
يمين الدولة السلطان محمود الغزنوي رحمه الله (6)
خطته للتوسع والحفاظ على المكتسبات(2)
4 – مع أيلك خان:
ذكر عبور عسكر أيلك خان إلى خراسان:
ابن الأثير سنة ست وتسعين وثلاثمائة 396 هـ: كان يمين الدولة لما استقر له ملك خراسان، وملك أيلك خان ما وراء النهر، قد راسله ووافقه وتزوج ابنته، وانعقدت بينهما مصاهرة ومصالحة، فلم تزل السعاة حتى أفسدوا ذات بينهما، وكتم أيلك خان ما في نفسه، فلما سار يمين الدولة إلى المولتان اغتنم أيلك خان خلو خراسان، فسير سباشي تكين، صاحب جيشه في هذه السنة، إلى خراسان في معظم جنده، وسير أخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء.
وكان يمين الدولة قد جعل بهراة أميراً من أكابر أمرائه يقال له: أرسلان الجاذب، فأمره إذا ظهر عليه مخالف أن ينحاز إلى غزنة. فلما عبر سباشي تكين إلى خراسان سار أرسلان إلى غزنة، وملك سباشي هراة وأقام بها، وأرسل إلى نيسابور من استولى عليها.
واتصلت الأخبار بيمين الدولة، وهو بالهند، فرجع إلى غزنة لا يلوي على دار، ولا يركن إلى قرار، فلما بلغها فرق في عساكره الأموال، وقوّاهم، وأصلح ما أراد إصلاحه، واستمد الأتراك الخلجية، فجاءه منه خلق كثير، وسار بهم نحو بلخ، وبها جعفر تكين أخو أيلك خان، فعبر إلى ترمذ، ونزل يمين الدولة ببلخ، وسير العساكر إلى سباشي تكين بهراة، فلما قاربوه سار نحو مرو ليعبر النهر، فلقيه التركمان الغزية، فقاتلوه فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة.
ثم سار نحو أبيورد لتعذر العبور عليه، فتبعه عسكر يمين الدولة، كلما رحل نزلوا، حتى ساقه الخوف من الطلب إلى جرجان فأخرج عنها، ثم عاد إلى خراسان، فعارضه يمين الدولة، فمنعه عن مقصده، وأسر أخو سباشي تكين وجماعة من قواده، ونجا هو في خف من أصحابه، فعبر النهر.
وكان أيلك خان قد عبر أخاه جعفر تكين إلى بلخ ليلفت يمين الدولة عن طلب سباشي، فلم يرجع، وجعل دأبه إخراج سباشي من خراسان، فلما أخرجه عنها عاد إلى بلخ، فانهزم من كان بها مع جعفر تكين، وسلمت خراسان ليمين الدولة.
هزيمة أيلك خان:
لما أخرج يمين الدولة عساكر ايلك خان من خراسان، راسل ايلك خان قدر خان بن بغراخان ملك الخُتل لقرابة بينهما، وذكر له حاله، واستعان به، واستنصره، واستنفر الترك من أقاصي بلادها، وسار نحو خراسان (في خمسين ألف أو يزيدون)، واجتمع هو وايلك خان، فعبرا النهر.
(الحموي: الخُتَّل بضم أوله وتشديد ثانيه وفتحه: قال البشاري كورة واسعة كثيرة المدن خلف جيحون، وهي أجل من صغانيان وأوسع خطة وأكبر مدنا وأكثر خيرا، ولها من المدن قرية بنجاراع وهلاورد ولاوكند وكاوند وتمليات وإسكندره ومنك، وقال الإصطخري: أول كورة على جيحون من وراء النهر الختل والوخش وهما كورتان غير أنهما مجموعتان في عمل واحد وهما بين جرياب ووخشاب، فختل أرض عرفت بالدواب لا بالناس وقد نسب إليها قوم من أهل العلم. انتهى)
وبلغ الخبر يمين الدولة، وهو بطخارستان، فسار وسبقهما إلى بلخ، واستعد للحرب، وجمع الترك الغزية، والخلج، والهند، والأفغانية، والغزنوية، وخرج عن بلخ، فعسكر على فرسخين بمكان فسيح يصلح للحرب، (على أربعة فراسخ من البلد يعرف بقنطرة جرخيان) وتقدم ايلك خان، وقدرخان في عساكرهما، فنزلوا بإزائه، واقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل.
فلما كان الغد برز بعضهم إلى بعض (في حاشية الكامل هنا من العتبي: عبى السلطان رجاله صفوفا، رتب في القلب أخاه صاحب الجيش نصرا، ووالي الجوزجان أبانصر أحمد بن محمد الفريغوني، وأبا عبدالله محمد بن إبراهيم الطائي في كماة الأكراد والعرب، وسائر جماهير الهنود، وفي الميمنة حاجبه الكبير أباسعيد التونتاش، وندب للميسرة أرسلان الجاذب، وحصن الصفوف بزهاء خمسمائة في فيلته، وأقبل أيلك فشحن قبله بخواص غلمانه، وأعلام فرسانه، وولى قدرخان ميمنته في الأتراك الختن، وشحن بجعفر تكين ميسرته) واقتتلوا.
واعتزل يمين الدولة إلى نشز مرتفع ينظر إلى الحرب، ونزل عن دابته وعفّر وجهه على الصعيد تواضعاً لله تعالى، وسأله النصر والظفر، ثم نزل وحمل في فيلته على قلب ايلك خان، فأزاله عن مكانه، ووقعت الهزيمة فيهم، وتبعهم أصحاب يمين الدولة يقتلون، ويأسرون، ويغنمون إلى أن عبروا بهم النهر، وأكثر الشعراء تهنئة يمين لدولة بهذا الفتح.
