مقالات

من اخلاق المجاهد

خلق الرحمة ودوره في تكوين المجتمع المثالي

 إن صفة الرحمة من الصفات التي أودعها الله تعلى في قلوب مخلوقاته حتى يتشاركوا مع أفراح بعضهم وأتراحهم، ويكونوا مثلا رائعاً في التعاطف والتوادد والتساند، ويجتنبوا من الظلم والغش والخيانة وما إلى ذلك من أساليب الاعتداء التي تخدش بالرحمة.

إن الرحمة صفة تجعل الراحم يرثي على أحوال بني نوعه مما يعرض له من المشاكل وما يناله من أذى ومكروه وما ينزل في ساحته من الكوارث والحوادث.

فحينما يرى المسلم الغيور ما ينزل بساحة إخوانه المسلمين من الظلم وانتهاك الحرمة والقتل والإهانة وغير ذلك من أنواع المصائب فإنه تأخذه الرحمة والشفقة عليهم، فيثور ثوران الأسد، وتجذبه الرحمة أن يستهين بحياته، ويدفع نفسه ونفيسه لخلاص المظلومين عن براثن الأعداء المحتلين.

تعريف الرحمة

يعرّف الجاحظ الرحمة بالكلمات التالية: “الرحمة خلق مركّب من الود والجزع، والرحمة لا تكون إلا لمنتظهر منه لراحمه خلة مكروهة، فالرحمة هي محبة للمرحوم مع جزع من الحال التي من أجلها رُحم”[1]. 

ويقول حبنكة في تعريف الرحمة: “الرحمة رقة في القلب يلامسها الألم حينما تدرك الحواس أو يتصور الفكر وجود الألم عند شخص آخر؛ أو يلامسها السرور حينما تدرك الحواس أو يتصور الفكر وجود المسرة عند شخص آخر”[2].

فالرحمة إذن شعور بالمسؤولية تجاه آلام الآخرين وقضاياهم وظروفهم؛ بأن يتألم كما يتألمون، ويبكي كما يبكون، ويبحث عن خلاصهم من مآزق الحياة كما هم يبحثون. وحديث النبي صلى الله عليه وسلم الآتي ذكره من أجمع التعاريف على مظاهر الرحمة، «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَحَابِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى شَيْءٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».[3]

التأكيد الرباني والنبوي على الرحمة 

الرحمة صفة من صفات الله تعالى، وقد وصف نفسه  

بالرحمة في مواضع عديدة من القرآن، بل قد بيّن أنه فرض على نفسه الرحمة. وإليك بعض الآيات القرآنية:

قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. البقرة: 37.

وقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. الأعراف: 153. 

وقال تعالی: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. الغافر: 7.

وقال تعالی: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. الأنعام: 55.

إلى غير ذلك من الآيات القرآنية المؤكّدة على صفة الرحمة.

ومن رحمته تعالى أنه أرسل إلى البشرية رسلاً يتصفون بصفة الرحمة، وكان من أعظم صفات النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. الأنبياء: 107.

فما من مخلوق على وجه الأرض إلا وقد نال قسطا من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مثال للرحمة على جمیع مستویات الإنس والجن، وكتب التاريخ والسير طافحة بمثل هذه الروائع.  

لذلك أكّد النبي صلى الله عليه وسلم على الالتزام بالرحمة تأكيداًَ بالغاً، فمن ذلك:

«الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ اللَّهُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، مَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ، وَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ». الجامع في الحديث لابن وهب.

2ـ «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ». رواه ابن أبي شيبة في مسنده

3ـ «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ». رواه أبو داود  

الطيالسي في مسنده

مواطن الرحمة في الشريعة الإسلامية

ولا يعزبن عن البال أن صفة الرحمة تبقى ما دام تكون في دائرة الشريعة الإسلامية، وأن يرحم الإنسان المواطن التي تستحق الرحمة، وقد عيّن ذلك الشريعة الإسلامية، فعقوبة الجاني، وظلم الظالم، وقتل المحارب الكافر، وقتال الساعين في الأرض الفساد وغيرها؛ إنها مواطن لا تستحق الرحمة، بل الرحمة تقتضي أن يكون الإنسان صارماً قبالة هؤلاء، فالظالم إذا لم يمنع فسوف يتوغل في الظلم، والكافر إذا لم يُقتل أو يُسرى فسيعيث في الأرض الفساد.

وقد منع الله سبحانه وتعالى عن أن يأخذ المسلم رأفة ورحمة تجاه الذين يتجاوزون حدود الشريعة، فقال عن الزانيين: ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله.

من أهم صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رحماء بينهم

وقد وصف الله سبحانه وتعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم رحماء بينهم أشداء على الكفار، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. سورة الفتح: 29.

فهم صارمون في موقفهم تجاه الكفار، موقفهم واحد لا يختلف هو الشدة والقوة، فهم لا يبرحون الكافر حتى يخضع ويستكين لهم، فإما أن يدخل الإسلام فهو عزيز، وإما أن يأبى فيعطي الجزية وهو ذليل صاغر، أو يُقتل فيدخل في النار.

وأما مع المؤمنين فهم يتواضعون، ويتعاطفون، يرحم بعضهم بعضا، ويدفع الضر بعضهم عن بعض، ويتألم بعضهم لآلام بعض.

ولا تتعارض الرحمة في قلوب المؤمنين مع مظاهر  

الشدة على الكفار، لأن الغاية من هذه الشدة تحقيق أهداف الرحمة الحقيقية العامة، فالشدة على الشر تمنع شرورهم، ومنع الشرور هو من الأمور العظيمة التي تستدعيها الرحمة.

ومن أمثلة الشدة بدافع الرحمة شدة المربي كلما دعت الضرورة التربوية إلى ذلك، وشدة الطبيب الناصح على المريض بالجراحة المؤلمة كلما دعت الضرورة العلاجية إلى ذلك. وكذلك المؤمنون في شدتهم على أهل الشر والظلم والبغي والفساد في الأرض، إنها شدة تدفع إليها أهداف الرحمة العالقلة.

أما الرحمة الحمقاء فقد تفضي إلى عكس ما توجبه الرحمة؛ إنها قد تسبب للمريض الهلاك، وتسبب للناشئ الفساد، وتسبب للمجتمع القلق والاضطراب والانهيار والفساد العام[4].

مظاهر الرحمة في الفتوحات الإسلامية

لقد تجلت مظاهر الرحمة والشفقة في الفتوحات الإسلامية في أعظم معانيها، وكانت الفتوحات الإسلامية أمثلة حية لمظاهر الرأفة والرحمة والعفو والصفح يندر نظيرها في التاريخ البشري.

وقد ظهر أعظم مظهر لهذه الرحمة عند فتح مكة حينما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن أعداءه وصفح عن مظالمهم، ونادى في الناس: اليوم يوم المرحمة، اليوم يعز الله قريشاً، ويعظّم الله الكعبة.

وإذا أجلت النظر في كتب التاريخ الإسلامي تجدها مليئة بأمثال الرحمة والشفقة، وما يوم صلاح الدين الأيوبي والسلطان محمد الفاتح عند الفتح والغلبة عنا ببعيد.

فقدان الرحمة في الغزو الاستعماري الأميركي الحديث

وأما ما افتعله الكفار عند الفتح والغلبة من القسوة والظلم والعنف فهو يفوق الذهن البشري، دعْ معاملتهم مع المسلمين، بل لاحظ ما ارتكبوه مع بني جنسهم ودينهم من المجازر المرعبة التي يشيب لهولها الولدان ويبكي لها حتى الشجر والحجر فكيف بالبشر. فقد جرّبت أميركا القنبلة الذرية على البشر غير مرة، جرّبتها على رؤوس البشر في مدينة هيروشيما، وبعدها في نجازاكي المدينتين اليابانيتين. وقد أذاع رئيس بلدة (هيروشيما) في 20 أغسطس آب 1949 م أن الذين هلكوا في اليوم السادس من أغسطس آب 1945 م من اليابانيين يتراوح عددهم بين مائتي ألف وعشرة آلاف ومائتي ألف وأربعين ألفاً[5].

وأما ما ارتكبه الاتحاد السوفياتي في الشرق المسلم، وما فعلته أمريكا في العراق حديثا، وما اقترفته الناتو في أفغانستان وحدود باكستان فحدّث عنها ولا حرج.

تجلي صفة الرحمة في المؤمن المجاهد

وقد حرّض الله المتصفين بالرحمة أن ينهضوا، وينافحوا عن حقوق المستضعفين من الرجال والولدان والنساء الذين أهينت كرامتهم، فقال: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا.



[1] من أخلاق الرسول: ص217، ط: دار التوفيقية للتراث.

[2] الأخلاق الإسلامية: ص5، ط: دار ابن كثير.

[3] رواه آحمد فی مسنده.

[4] انظر: الأخلاق الإسلامية للحبنكة، ص19.

[5] انظر: ماذا خسر العالم، ص: 311.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى