
منابر البلاط
أبو فلاح
‘الخيانة”، “العمالة”، “الارتزاق”؛ مفردات بغيضة في كل ديانة، وفي كل مجتمع، وفي كل عقيدة، إنها مفردات ملعونة لا يهضمها أي منطق سليم، ولا أي ضمير حر، ليس هناك ديانة تبرر العمالة للأجانب، فإن العمالة ظاهرة سيئة عقلا، لا يستسيغها المنطق ولا الدين ولا العرف، إنها العار، إنها الجريمة الكبرى التي لا تغتفر في أي بيئة.
إذن فلماذا يمارسها عدد من أبناء الشعب الأفغاني، أعني جنود إدارة كابُل؟ لماذا يمارسها رجال بذل آباؤهم وأجدادهم أرواحَهم ودماءهم وأموالهم وأهليهم وكل ما في أيديهم، بذلوها رخيصة ضد الإحتلال السوفييتي؟ هل فكرتم لماذا يخدم الآن أبناء شعب مسلم سيماه الكفاح، وشعاره الحرية نظاما يتلقى الأوامر في كل شيء من أسياده المحتلين حتى في تنصيب رئيس الدولة؟ لماذا يخدم أبناء شعب قاتل آباؤهم في سبيل الشريعة والوطن ردحا من الزمن ضد المحتلين، لماذا يخدم هؤلاء الجنود النظام العميل والمستبد، النظام الذي أتى به المحتلون بقوة النار والحديد؟ لماذا يرى هؤلاء هذا النظام مقدسا، والخدمة العسكرية لصالحه جهادا، والموت في سبيل الدفاع عنه استشهادا؟ لماذا يحسبون الدفاع عن أصحاب هذا النظام العميل الذين أتوا على ظهر الدبابات الأجنبية والطائرات الأجنبية بطولةً؟ لماذا.. وألف لماذا؟
إنه منبر البلاط، المنبر الذي يخدم السلطان، قبل أن يخدم الإسلام، المنبر الذي يحمي البلاط قبل أن يحمي عقائد المسلمين، المنبر الذي يبرر للحكام قراراتهم وسياساتهم المخالفة لشريعة الإسلام، قبل أن يدافع عن حقوق الناس، المنبر الذي يقوم بدور “الدلال” لصالح البلاط، قبل أن يبوح بحوائج العامة، المنبر الذي يوالي الدرهم والدينار، أو (للدقة) يوالي الدولار، قبل أن يوالي المسلمين، المنبر الذي يجعل الفتوى بضاعة مزجاة يبيعها للحكام رخيصة، وبذلك يقدم أفلاذ أكباد الشعب لقمة سائغة للضلال والانحراف.
إن المنبر دون شك لا يخص أحدا، وإنما هو للأمة جمعاء، فليُستعمل في مصالح الأمة جمعاء.
لأجل ذلك فإن هؤلاء الجنود الذين يخدمون الاحتلال وإدارة كابل الفاسدة بكل شموخ لا يحسبون بأنهم ظلمة أبدا، (لا أقول كلهم يحملون نفس الشعور، وإنما أقول عدد كثير منهم يشعرون ذلك) إنهم لا يخالون بأنهم يظلمون بني جلدتهم بكل قسوة وجفوة، لم يعد هؤلاء يعتقدون أنهم خونة يخونون دينهم وإخوانهم ووطنهم وترابهم، وإنما يحسبون أنهم يحسنون صنعا، يظنون بأنهم يقومون بواجبهم الوطني والديني والأخلاقي، وربما يتفانون في هذه المسيرة ويُلقون بأنفسهم في التهلكة مقبلين غير مدبرين. لماذا؟
إنهم العلماء، السبب الرئيس إلى حد كبير يرجع إلى العلماء (أستغفر الله) أعني علماء البلاط الذين يستغلون المنابر لأجل بطونهم، ويبررون لجنود إدارة كابُل عمالتهم للأجانب، بل يشجعونهم على العمالة، ويحفزونهم على الخيانة والولاء للأجانب، ويصفون عمالتهم بأنها واجب وطني، وواجب ديني، ويعتبرون انخراطَهم بالجيش العميل جهادا في سبيل الوطن والدين! وهم بذلك يعلِّقون على صدورهم “وسام الخيانة” فإن كتمان الحق حسب تعبير القرآن الكريم خيانة: “وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننّه للناس ولا تكتمونه”.
قد صدق الصادق المصدوق (صلى الله عليه وسلم) إذ قال: “ألا إن شر الشر شرار العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء.” (رواه الدارمي 382).
لا سمح الله أن يكون العالم شرا، فإنه يكون عندئذ -نظرا لثقة المجتمع به- أشد خطرا على الأمة من أي أحد.
إن فتاوى علماء البلاط بلا شك قد جعلت الخيانة فضيلة، والعمالة للأجانب تضحية يُعتز بها وفداء يُفتخر به، قد جعلت هذه الفتاوى قتل أبناء الوطن، والغارات الليلية العنيفة على المدنيين برفقة المحتلين منهجا متبوعا، وجعلت التجسس لصالح المحتلين مفخرة وكفاءة.
فقد تم كل هذا التدليس بسبب فتاواى البلاط المضلِّلة، وفي ظل هذا التدليس بالذات، فقد انقلبت الخيانة واجبا وطنيا ومهمة دينية، واستحالت العمالة شرفا وفضيلة، وتبدلت الهمجية بحق الأبرياء بسالة وتضحية، وفي ظل هذا التدليس، يشن العملاء غاراتهم على أبناء الوطن دون هوادة، والعجيب أنهم يقومون بذلك إيمانا واحتسابا.
ألا يحملون في صدورهم ضمائر ترحم بني جلدتهم؟ ألا يملكون بين جوانحهم قلوبا تتعاطف مع أبناء وطنهم؟ بلى، يملكون كل ذلك. حسناً، فلماذا يرتكبون كل هذه المظالم والمجازر بحق المواطنين الأبرياء؟ ذلك لأنهم فقدوا فطرتهم السليمة، وفسدت وجهة نظرهم، وتبلبل تفكيرهم نهائيا، لماذا؟
السبب يعود إلى غسيل المخ والدماغ الذي يمارسه علماء البلاط على الشعب المسلم. إنهم ينشرون السلبيات والأخطاء التي لا تخلو منها أي حركة جهادية ولا دعوية ولا سياسية، ويكتمون الإيجابيات والفضائل، ويقارنون بين الجهاد المعاصر والجهاد في صدر الإسلام، رغم أن الظروف قد اختلفت، والأحوال قد تبدلت، وبالتالي لا يُتوقع من أحد أن يعمل كما كان يعمل رسول الله أو صحابته (رضوان الله عليهم) خلال ذلك العصر الذهبي.
وبذلك قد صاروا أبواقا للإدارة الفاسدة، وأعوانا للإحتلال الخبيث، موقعين عن أهواء الإدارة الفاسدة وسياساتها المخالفة لشريعة الإسلام. والناس طبعا مأمورون بطاعتهم، ففتوى واحدة من هذه الطبقة تعني التضليل للعامة وتلبيس الحق بالباطل، حسب مصطلح بعض أهل العلم، إن العلماء هم “الموقعون عن رب العالمين” سيذهب هؤلاء حتما إلى مزبلة التاريخ، فالتاريخ يسجل كل صغيرة وكبيرة. إن التاريخ لن يغفر ولن يرحم من يخون الأمة أو من يبرر الخيانة، سوف يحاسبه التاريخ، سوف يحاسبه الشعب، وسوف تلعنه الأجيال القادمة.
كما أن “موت العالِم موت العالَم” كذلك “خطأ العالِم خطأ العالَم” فإن تعامل العالِم نوع من إفتاء للعامة، يستطيع العامّي أن يبرر ذنبه مستدلا بالذنب الذي ارتكبه العالِم. هذه هي الحقيقة التي نلمسها في واقعنا، وخاصة في المجتمع الأفغاني الذي يعتبر العالِم وأقواله وأعماله فوق كل شيء.
وهذا لا يعني أن علماء أفغانستان بأسرهم علماء البلاط، كلا وحاشا!! أبدا!! فإن علماء أفغانستان هم الذين قادوا الحرب ضد الشيوعيين، وهم الذين كانوا يقاتلون في الصف الأول، ثم هم الذين أنقذوا المسلمين من الاختلافات البينية، ثم ثاروا على الاحتلال الأميركي، ولكن (كما هو المعلوم) لا يخلو أي مجتمع من الطبقة المنافقة المتناقضة مع نفسها، والتي تعبد مصالحها قبل كل شيء، والتي استحوذ عليها حب الدنيا وكراهية الموت.
يجب أن يقوم المنبر بدوره التربوي وواجبه التوجيهي تجاه الأمة، يجب أن يواكب الأمة في السراء والضراء، ويساير المسلمين عند الحاجة في قضاياهم، أما منابر اليوم فهي إما أن تنحاز إلى الإحتلال وأعوانه وتطبل لصالحهم، وإما أن تسكت عن حاجات الأمة وتنطق بما لا جمل للأمة فيه ولا ناقة، على سببل المثال، الأمة تعاني من الحرب والاحتلال والمجازر والاعتقلات العمياء والقصف الهمجي، ولكن الخطيب يمشي في واد آخر، يتحدث عن فضيلة المسواك أو التطيب أو عن اغتسال أو ربما اغتسال يوم الجمعة! وذلك خير أحوالها، فإن الأمة لا تبغض الساكت عن الجرائم بقدر ما تبغض المطبل للجرائم والناصر للطواغيت، ومن ثَم، فإدارة كابل تحرص على ولاء هؤلاء المطبلين وبقاءهم في مناصبهم ومكانتهم الاجتماعية، فإن أي إدارة عميلة لن تنجح بدون نجدة هذه الطبقة المطبّلة، ولن تحقق ما يحققه علماء البلاط من إضلال الشباب وتخديعهم، مهما اجتهدت وبذلت كل ما في وسعها، وخاصة هذا المجتمع، المجتمع الأفغاني الذي يرتبط بعلمائه ارتباطا وثيقا وعميقا، والعلماء يملكون نفوذا نوعيا في المجتمع الأفغاني بما فيهم الصالحون والطالحون.