 

الجهر بالدعوة

وأقام صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفيا، ثم نزل عليه {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [الحجر: ٩٤]. فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة، واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن الله لهم بالهجرتين.

 

في أسمائه صلى الله عليه وسلم

وكلها نعوت ليست أعلاما محضة لمجرد التعريف، بل أسماء مشتقة من صفات قائمة به توجب له المدح والكمال. فمنها محمد، وهو أشهرها. ومنها أحمد، وهو الاسم الذي سماه به المسيح لسر ذكرناه في ذلك الكتاب. ومنها: المتوكل، ومنها الماحي، والحاشر، والعاقب، والمقفي، ونبي التوبة، ونبي الرحمة، ونبي الملحمة، والفاتح، والأمين. ويلحق بهذه الأسماء: الشاهد، والمبشر، والبشير، والنذير، والقاسم، والضحوك، والقتال، وعبد الله، والسراج المنير، وسيد ولد آدم، وصاحب لواء الحمد، وصاحب المقام المحمود، وغير ذلك من الأسماء؛ لأن أسماءه إذا كانت أوصاف مدح فله من كل وصف اسم، لكن ينبغي أن يفرق بين الوصف المختص به أو الغالب عليه ويشتق له منه اسم، وبين الوصف المشترك فلا يكون له منه اسم يخصه.

وقال جبير بن مطعم: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء، فقال: (أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، والعاقب الذي ليس بعده نبي).

وأسماؤه صلى الله عليه وسلم نوعان: أحدهما: خاص لا يشاركه فيه غيره من الرسل، كمحمد، وأحمد، والعاقب، والحاشر، والمقفي، ونبي الملحمة.

والثاني: ما يشاركه في معناه غيره من الرسل ولكن له منه كماله، فهو مختص بكماله دون أصله، كرسول الله، ونبيه، وعبده، والشاهد، والمبشر، والنذير، ونبي الرحمة، ونبي التوبة.وأما إن جعل له من كل وصف من أوصافه اسم تجاوزت أسماؤه المائتين، كالصادق، والمصدوق، والرءوف الرحيم، إلى أمثال ذلك. وفي هذا قال من قال من الناس: إن لله ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم، قاله أبو الخطاب بن دحية، ومقصوده الأوصاف.

 

في شرح معاني أسمائه صلى الله عليه وسلم

أما محمد، فهو اسم مفعول من حمد فهو محمد، إذا كان كثير الخصال التي يحمد عليها، ولذلك كان أبلغ من محمود، فإن محمودا من الثلاثي المجرد، ومحمد من المضاعف للمبالغة، فهو الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره من البشر، ولهذا – والله أعلم – سمي به في التوراة لكثرة الخصال المحمودة التي وصف بها هو ودينه وأمته في التوراة، حتى تمنى موسى عليه الصلاة والسلام أن يكون منهم، وقد أتينا على هذا المعنى بشواهده هناك، وبينا غلط أبي القاسم السهيلي حيث جعل الأمر بالعكس، وأن اسمه في التوراة أحمد.

وأما أحمد، فهو اسم على زنة أفعل التفضيل مشتق أيضا من الحمد…

وتقدير أحمد على قول الأولين: أحمد الناس لربه، وعلى قول هؤلاء: أحق الناس وأولاهم بأن يحمد، فيكون كمحمد في المعنى، إلا أن الفرق بينهما أن ” محمدا ” هو كثير الخصال التي يحمد عليها، و” أحمد ” هو الذي يحمد أفضل مما يحمد غيره، فمحمد في الكثرة والكمية، وأحمد في الصفة والكيفية، فيستحق من الحمد أكثر مما يستحق غيره، وأفضل مما يستحق غيره، فيحمد أكثر حمد وأفضل حمد حمده البشر. فالاسمان واقعان على المفعول وهذا أبلغ في مدحه وأكمل معنى. ولو أريد معنى الفاعل لسمي الحماد، أي كثير الحمد، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الخلق حمدا لربه، فلو كان اسمه أحمد باعتبار حمده لربه لكان الأولى به الحماد كما سميت بذلك أمته.وأيضا: فإن هذين الاسمين إنما اشتقا من أخلاقه وخصائصه المحمودة التي لأجلها استحق أن يسمى محمدا صلى الله عليه وسلم، وأحمد وهو الذي يحمده أهل السماء وأهل الأرض وأهل الدنيا وأهل الآخرة؛ لكثرة خصائله المحمودة التي تفوق عد العادين وإحصاء المحصين، وقد أشبعنا هذا المعنى في كتاب الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكرنا هاهنا كلمات يسيرة اقتضتها حال المسافر وتشتت قلبه وتفرق همته، وبالله المستعان وعليه التكلان.

وأما اسمه المتوكل، ففي صحيح البخاري عن (عبد الله بن عمرو قال: قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم: محمد رسول الله، عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، بل يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله) وهو صلى الله عليه وسلم أحق الناس بهذا الاسم؛ لأنه توكل على الله في إقامة الدين توكلا لم يشركه فيه غيره.

وأما الماحي، والحاشر، والمقفي، والعاقب، فقد فسرت في حديث جبير بن مطعم، فالماحي: هو الذي محا الله به الكفر، ولم يمح الكفر بأحد من الخلق ما محي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه بعث وأهل الأرض كلهم كفار إلا بقايا من أهل الكتاب، وهم ما بين عباد أوثان ويهود مغضوب عليهم ونصارى ضالين وصابئة دهرية لا يعرفون ربا ولا معادا، وبين عباد الكواكب، وعباد النار، وفلاسفة لا يعرفون شرائع الأنبياء، ولا يقرون بها، فمحا الله سبحانه برسوله ذلك حتى ظهر دين الله على كل دين، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار، وسارت دعوته مسير الشمس في الأقطار.

وأما الحاشر، فالحشر هو الضم والجمع، فهو الذي يحشر الناس على قدمه، فكأنه بعث ليحشر الناس.

والعاقب: الذي جاء عقب الأنبياء، فليس بعده نبي، فإن العاقب هو الآخر، فهو بمنزلة الخاتم، ولهذا سمي العاقب على الإطلاق، أي: عقب الأنبياء جاء بعقبهم.

وأما المقفي فكذلك، وهو الذي قفى على آثار من تقدمه، فقفى الله به على آثار من سبقه من الرسل، وهذه اللفظة مشتقة من القفو، يقال: قفاه يقفوه: إذا تأخر عنه، ومنه: قافية الرأس، وقافية البيت، فالمقفي: الذي قفى من قبله من الرسل فكان خاتمهم وآخرهم.

وأما نبي التوبة: فهو الذي فتح الله به باب التوبة على أهل الأرض فتاب الله عليهم توبة لم يحصل مثلها لأهل الأرض قبله. وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس استغفارا وتوبة، حتى كانوا يعدون له في المجلس الواحد مائة مرة: (رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور). وكان يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى الله ربكم فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، وكذلك توبة أمته أكمل من توبة سائر الأمم وأسرع قبولا وأسهل تناولا، وكانت توبة من قبلهم من أصعب الأشياء، حتى كان من توبة بني إسرائيل من عبادة العجل قتل أنفسهم، وأما هذه الأمة فلكرامتها على الله تعالى جعل توبتها الندم والإقلاع.

وأما نبي الملحمة، فهو الذي بعث بجهاد أعداء الله، فلم يجاهد نبي وأمته قط ما جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، والملاحم الكبار التي وقعت وتقع بين أمته وبين الكفار لم يعهد مثلها قبله، فإن أمته يقتلون الكفار في أقطار الأرض على تعاقب الأعصار، وقد أوقعوا بهم من الملاحم ما لم تفعله أمة سواهم.

وأما نبي الرحمة، فهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، فرحم به أهل الأرض كلهم مؤمنهم وكافرهم، أما المؤمنون فنالوا النصيب الأوفر من الرحمة، وأما الكفار فأهل الكتاب منهم عاشوا في ظله وتحت حبله وعهده، وأما من قتله منهم هو وأمته فإنهم عجلوا به إلى النار وأراحوه من الحياة الطويلة التي لا يزداد بها إلا شدة العذاب في الآخرة.

وأما الفاتح، فهو الذي فتح الله به باب الهدى بعد أن كان مرتجا، وفتح به الأعين العمي والآذان الصم والقلوب الغلف، وفتح الله به أمصار الكفار، وفتح به أبواب الجنة، وفتح به طرق العلم النافع والعمل الصالح ففتح به الدنيا والآخرة والقلوب والأسماع والأبصار والأمصار.

وأما الأمين، فهو أحق العالمين بهذا الاسم، فهو أمين الله على وحيه ودينه، وهو أمين من في السماء، وأمين من في الأرض، ولهذا كانوا يسمونه قبل النبوة الأمين.وأما الضحوك القتال، فاسمان مزدوجان لا يفرد أحدهما عن الآخر، فإنه ضحوك في وجوه المؤمنين غير عابس ولا مقطب ولا غضوب ولا فظ، قتال لأعداء الله لا تأخذه فيهم لومة لائم.

وأما البشير، فهو المبشر لمن أطاعه بالثواب، والنذير المنذر لمن عصاه بالعقاب، وقد سماه الله عبده في مواضع من كتابه منها، قوله: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه} [الجن: ١٩]. وقوله: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: ١]. وقوله: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: ١٠]. وقوله: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} [البقرة: ٢٣]. وثبت عنه في “الصحيح” أنه قال: (أنا سيد ولد آدم [يوم القيامة] ولا فخر) وسماه الله سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا.

والمنير: هو الذي ينير من غير إحراق، بخلاف الوهاج فإن فيه نوع إحراق وتوهج.

 

___________

من كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى