
من بيت متواضع إلى قصور الجنة -إن شاء الله-
أبو يحيی البلوشي
انتصار أفغانستان الحبیبة لم يكن إلا نتاجًا لمعاناة طويلة وآلام عميقة تحملتها الأمهات، وتضحيات جسيمة قدمها المجاهدون وأبناء المجاهدين الذين قدمتهم الأسر المؤمنة لطريق الكفاح في سبيل إقامة شرع الله على ثرى هذه البلاد. أما اليوم، فإن الأمن والعزة الذَين ينعم بهما شعب أفغانستان والرخاء الذي يعيشه، قد تحقق بفضل تضحيات آلاف الفدائيين الذين قدموا حياتهم رخيصة في سبيل إعلاء كلمة الله، مغادرين بيوتهم وأحباءهم أحيانًا دون وداع، ليضعوا أرواحهم على أكفهم ويشقوا طريق الحرية عبر أجسادهم الطاهرة، هازمين أعظم قوى الأرض، على رأسها الولايات المتحدة المحتلة، باذلين في هذا الصراع الغالي والنفيس ومقدمين أروع البطولات في تاريخ الأمجاد.
کان أحد هؤلاء الأبطال، الشبل الباسل الشهید یاسر -تقبله الله- الذي وُلد في عام ١٣٧٠ هـ.ش (1991م)، في بيت طيني متواضع بين سفوح الجبال في منطقة نائية من ديار الهجرة في إيران، في عائلة فقيرة كان الإيمان القوي نبراس حياتها. لم تمضِ سوى سنوات قليلة على ولادته حتى فقد والده، مما اضطر عائلته إلى مغادرة قريتهم والانتقال إلى المدينة سعياً لتحسين أوضاعهم المعيشية.
فانخرط ياسر في سلك الدراسة النظامية، لكنه سرعان ما اتجه إلى مدرسة دينية لطلب العلوم الشرعية. في هذه المدرسة كانت مجموعة من المجاهدين يدرسون طوال السنة ويشتغلون بالجهاد في العطلات، فكان ياسر يستمع إلى قصصهم عن الجهاد ودروسهم في میادین النضال، فتولد في قلبه شغف كبير بالجهاد في سبيل الله ودخل حب الجهاد أعماق قلبه.
بداية طريق الجهاد
يروي أحد أصدقائه قائلاً: “كان ياسر يرافقني دائمًا، خاصة عندما كنت أزور بيوت المجاهدين. ذات يوم، طلب مني أن آخذه معي إلى ميدان الجهاد خلال عطلة العام. رفضت ذلك بسبب صغر سنه، وأخبرته أنه يجب أولاً أن يقضي أربعين يومًا مع جماعة التبليغ. استجاب لنصيحتي وشاركهم، لكنه عاد في العام التالي بإصرار أكبر على الذهاب إلى الجهاد. رفضت مرة أخرى، ونصحته بقضاء أربعين يومًا أخرى مع جماعة التبليغ؛ لكنه، دون أن يخبرني، ذهب إلى أحد المجاهدين القائمين على أمور الجهاد في نفس تلك المنطقة وانطلق إلى معقل المجاهدين في منطقة بهرامتشة بمحافظة هلمند”.
تلقى ياسر تدريباته العسكرية في معسكرات هذه المنطقة وأكمل الدروس التأسيسية، ثم عاد إلى منزله بعد أربعة أشهر؛ لكن اليوم لم يكن كما مضى. كان يشعر في صدره بشوق للجهاد لم يشعر به من قبل. لم يسمح له هذا الحماس في قلبه بالبقاء طويلاً، فعاد إلى أسود أفغانستان ومعقلهم في بهرامتشة وسجل اسمه ضمن قائمة الفدائيين.
ومن قصص شغفه بالعمليات الاستشهادية، أن أحد المجاهدين قال له: “عليك أن تؤجل العملیة الاستشهادیة وتتعلم المزيد من العلوم العسكرية لتصبح أستاذًا قادرًا على تدريب العشرات من الفدائيين الآخرين، وتشارك في أجرهم”. لكن الشهيد، بابتسامته وأخلاقه الرفيعة، كان يرد قائلاً: “دعني وشأني”، وكأن لسان حاله يقول:
مرا و خار مغیلان به حال خود بگذار
که دل نمیرود ای ساربان از ین منزل
“دعني وشأني مع الأشواك والمحن، فقد مضى قلبي بعيدًا عن هذا الوطن”.
وفي إحدى المرات، كان الشهيد ياسر يتجول في سوق مدينة زرنج، مركز محافظة نيمروز، على دراجته النارية، يراقب الطرق ويستعد لعمليته، فنصحه أحد المجاهدين بالعودة إلى بهرامتشه لمواصلة التدريبات، لكنه رد قائلاً: “من دُعي إلى الجنة من الله ﷻ، كيف لك أن تمنعه؟”
أيامه الأخيرة واستشهاده
في أيامه الأخيرة، كان ياسر يقضي وقته في مدرسة أحد العلماء في منطقة خاشرود، وكان ينتظر عمليته، فصار ياسر في تلك الأيام محبوبًا من جميع الطلاب، حتى أن هذا العالم حذّره من شدة تعلق الطلاب به، قائلاً: “لا تترك أثرًا كبيرًا في قلوبهم، لأنهم سيتألمون كثيرًا عند سماع خبر استشهادك”.
أما عن يوم عمليته، فيروي أحد المجاهدين الذين رافقوه قائلاً:
“رأيت الكثير من الفدائيين، لكن شجاعة ياسر أذهلتني. طلب مني قبل العملية أن أشتري له طعامًا، وعندما أخبرته بضيق الوقت، أصر قائلاً: بعد الطعام ستنجح العملية بشكل أفضل (مما يدل على أنه لم يكن يبالي أنه سيرحل عن الدنيا بعد دقائق قليلة). فأطعته، وبعد أن انتهى من طعامه، قال لي: الآن هو الوقت المناسب لتنفيذ العملية”.
نفذ ياسر عمليته الاستشهادية في عام ۱۳۸۷ هـ.ش (2008م) عن عمر ۱۷ عامًا، في مدينة زرنج، مركز محافظة نيمروز. واستهدف العملاء فارتقى ياسر شهيدًا، تاركًا خلفه نموذجا من الإيمان والتضحية للأجیال القادمة.
استشهد البطل ياسر، ليصبح منارة تُنير الطريق للأجيال القادمة، وانضم بعد استشهاده أحد إخوانه إلى ركب المجاهدين، واستمر في الجهاد رغم تعرضه لإصابات عديدة، كما انضم أكثر من عشرة من أقاربه إلى ميادين القتال، من بينهم الشهيد عبد الحق -تقبله الله- الذي أظهر شجاعة مثالیة في معارك مارجه وبهرامتشة (كتب مولوي سعد الله بلوشي سيرة الشهید عبد الحق في كتابه “من نجوم الإسلام في بلاد الأفغان” ص ١٦١، تخليدًا لذكراه).
تقبلهم الله جميعًا وجعلنا خير خلف لخير سلف.