مقالات الأعداد السابقة

مقاومة الإمارة الإسلامية … نموذج الاحتذاء لبقية الإسلاميين

عبدالستار سعید

لقد رفعت إمارة أفغانستان الإسلامية راية المقاومة والنضال من أجل تحكيم النظام الإسلامي في حين كانت أغلب الحركات الإسلامية في القرن العشرين متجهة نحو الهبوط والانهيار، فالإخوان المسلمون الذين فشلوا في الوصول إلى الحكم في مصر وأكثر الدول العربية فكانوا يصارعون من أجل البقاء فقط، ويُحَوِّلون فعالياتهم وأنشطتهم السياسية إلى الخدمات الاجتماعية والترفيهية،

كما لم تنتج الحركة الفكرية للشيخ أبي الأعلى المودودي أي ثمرة ملحوظة في شبه القارة الهندية، وفي الجزائر خسر الإسلاميون المشهد للبراليين بعد أن كانوا على مشارف الانتصار، أما في أفغانستان فبعد أن انهزم العلمانيون الشيوعيون انخرط اثنان من الإسلاميين (مسعود وحكمتيار) في صراع على الحكم، فكلاهما صاحبا تخصص واحد ( الهندسة) وكانا ينتميان إلى الفكر (الإخواني)، فكانت النتيجة أن تحول ذلك الانتصار إلى مأساة حرب داخلية بدلاً من بذل الجهود في بناء النظام.

وهذا التهافت للحركات الإسلامية في أواخر القرن العشرين شجع المستشرق الفرنسي “اوليو راي” على تأليف كتابه بعنوان (هزيمة الإسلام السياسي)، فقد سجَّل المذكور في كتابه بأن الحركات الإسلامية جميعها قد باءت بالفشل، ولم تثمر منها إلا كفاح الخميني في إيران.

هزيمة السياسيين الإسلاميين كانت لها عواملها الداخلية والخارجية، فمن أهم العوامل الخارجية هيكل النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، والتي استولى فيها الدول الأعضاء الخمس الدائمة في مجلس الأمن على الدور المصيري، أما المسلمون الذين فقدوا في ذلك الحين مكانتهم ودورهم المصيري في المؤامرات العالمية، فقد اتفقت القوى العظمى المعادية للإسلام ضدهم، وأجمعوا على ألا يمسح أبداً للإسلام السياسي أن يَحْكُم في أي بقعة من بقاع الأرض.

أما من جملة العوامل الداخلية، انحراف بعض الحركات الإسلامية عن مسيرها، وخيانتها وجفائها لتلك المبادئ التي بسببها كسبت هذه الحركات المكانة والثقة والاحترام في المجتمعات الإسلامية، ولذلك فإن الأجيال الثانية والثالثة لأكثر الحركات قد نسيت تلك المبادئ والأهداف التي من أجلها تأسست هذه الحركات.

عندما ظهرت حركة طالبان الإسلامية في البداية، احتقرتها بعض حركات المقاومة الإسلامية المتنافسة، واعتبرتها حركة موسمية مؤقتة وغير مُنَظَّمة، لكن بمرور الزمن تبين أن خدمة الدين ونصرته في كثير من الأحيان يفتقر إلى القبول لا الأهلية، فإن الهيكلة الظاهرية والتشييد والتنسيق في كفاح الإسلاميين لا يكون مؤثراً بقدر ما يكون الإخلاص للدين والوفاء للأهداف والقيم الإسلامية سبباً في تأييد الله عز وجل ونصره.

لقد رفعت الإمارة الإسلامية – بعد قرون – الراية الساقطة للحاكمية الإسلامية، وبدون أي مقدمات ولا سابق إنذار قدمت للعالم نموذجاً صريحاً للحكم السياسي الإسلامي، فأحيت وطبقت مفاهيم الحكم الإسلامي المندثرة، مثل: أمير المؤمنين، والشريعة، والعدالة الإسلامية، والحدود، والقصاص، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من المفاهيم المنسية، وطبقت شرع الله في أرض الله، وأبطلت جميع تلك الاعتقادات التي تدعي أن النظام الإسلامي لا يمكن تطبيقه في هذا العصر.

ولما كانت المقاومات الإسلامية تواجه دائماً الابتلاءات والمِحَن، فإن الإمارة الإسلامية أيضاً واجهت محنة الغزو الصليبي العالمي، فقد تحالف العالم الكفري بأسره وانضم إليهم الحُكّام الجبناء لبعض الدول الإسلامية، فاحتلوا أفغانستان بشكل جماعي، واستخدموا جميع طاقتهم العسكرية ووظفوا جميع وسائلهم الدعائية واستعانوا بكل المكائد الاستخباراتية، من أجل القضاء على بريق الحاكمية الإسلامية الذي أضاء للمسلمين دربهم بعد قرون، ونفخ فيهم روح اليقظة والحماس من جديد.

بذل أعداء الإسلام جميع طاقتهم ولم يتركوا أي وسيلة ولا سلاح، فاستخدموا القوة والمال والتزوير حتى التوسل والابتهال، لكن الإمارة الإسلامية بهمة عالية وتحمُّل عظيم قابلت هذا الهجوم الواسع للعدو بانتهاجها منهج الصبر والصمود والمقاومة طويلة المدى.

فاستطاعت أن تحتفظ بشعبها المؤمن إلى كنفها، ومعها سلكت طريق الجهاد المقدس، واختارت مقاومة متعددة الجوانب في ضوء الشريعة الإسلامية الغراء والأحكام الفقهية مع مراعاةٍ لضروريات الزمان والمكان، وها نحن اليوم نشاهد بأنها في المجال العسكري استطاعت أن توقف تحالفاً عسكرياً عملاقاً مثل “الناتو” على شفى الهزيمة، وفي المجال السياسي فإنها اتخذت موقفاً يبع بالأمل لدى الجميع، وبصفتها حركة جهادية – سياسية فإنها تمثل دور القدوة المثالية ونموذج الاحتذاء للعالم الإسلامي والحركات الإسلامية.

وقبل أيام حينما اجتمع ممثلي الإمارة الإسلامية – في موقف بطولي للغالية – بصفتهم الطرف الند لقوة عظمى مثل أمريكا على منصة عالمية في العاصمة القطرية “الدوحة”، وحينما انتشرت صورة الملا برادر وإلى جانبه مايك بمبيو في الإعلام، فلو أنكم تابعتم ردود أفعال رواد مواقع التواصل الاجتماعي من الأطياف المختلفة وتأثرهم، لعلمتم المكانة التي يعترف بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها للإمارة الإسلامية، ولأدركتم مدى أهمية مقاومتها وثقلها في أنظارهم.

كادت تتفق أراء الناشطين الإسلاميين في شرق العالم الإسلامي وغربه على أن الإمارة الإسلامية في هذا العصر هي الحركة الوحيدة التي باتت على وشك تحقيق أهدافها نتيجة مقاومتها المشتملة على الإخلاص، والتدبير، والذكاء، والحكمة. ويعتقد هؤلاء الناشطون بأن حركات مختلفة كافحت وما تزال تكافح في مختلف أرجاء العالم من أجل الحاكمية الإسلامية، لكن مقاومة الإمارة الإسلامية وكفاحها من أنجح المقاومات وأكثرها انتصاراً؛ لأنها استطاعت بفضل الله عز وجل هزيمة القوات المحتلة في المجال العسكري، وبفضل الجهاد في سبيل الله أعادت شعور انتصار والبطولة في المسلمين من جديد، كما أنها فرضت نفسها في الساحة السياسية بأنها حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها.

إن الإمارة الإسلامية بدلاً من أن تغيَّر نفسها ومبادئها من أجل المسايرة مع الأوضاع والأحوال، أجبرت دول المنطقة والعالم على تغيير آرائها حيالها، وإعادة النظر في سياساتها من جديد، والإحجام عن مواقفها التي اتخذتها تجاه الإمارة الإسلامية في السابق.

أما سر نجاح الإمارة الإسلامية بصفتها صفاً جهادياً، فإن أصل ذلك يرجع إلى فضل الله وعونه، فلقد مَنَّ سبحانه على الإمارة الإسلامية بقوة غيبية خارقة استطاعت من خلالها الصمود في وجه أعتى قوة عسكرية على وجه الأرض، والمقاومة ضدها، وهزيمتها في النهاية، لكن لو نظرنا إلى الأسباب الدنيوية فإن من أهمها ما يلي:

1. إن سياسة الإمارة الإسلامية وخط سيرها غير مبني على فكر فردي أو اجتهاد شخصي، وإنما يعتمد على أصول الشريعة الإسلامية الغراء، والفقه الحنفي (المذهب المنتشر في البلد)، والثروة العملية للأمة الإسلامية. فإن المسائل هنا لا ينظر إليها بمنظار مدرسة فكرية أو اجتهاد معاصر، وإنما يكون النظر فيها وفق المصادر الدينية والعلمية الموثوقة، وعلى وفق ذلك يتم التعامل معها.

2. إن الإمارة الإسلامية احترمت شعبها، وقَدَّرت قيمه، فلم تفرض على الشعب الأفغاني أي فكرٍ أجنبي مستورد، وإنما وجدت اللغة المشتركة التي يفهما الشعب، فحظيت بثقة شعبها المؤمن، وحافظت عليه، وجعلته خلف صفوفها الجهادية بمثابة القوة الاحتياطية المنسجمة.

3. لو لاحظتم أن أكثر الحركات الجهادية في العقود الأخيرة إنما تعرضت للضعف والزوال بسبب الاصطدامات غير اللازمة، لكن الإمارة الإسلامية خلال تاريخ مقاومتها بقيت ملتزمة ومتيقظة لأهدافها المحددة، وعاملت القضايا على أساس الأولوية، وجعلت قوتها منسجمة ومتحدة، وركزت دائماً على تحقيق أهدافها المُعَيَّنَة.

4. راعت الإمارة الإسلامية دائماً النسبة بين الحماس والتعقل، واستفادة من باب المصالح التي هي من أعظم الأبواب في الشريعة الإسلامية، لكنها لم تتدنّى في تحقيق المصالح إلى الحد الذي يؤدي إلى الضياع والانحراف.

إن مقاومة الإمارة الإسلامية التي استطاعت أن تشق طريقها إلى فوز والانتصار رغم وعورة الطريق وبُعد الهدف، تستحق بأن تدرس بشكل دقيق جداً، وجدير بالحركات الإسلامية في العالم الإسلامية وخاصة مراكز التحقيق والدراسات أن تقوم بدراسات وبحوث في هذا الجانب، حتى يكشفوا أسرار انتصار هذا الصف الإسلامي ثم يبينوه لعامة المسلمين.

ولا شك أن مقاومة الإمارة الإسلامية جديرة بأن تكون قدوة ونموذج الاحتذاء للمناضلين الإسلاميين، وبإمكان الأجيال القادمة أن تحذو حذو الإمارة الإسلامية وتسلك طريقها حتى يتحقق لها النصر والفوز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى