مقالات الأعداد السابقة

منظمة الأمم المتحدة وازدواجية المعايير

أبو سلمان

 

بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد الأهوال التي تعرّض العالم لها في هذه الحرب، تم تأسيس منظمة دولية باسم: (منظمة الأمم المتحدة)، التي نشطت تحت مظلتها منظمات أخرى بأسماء وعناوين متنوعة، مثل: مجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، وغيرها؛ بهدف بدء مرحلة جديدة في تاريخ البشر، مرحلة يبتعد البشر فيها عن الحرب والاحتلال والظلم والعدوان، بغض النظر عن دينه وعقيدته ولونه ولغته، وهذه المنظمات، التي وصل عددها اليوم إلى 15 منظمة، لها نطاقات وأقاليم عديدة، وقد أثرت على عدد كبير من سكان العالم، وكان من المقرر أن تسنّ قوانين يُحترَم فيها الإنسان وقيمه وتقاليده، وأن تُنهي الحروب والاعتداءات على الشعوب والأمم، ولكن هذا الهدف لم يتحقق، بل ربما تبدّلت الأهداف والغايات، وابتُلِيَت هذه المنظمات بازدواجية المعايير والسلوك غير المتوقع.

ومنذ تشكيل منظمة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها؛ لم تتوقف الحروب والإعتداءات، بل زادت وطالت الشعوب المختلفة، وجلّ ضحاياها الشعوب الضعيفة، حيث جُعل منها لقمة سائغة للدول الطمّاعة التي تسعى دائمًا لبسط نفوذها بمبررات تتماشى معها الأمم المتحدة، وتمهّد السبل لتلك الدول بقرارات غير مسؤولة. وتعداد الحروب المندلعة بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة أكبر دليل على ذلك، ويبدو أنها لم تُوفّق في مسؤوليتها وغايتها.

ومن أبرز مظاهر هذه الازدواجية، هي تلك التي نراها في سلوك منظمة الأمم المتحدة ودول وحكومات مسيطرة عليها، والتي تسلط كل أضوائها وقنواتها الفضائية ووكالات أنبائها ودبلوماسيتها التي لا تتوقف على مدار الساعة لتصوّر أن الدفاع عن الوطن والعقيدة والدين أمراً مرفوضًا ومخلًا بحرية وحقوق الإنسان! ولتجعل ممن ظُلموا ودافعوا عن أعراضهم وبيوتهم عناصر شريرة وإرهابية! ولتجعل -في نفس الوقت- من الذين يَقصِفون المدنيين بالقنابل الحارقة والصواريخ المدمرة، ولا يميزون بين مسالم أو مقاتل، ولا بين رجل أو امرأة أو طفل أو شيخ؛ أبطالاً يدافعون عن أراضيهم؛ لتغسل وجوههم المسودة، وتبرر جرائمهم الشنيعة! ولتصوّر للعقول -بشكل بسيط وناعم وبقلب الكلمات والعبارات- أن الحق باطلًا والباطل حقًا، وأن الظالم مظلومًا والمظلوم ظالمًا، فتقلب المعايير والموازين وتدفن الإنسانية!

لقد شاهدنا كل ذلك في اعتداء إسرائيل على غزة المظلومة، حيث قُتِل فيها جراء القصف الصهيوني الغاشم آلاف المدنيين الأبرياء جلهم كانوا أطفالًا ونساءً، وارتكب الكيان الصهيوني جرائم ومجازر على مسمع ومرأى من العالم، فلم تحرك في هذه المنظمات الدولية وهذه الدول المسيطرة ساكنًا، بل ربما ألجمت فضائياتها ودبلوماسيتها حتى لا ترى ولا تسمع ولا تنطق بكلمة واحدة عن جرائم (نتنياهو) في غزة، وهو الذي قتل آلاف المدنيين الأبرياء، وقام أيضا بحرق العشرات منهم، إضافة لمن بقوا تحت الأنقاض.

وكم من مجازر في أفغانستان ارتكبتها الأيادي المجرمة الأمريكية بالقصف العشوائي والمخطط! وكم قُتِل في أفغانستان من الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، فقط لأنهم يعيشون في هذه المنطقة الجغرافية!

وكم قتل أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق من المدنيين! فهل عوقب المجرمون وهل تمت ملاحقة المعتدين؟ وهل نجد إجابة على هذه التساؤلات؟ لا، ﻷن ازدواجية المعايير أصبحت هي القانون الدولي المعاصر!!

ونوَدّ في هذا المقال أن نشير إلى ازدواجية معايير منظمة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها تجاه الأحداث المتماثلة باختصار:

* الأمم المتحدة دائمًا تقوم بنشر تقارير كاذبة بشأن حقوق النساء في أفغانستان، وفي نفس الوقت تتجاهل إنجازات الإمارة الإسلامية في حماية حقوق المرأة، مثل: المهر، والميراث، والنفقة، ومنع الزواج القسري والعنف الأسري، حيث قامت الإمارة الإسلامية، بعد وصولها إلى السلطة، بمعالجة العديد من القضايا في مجال منع الزواج القسري في مختلف الولايات. بالإضافة إلى تجاهلها لحقوق النساء في غزة المظلومة!

* الأمم المتحدة تدّعي دائمًا أنها تدعم حقوق الإنسان وتحافظ على حياته، بينما شاهدنا عكس ما تدّعيه في الحرب على غزة؛ حيث ضاعت فيها حقوق الإنسان في أبشع وجه، وقُتل النساء والأطفال ودفنوا تحت أنقاض المباني، ولم نرَ في هذه المدة أي تحرك أساسي من الأمم المتحدة، كما حصل قبل ذلك خلال الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، فالأمر أصبح باديًا للعيان، ولا يحتاج إلى مزيد من التفاصيل.

* في الوقت الذي واصل (نتنياهو) جرائمه في غزة، فؤجئنا بقرار عجيب من منظمة العدل الدولي، التابعة للأمم المتحدة، حيث أصدرت قرارًا لاعتقال أمير المؤمنين -حفظه الله- في أفغانستان ورجال آخرين في الإمارة الإسلامية، حيث بدت ازدواجية المعايير بشكل صارخ؛ فالمدافع عن الدين والوطن والعقيدة والمتصدي للمحتل؛ يصنّف من مكتب الأمم المتحدة مجرمًا لابد من تعقّبه واعتقاله! وفي الوقت ذاته، يُمعِن المجرم المعتدي المحتل بارتكاب المجازر، دون ملاحقة وتعقّب، وكأن هذه المنظمة تم إنشاءها لدعم المجرمين!

* من المؤسف أن القيم والتقاليد لا تحتل مكانًا في إجراءات منظمة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، فهي تزن كل القيم والتقاليد بميزان الغرب، وكأنها أُسِسَت لتخدم قيم الغرب وتقاليد الشعوب الغربية.

* الأهم من ذلك كله، أن إدارة ترامب أعلنت عن قرارها لتهجير أهل غزة إلى دول أخرى! فهي تريد تهجير قوم من أرضهم الأصلية وتوطينهم في دول أخرى! مخالفة بذلك كل مواثيق الأمم المتحدة وموازين الإنسانية. والأمم المتحدة لا تستطيع الوقوف ضد هذا القرار الظالم، ولا تستطيع إصدار قرار حاسم، ومما يؤسفنا أن بريطانيا والدول الغربية بمساعدة الأمم المتحدة، هجّرت اليهود من مناطق مختلفة إلى فلسطين، وبَنَت لهم فيها دولة غير شرعية ووطنتهم فيها! والتي نشاهد حتى اليوم تداعياتها الخطيرة وعواقبها المريرة.

* الآمال التي بُنيت على الأمم المتحدة لم تتحقّق، ولم يكن لدى شعوب العالم التي نطق الميثاق باسمها أبداً إحساس بأن الأمم المتحدة ملك لها، فهي لم تنتمِ للشعوب، بل انتمت -في أحسن الحالات- إلى الحكومات، ثم انتمت لعدد قليل منها؛ إذ نجد فرقاً هائلاً في الحقوق بين دول تمتلك قوة نووية هائلة ودول محرومة ومجردة من أي قوة. وهناك دول معدودة مُنح لها حق “الفيتو” في مجلس الأمن، وهي تستفيد منه لصالحها، وبذلك ضاعت شرعية الأمم المتحدة عيانًا.

* لو قلنا أن قضية غزة المظلومة وقضية فلسطين أصبحت أكبر دليل على ضعف وعدم استقلال الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها في دعم حقوق الإنسان لكفانا ذلك، حيث أظهر مسار الأحداث المريرة في غزة ضعف هذه المنظمة وازدواج معاييرها.

 

وعلى كل حال، منظمة الأمم المتحدة لم تعمل في عمرها على مواثيقها المحددة، ولم تشق طريقها نحو الغايات المشتركة؛ نحو السِلم والأمن الدولي والتطور واحترام حقوق الإنسان، كما تنصّ عليه مواثيقها، ولم تتحرك لوقف انتهاكات الاحتلال المروعة والمستمرة للقوانين الدولية، ولم تعمل كمنظمة مستقلة، بل أصبحت لعبة لدى الدول الغربية، وعلى رأسها أمريكا. ومسار الأحداث يُظهر أن هذه المنظمة تسير في مسارها الخاطئ المخطط من قِبَل الولايات المتحدة والدول الغربية، وهي -إن أرادت البقاء- تحتاج إلى تغيير جذري في مواثيقها وإجراءاتها، وإلى الكفّ عن الازدواجية التي ترهق الدول والشعوب، وتكاد أن تذهب بالعالم إلى الهاوية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى