وعاد رمضان..شهر الصيام والقيام والإحسان
أبو حفص
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين بأنْ خصّص لهم شهرًا مباركًا عظيمًا، وسوقًا يربح فيها كل من سعى واجتهد، وترك الرّاحة والكسل، وشمّر عن ساعد الجدّ، وتنافس وفق استطاعته لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وهذا الشهر الفضيل هو رمضان المبارك.
ففي هذا الشهر الكريم تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النّار، وتصفّد مردة الشياطين، وينادي منادي السماء: «يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرّ أقصر».
وشهر رمضان، شهر القرآن والصيام والقيام، شهر التوبة والبر والإحسان، شهرٌ أعزّ الله سبحانه وتعالى أولياءه الصالحين بالنّصر المبين في بدر والفتح العظيم في مكة، وكسر شوكة الأعداء في عين جالوت، وهزم الصليبيين في حطّين.
وكان الصحابة والسلف -رضوان الله عليهم- يقدّرون هذا الشهر الميمون ويوقّرونه، ويبجلونه بالعبادة والقيام، والصحابة كانوا وراء أبي بن كعب رضي الله عنه – وقد اتّخذه عمر بن الخطّاب إمامًا للتراويح- كانوا يتّخذون العصي وراء أبي لطول القيام، وكان الصحابة يقولون: «كنّا يدركنا السحر وراء أبي ونخشى طلوع الفجر، فيسرع غلماننا حتى لا يفوتنا الطعام المبارك أي السحر».
وقد كان العلماء إذا أقبل عليهم رمضان – كالإمام مالك وغيره- يعتزل حتى الدرس ويقول: «إنما رمضان القيام والإحسان والقرآن».
كان سفيان الثوري رحمه الله إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات، وأقبل على قراءة القرآن.
وكان محمد بن إسماعيل البخاري – صاحب الصحيح – يختم في رمضان في النهار كلَّ يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كلَّ ثلاثَ ليال بختمة.
وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في كل ليلتين.
وكان زبيد اليامي: إذا حضر رمضان أحضرَ المصحفَ وجمع إليه أصحابه.
وكان الوليد بن عبد الملك يختم في كل ثلاثٍ، وختم في رمضان سبع عشرة ختمة.
وقال القاسم بن عليٍّ يصف أباه ابنَ عساكر صاحب )تاريخ دمشق): وكان مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، يختم كلَّ جمعة، أو يختم في رمضان كل يوم، ويعتكف في المنارة الشرقية، أي في جامع دمشق.
قال ابن رجب الحنبلي؛ مبينا أفعال هؤلاء السلف، ولأن هناك نهيا عن القراءة في أقل من ثلاثة أيام، الإنسان إذا قرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام لا يفقهه، وهناك نهي عن ذلك، يقول ابن رجب: “وإنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث؛ على المداومة على ذلك، -أن يعيش عمره كله يقرأ القرآن في أقل من ثلاث- فأما في الأوقات المفضلة؛ كشهر رمضان، خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة؛ كمكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن؛ اغتناما للزمان والمكان، وهذا قول -الإمام- أحمد وإسحاق وغيرهما من الأمة، وعليه يدل عمل غيرهم”. من لطائف المعارف.
كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، كان أجود بالخير من الريح المرسلة.. وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: (أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ..)؛ أخرجه الترمذي عن أنس.
قال – صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْل أَجْرِهِ، غَيْر أَنَّه لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيءٌ)؛ أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني. وفي حديث سلمان: (مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَة لذُنُوبِهِ وعتق رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيءٌ)، قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (يُعْطِي اللهُ هَذَا الثَّوَابَ لِمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَن، أو تَمْرَة، أو شَرْبَة مَاء، ومَنْ سَقَى صَائِمًا سَقَاهُ اللهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لا يَظْمَأُ بَعْدَهَا، حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّةَ).