مقالات الأعداد السابقة

وقفات مع الهجرة النبوية!

صلاح الدين (مومند)

من المناسبات التي تتخلل العام الهجري: رأس السنة الهجرية (الأول من شهر محرم)، وذكرى الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من رجب، وبداية الصيام في شهر رمضان، وليلة القدر وتكون في العشر الأواخر من شهر رمضان، وعيد الفطر ويكون أول شوال، وعيد الأضحى ويكون في العاشر من ذي الحجة، وموسم الحج ويكون في الفترة ما بين الثامن إلى الثالث عشر من ذي الحجة.

وقد أطلت علينا المناسبة الأولى من السنة الهجرية الجديدة وهي الحدث الديني الذي ينتظر فيه المسلمون اليوم الأول من شهر محرم، الشهر الأول في التقويم الإسلامي، ويستخدم كثير من المسلمين هذا التاريخ ليتذكروا أهمية حدث الهجرة، الذي هاجر فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب (المدينة المنورة اليوم).

سارت العرب على عدة مراحل في تأريخهم للأحداث، فأول من أرخ هم بنو إسماعيل النبي -على نبينا وعليه السلام-، فأرّخوا بنار نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم أرّخوا من بنيان الكعبة المشرفة، ثم أرّخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرّخوا من حادثة الفيل. وفي كل تلك السنوات التي مضت من تأريخ العرب باختلاف الأحداث التي أرخوا بها، كانت بداية السنة عندهم هي من شهر محرم الحرام، وذلك لكونه من الأشهر الحُرُم الأربعة التي يحرم فيها القتال لدى العرب ويأمن الناس بعضهم البعض، ولكونه الشهر الأول بعد انقضاء موسم الحج وختام مواسم الأسواق عندهم التي تكثر في أيام الحج ورجوع الناس إلى ديارهم.

رُوي عن سعيد بن المسيب أنه قال: جمع عمر رضي الله عنه الناس فسألهم: من أي يوم يُكتب التاريخ؟ فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترك أرض الشرك، ففعله عمر رضي الله عنه وأرضاه.

نعم إنه تاريخ جدير أن يخلّد. لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة، تاركين وراءهم كل شيء، فارين إلى الله بدينهم، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى، وذخائر المال، وأسباب الحياة، وذكريات الطفولة والصبا، ومودات الصحبة والرفقة، ناجين بعقيدتهم وحدها، متخلين عن كل ما عداها.

وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس، بما في ذلك الأهل والزوج والولد، المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة، واستيلائها على القلب، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة.

يقول السيد مصطفى صادق الرافعي الأديب البارع رحمه الله في شأن هذا الحدث العظيم: “انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبأت الدنيا تنتقل كأنما مرّ على مركزها فحرّكها وكانت خطواته في هجرته تخط في الأرض، ومعانيها تخط في التاريخ، وكانت المسافة بين مكة والمدينة، ومعناها بين المشرق والمغرب.

 لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة يعرض الإسلام على العرب كما يعرض الذهب على المتوحشين يرونه بريقاً وشعاعاً ثم لا قيمة له، وما بهم حاجة إليه وكانوا في المحادة والمخالفة الحمقاء والبلوغ بدعوته مبلغ الأوهام والأساطير… وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُذب وأهين ورُجف به الوادي يخطو فيه على زلازل تتقلب، ونابذه قومه وتذامروا فيه وحضّ بعضهم بعضاً عليه وانصفق عنه عامة الناس وتركوه إلا من حفظ الله منهم، فأصيب كبيراً باليُتم من قومه كما أُصيب صغيراً باليتم من أبويه، ولبث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة لا يبغيه قومه إلا شراً على أنه دائب يطلب ثم لايجد ويخفق ثم لايعتريه اليأس.

 قالوا: إن عمه أبا طالب بعث إليه حين كلمته قريش فقال له: يا ابن اخي! إن قومك قد جاؤني فقالوا لي كذا وكذا فابق علي وعلى نفسك ولاتحمّلني من الأمر ما لا أطيق، فظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدأ لعمه ما بدأ وأنه خاذله ومسلّمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال: ياعماه! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر صلى الله عليه وسلم فبكى.

يا دموع النبوة! لقد أثبتَ أن النفس العظيمة لن تتعزى عن شيء منها بشيء من غيرها كائناً ما كان. ثم بدأ الإسلام في رجل وامرأة وغلام ثم زاد حراً وعبداً، أليست هذه الخمس هي كل أطوار البشرية في وجودها، مخلوقة في الإنسانية والطبيعة، فههنا مطلع القصيدة وأول الرمز في شعر التاريخ”.

يقول المؤرخون عن الهجرة النبوية: إن رسول الله دعا الناس إلى دين التوحيد وصعد نجمه، وعلا أمره، وسمي طرفه، وأقبل جده، واشتد عضده رويداً رويداً ولما علمت قريش بإسلام فريق من أهل يثرب، اشتد أذاها للمؤمنين بمكة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة فهاجروا مستخفين.

ولما كثُر أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيثرب، أمر اللهُ المسملين بالهجرة إليها فخرجوا أرسالاً، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة محلّ ولادته مع أبي بكر الصدّيق بعد أن أقام في مكّة منذ البعثة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد ونبذ الشرك ولم تكن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حبّاً في الشُهرة والجاه والسلطان فقد ذهب إليه أشراف مكّة وقالوا له: إن كنت تريدُ بما جئتَ به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرَنا مالاً، وإن كنتَ تريدُ مُلْكاً ملّكناكَ إيّاه، ولكنَّ النبي العظيم أسمى وأشرف من أن يكون مقصوده الدنيا.

 وبعد بيعة العقبة الثانية أيقنت قريش أن المسلمين بالمدينة في عزة ومنعة فعقدت مؤامرة كبرى في دار الندوة؛ للتفكير في القضاء على الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، فاستقر رأيهم على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتىً جلداً فيقتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم جميعاً فيتفرق دمه في القبائل، ولا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعاً فيرضوا بالدية، وهكذا اجتمع هؤلاء على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة ينتظرون خروجه فأذن الله لرسوله بالهجرة فهاجر في شهر ربيع الأول بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه صلى الله عليه وسلم.

عن عائشة أم المؤمنين، حبيبة رسول الله، وبنت خليفته أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمرّ علينا يوم إلا يأتينا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية. وقالت -رضي الله عنها- إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً للمسلين: إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين، وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة، وتجهز أبو بكر فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر.

وقالت أم المؤمنين -رضي الله عنها-: فجهزنا أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب. ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فاختفيا فيه ثلاثة أيام، والمشركون يطلبونهم من كل وجه، حتى كانوا يقفون على الغار الذي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فيقول أبو بكر يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا، فيقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تحزن، إن الله معنا. ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!

فلما سمع بالهجرة الأنصار جعلوا يخرجون كل يوم إلى “حرة المدينة” يستقبلون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى يردهم حر الظهيرة، فكان اليوم الذي قدم فيه رسول الله –صلى الله عليه وسلم– هو أنور يوم وأشرفه فاجتمعوا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – محيطين به متقلدين سيوفهم، وخرج النساء والصبيان وكل واحد يأخذ بزمام ناقة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يريد أن يكون نزوله عنده، وهو يقول دعوها فإنها مأمورة، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم قباء يوم الإثنين 12 ربيع الأول سنة 14 من البعثة الموافق21-9-622م في وقت الظهيرة وأسّس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ملكاً لغلامين يتيمين، وكان مربداً لتمر فابتاعه منهما، ثم بناه مسجداً وكان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم، أن أقام الأسس الهامة للدولة الإسلامية ولقد كانت هذه الأسس ممثلة في بناء المسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار خاصة والمسلمين عامة، وكتابة وثيقة (دستور) حدّدت نظام حياة المسلمين فيما بينهم، وأوضحت علاقتهم مع غيرهم بصورة عامة واليهود بصورة خاصة.

يقول ابن القيم رحمه الله: وصل رسول الله إلى المدينة وفيها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة، ثم أُذِن له في الجهاد، ثم أُمِر به ولم يزل قائماً بأمر الله على أكمل طريقة واأتمّها من الصدق والعدل والوفاء حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان ومن أخبار الكهان وسفك الدماء المحرمة وقطيعة الأرحام، لا يعرفون آخرة ولامعاداً، فصاروا أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم حتى إن النصارى لمّا رأوهم حين قدموا الشام قالوا ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء.

الهجرة النبوية أسست العلاقة الجميلة بين الأنصار والمهاجرين، فقد نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم، وفي أموالهم. وتسابقوا إلى إيوائهم، وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة، إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار، وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس، وطيب خاطر، وفرح حقيقي مبرّأ من الشح الفطري، كما هو مبرّأ من الخيلاء والمراءة!

وآخى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار. وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد، وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها.

حتى أسست العلاقة الجميلة بين بني البشر كافة، فتشكلت علاقة متينة أساسها وحدة العقيدة ووحدة المصير بين جميع المؤمنين، فلم يزل رسول الله قائماً بأمر الله الذي أنزل إليه يدعو الناس إلى توحيد الرب عز وجل، ويحذرهم عقوبات الشرك، ويجادلهم بنور البرهان وآيات القرآن، صابراً على الأذى، محتملاً للمكروه. وقد ألهم الله نبيه أنه مظهر دينه ومعز تمكينه وعاصمه ومستخلفه في الأرض، فليس يثنيه ريب ولا يلويه هيب، افترض الله عليه قتال الكفرة، وأمره أن يجرد السيف لهم وهم في عصابة يسيرة وعدة قليلة مستضعفين مستذلين، يخافون أن يتخطّفهم العرب وتداعى عليهم الأمم وتستحملهم الحروب، فآواهم في كنفه، وأيدهم بنصره وجنوده من الملائكة. (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً). صدق الله العظيم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى