مفهوم السيادة في أنظمة الحكم ونشأتها
كثرت الاصطلاحات القانونية في الفقه الدستوري المعاصر، مع كثرة عدد المدارس السياسية، التي تهيمن على تسيير الفكر القانوني، ورسخت مفاهيم سياسية في أنظمة الحكم لم تكن موجودة من قبل، وبرزت أنظمة ذات دلالات خاصة على الأساليب التي تتبعها الدولة الحديثة في الحكم.
وقد برزت في الآونة الأخيرة – بعد ذهاب دولة الخلافة العثمانية في استنبول – ظاهرة تبنّي رجال القانون في البلاد الاسلامية نفس وجهات النظر الغربية التي قال بها الفكر الرأسمالي، وانبثقت من هذه المصطلاحات، وتلكم الأفكار، كلمة السيادة، التي لم تجيء إلى بلاد المسلمين إلا بعد وقوع الأمة الإسلامية بين براثن الاحتلال والغزو والاستعمار، إذ شنّ الكفار على المسلمين هجوماً فكرياً شرساً خبيثاً، فدخلت مفاهيم كثيرة مع دخول الاستعمار إلى حياتنا، ففُرِض علينا الأخذ بصور شتى حتى غدا نظام الحكم عندنا يأخذ صورة نظام الحكم في الدول المستعمرة.
ونظراً لشيوع اصطلاح السيادة، فإن جميع دساتير الدول القائمة في العالم الاسلامي، قد نصّت عليه، وأحاطته بسياج من الحماية المقدسة، وهالة من التقدير بوصفه مكسباً من مكاسب الجماهير.
ومن هنا لابد من إدراك حقيقة السيادة، طالما أن هذا الاصطلاح يحظى بتلك المنزلة في أنظمة الحكم، من خلال وجوده نصاً في الدستور، وعملياً في واقع الحياة السياسية.
ونظراً لخطورة الجهل بإدراك الوقع الذي تدلّ عليه السيادة بعد شيوعها عالمياً، حتى أصبحت نظرية ذات شأن، وقاعدة قانونية ذات بنيان، وأفكار ذات مفاهيم، كان لابد من التعرض لها، لفهم واقعها أولاً ثم لإنزال أحكام الشرع عليها ثانياً.
إن قيام الدولة المعاصرة بأركانها الثلاثة: الشعب، والإقليم، والسلطة السياسية، يترتب عليه تميّزها بأمرين أساسيين، الأول: تمتعها بالشخصية القانونية الاعتبارية، والأمر لثاني: كون السلطة السياسية فيها ذات سيادة. “نظرية الدولة في الإسلام، ص47”.
ومن المهم تعريف السيادة وبيان نشأتها؛ لأمرين؛ الأول: أهمية بيان المصطلحات السياسية وتطبيقاتها في الدولة الإسلامية، الأمر الثاني: كون السيادة أساس التفرقة بين دار الحرب ودار الإسلام. وسنقتصر البحث في النقاط التالية:
1 – تعريف السيادة.
2 – نشأة مبدأ السيادة في الفكر الغربي.
تعريف السيادة لغة:
السيادة لغة: من سود، يُقال: فلان سَيِّد قومه إذا أُريد به الحال، وسائِدُ إذا أُريد به الاستقبال، والجمع سَادَةٌ، ويُقال: سادهم سُوداً سُودُداً سِيادةً سَيْدُودة استادهم كسادهم وسوَّدهم هو الـمسُودُ الذي ساده غيره فالـمُسَوَّدُ السَّيّدُ. “مختار الصحاح، مادة: [سَوَدَ]”.
والسَّيِّدُ يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومُحْتَمِل أَذى قومه والزوج والرئيس والمقدَّم، وأَصله من سادَ يَسُودُ فهو سَيْوِد، والزَّعامة السِّيادة والرياسة. “صحاح اللغة، ولسان العرب، مادة: [سَوَدَ]، و لسان العرب، مادة: [زَعَمَ]”.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: “السيد الله تبارك وتعالى” أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في كراهية التمادح، رقم: 4806، والمعنى: أَي هُوَ الحَقِيق بِهَذَا الاسم والذي تَحِقُّ له السيادةُ، المالك لنَوَاصِي الْخَلْق، وهذا لا ينافي سيادته صلى الله عليه وسلم المجازية الإضافية المخصوصة بالأفراد الإنسانية، حيث قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر.
وقال صلى الله عليه وسلم: “أَنَا سَيِّدُ الناس يَوْمَ الْقِيَامَةِ”أخرجه البخاري، رقم:3162، ومسلم رقم: 194، واللفظ له. وإنما قال هذا صلى الله عليه وسلم لأمور منها: أن هذا من باب التحدث بنعم الله، ومنها أن الله أمره بهذا نصيحة لنا بتعريفنا بحقه، وهو سيد الناس في الدنيا والآخرة وإنما خص يوم القيامة لارتفاع السؤدد فيه، انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 3/66.
وخلاصة المعنى اللغوي للسيادة أنها تدل على المُقدم على غيره جاهاً أو مكانة أو منزلة أو غلبة وقوة ورأياً وأمراً، والمعنى الاصطلاحي للسيادة فيه من هذه المعاني.
تعريف السيادة اصطلاحاً:
وفيما يلي بعض تعريفات السيادة من خلال وجهة نظر رجال القانون الوضعي:
التعريف الأول هو: “حق النفوذ والسلطان، والأمر والنهي، وما يتبع ذلك من جزاء، وهي قوة تمثل حق الجماعة فيما يختص بموقفها حيال المواطنين داخل حدودها، وفي علاقاتها مع الأسرة الدولية”. السياسة والحكم في ضوء الدساتير المقارنة ص 259.
التعريف الثاني: “سلطة أصلية مطلقة غيرمحددة تهيمن على الأفراد والجماعات”. أصول الحقوق الدستورية ص 31.
التعريف الثالث: “السلطة العليا التي لا تعرف فيما تنظم من علاقات سلطة عليا أخرى إلى جانبها”. الوسيط في القانون الدستوري – متولي ص 17.
التعريف الرابع : وصف للدولة الحديثة يعني أن يكون لها الكلمة العليا واليد الطولى على إقليمها وعلى ما يوجد فوقه أو فيه”. معجم القانون، ص637″.
التعريف الخامس: “سلطة أصلية مطلقة غير محددة تهيمن على الأفراد والجماعات”. السياسة والحكم في ضوء الدساتيرالمقارنة ص259.
التعريف السادس: “هي سند الحكم، ومعنى السند أنه هو المرجع الذي يكسب القانون أو الرئيس حق الطاعة والعمل بأمره”. الديموقراطية في الاسلام.
هذه مجموعة تعريفات للسيادة صدرت من تصوّر واحد هيمن على الذين وضعوها، وكان مبحث هذا التصور، هو التماشي مع ما يجري في أبحاث القانون الوضعي، الذي فصل الدين عن السياسة بدون احتكام لنصوص الشرع، وهذا واضح في كون العالم المعاصر اليوم، لا يخضع في نظرته للأشياء والأفعال إلا من خلال المبدأين السائدين في الغرب والشرق، الرأسمالية والاشتراكية.
أما الفكر الإسلامي فكما هو شأنه دوماً، يضل صاحب رأي محدد ووجهة رأي معينة في شتى أمور الناس والحياة، وكافة العلاقات في المجتمع والدولة، والعلاقات الخارجية، وذلك لأن الدولة في الإسلام لم يأمر الشرع بإقامتها فحسب، إنما شرع الله سبحانه قيامها، لتكون الطريقة الشرعية الوحيدة لتطبيق الإسلام على الناس، ولحمل الدعوة إلى العالم عن طريق الجهاد في سبيل الله.
فكلمة السيادة اصطلاح غربي، والمراد بها في الواقع بعد استقراء وجهات نظر رجال القانون الوضعي، هو أنها الممارس للإرادة والمسير لها في العلاقات جميعها، وحتى في الأشياء.
ومن هذا المنطلق فإن أدق تعبير يصف واقع السيادة وفق هذا المفهوم من وجهة نظر الشرع هو أنها: السلطة العليا المطلقة التي تفردت وحدها بالحق في إنشاء الخطاب الملزم المتعلق بالحكم على الأشياء والأفعال. “قواعد نظام الحكم في الإسلام، ص24”.
نشأة مبدأ السيادة في الفكر الغربي:
السيادة بمفهومها المعاصر فكرة حديثة نسبياً مرّت بظروف تاريخية، حيث كان السائد أن الملك أو الحاكم يملك حق السيادة بمفرده، ثم انتقلت إلى رجال الكنيسة فكانت سنداً ودعماً لمطامع البابا في السيطرة على السلطة، ثم انتقلت إلى الفرنسيين ليصوغوا منها نظرية السيادة في القرن الخامس عشر تقريباً أثناء الصراع بين الملكية الفرنسية في العصور الوسطى لتحقيق استقلالها الخارجي في مواجهة الامبراطور والبابا، ولتحقيق تفوقها الداخلي على أمراء الإقطاع. “الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي، ص 23-55”.
وارتبطت فكرة السيادة بالمفكر الفرنسي “جان بودان” الذي أخرج سنة 1577م كتابه: الكتب الستة للجمهورية، وتضمن نظرية السيادة. “أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، ص123”.
وفي 26 أغسطس 1879م صدر إعلان حقوق الإنسان الذي نص على أن السيادة للأمة وغير قابلة للانقسام ولا يمكن التنازل عنها، فأصبحت سلطة الحاكم مستمدة من الشعب، وظهرت تبعاً لذلك فكرة الرقابة السياسية والقضائية لتصرفات السلطة التنفيذية.” معالم الدولة الإسلامية، ص119″.
وقد قرر ميثاق الأمم المتحدة مبدأ المساواة في السيادة بأن تكون كل دولة متساوية من حيث التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات مع الدول الأخرى الأعضاء في الأمم بغض النظر عن أصلها ومساحتها وشكل حكومتها، إلا أن الدول الخمس العظمى احتفظت لنفسها بسلطات، ناقضة بذلك مبدأ المساواة في السيادة، وقد حل محل كلمة السيادة في العرف الحديث لفظ استقلال الدولة. “العلاقات الدولية في الإسلام مقارنة بالقانون الدولي الحديث، ص118”.
بالتالي فالظروف التي نشأت بسببها نظرية السيادة وغيرها من النظريات ليست كالظروف التي مرت بها الدولة الإسلامية، فلا يمكننا أن نأتي بتلك النظريات ونطبقها بكل ما فيها على الدولة الإسلامية، أو أن نعُد عدم وجودها لدينا نقصاً، فقد توجد لدينا الفكرة ولكن بشكل آخر، أو لا توجد أصلاً استغناءً عنها بأنظمة وقواعد عامة في الشريعة الربانية ليست عندهم.