موت أيلك خان:
ابن الأثير: في سنة 403 هـ توفي ايلك خان وهو يتجهز للعود إلى خراسان، ليأخذ بثأره من يمين الدولة، وكاتب قدرخان وطغان خان ليساعداه على ذلك.
فلما توفي ولي بعده أخوه طغان، فراسل يمين الدولة وصالحه، وقال له: المصلحة للإسلام والمسلمين أن تشتغل أنت بغزو الهند، وأشتغل أنا بغزو الترك، وأن يترك بعضنا بعضاً؛ فوافق ذلك، فأجابه إليه، وزال الخلاف، واشتغلا بغزو الكفار.
وكان ايلك خان خيراً، عادلاً، حسن السيرة، محباً للدين وأهله، معظماً للعلم وأهله، محسناً إليهم.
5 – فتح بلاد الغور:
ابن الأثير: بلاد الغور تجاور غزنة، وكان الغور يقطعون الطريق، ويخيفون السبيل، وبلادهم جبال وعرة، ومضايق غلقة، وكانوا يحتمون بها، ويعتصمون بصعوبة مسلكها، فلما كثر ذلك منهم أنف يمين الدولة محمود بن سبكتكين أن يكون مثل أولئك المفسدين جيرانه، وهم على هذه الحال من الفساد والكفر، فجمع العساكر وسار إليهم وعلى مقدمته التونتاش الحاجب، صاحب هراة، وأرسلان الجاذب صاحب طوس، وهما أكبر أمرائه، فسارا فيمن معهما حتى انتهوا إلى مضيق قد شحن بالمقاتلة، فتناوشوا الحرب، وصبر الفريقان.
فسمع يمين الدولة الحال، فجد في السير إليهم، وملك عليهم مسالكهم، فتفرقوا، وساروا إلى عظيم الغورية المعروف بابن سوري، فانتهوا إلى مدينته التي تدعى اهنكران، فبرز من المدينة في عشرة آلاف مقاتل، فقاتلهم المسلمون إلى أن انتصف النهار، فرأوا أشجع الناس وأقواهم على القتال، فأمر يمين الدولة أن يولوهم الأدبار على سبيل الاستدراج، ففعلوا. فلما رأى الغورية ذلك ظنوه هزيمة، فاتبعوهم حتى أبعدوا عن مدينتهم، فحينئذ عطف المسلمون عليهم ووضعوا السيوف فيهم فأبادوهم قتلاً وأسراً، وكان في الأسرى كبيرهم وزعيمهم ابن سوري، ودخل المسلمون المدينة وملكوها، وغنموا ما فيها، وفتحوا تلك القلاع والحصون التي لهم جميعها، فلما عاين ابن سوري ما فعل المسلمون بهم شرب سماً كان معه، فمات وخسر الدنيا والآخرة، (ذَلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبِينُ).
وأظهر يمين الدولة في تلك الأعمال شعار الإسلام، وجعل عندهم من يعلمهم شرائعه وعاد؛ ثم سار إلى طائفة أخرى من الكفار، فقطع عليهم مفازة من رمل، ولحق عساكره عطش شديد وكادوا يهلكون، فلطف الله، سبحانه وتعالى، بهم وأرسل عليهم مطراً سقاهم، وسهل عليهم السير في الرمل، فوصل إلى الكفار، وهم جمع عظيم، ومعهم ستمائة فيل، فقاتلهم أشد قتال صبر فيه بعضهم لبعض، ثم إن الله نصر المسلمين، وهزم الكفار، وأخذ غنائمهم، وعاد سالماً مظفراً منصوراً.
علي البار: في سنة 401 هـ حارب محمود الغور وكانوا لا يدينون بدين الإسلام، وهي منطقة جبلية وعرة بين هراة وغزنة، ومن ثم كانوا يقطعون الطريق ويخيفون السبيل، فتوجه لجهادها ففتحها ونشر الإسلام فيها وجعل فيهم الأئمة والوعاظ ومن يعلمهم شؤون الإسلام، فاعتنقوا الإسلام وصاروا من أكبر حماته ودعاته، وهم الذين خلفوا الأسرة الغزنوية في الحكم، صارت للغوريين دولة باذخة الشأن وأتموا ما بدأه الغزنوي من أمر نشر الإسلام، لهم الفضل في نشر الإسلام في البنغال.
6 – فتح الري وبلاد الجبل:
علي البار: وأزال سلطان دولة بني بويه في الري (مدينة في شمال ايران بضاحية طهران) وبلاد الجبل سنة 420 هـ وكان ينقم عليهم لكونهم رافضة وتركهم القرامطة يعيثون في الأرض فسادا.
حسن إبراهيم: ومن أهم الأعمال التي قام بها محمود الغزنوي إزالته سلطان البويهيين في الري وبلاد الجبل.
فقد انتهز فرصة استنجاد مجد الدولة بن فخر الدولة الذي استبدت أمه بالأمر دونه وانصرف إلى النساء واشتغل بقراءة الكتب – فاختلت دولته بعد موت أمه، وأرسل إليه في سنة 420هـ جيشا قبض عليه وعلى ابنه أبي دلف، ثم سار محمود إلى الري ودخلها، وأحضر مجد الدولة وقال له: أما قرأت شانامه (يقصد الشاهنامه للفردوسي: وهو تاريخ الفرس) وتاريخ الطبري (وهو تاريخ المسلمين)؟ قال: بلى. قال: ما حالك حالَ من قرأهما! أما لعبتَ بالشطرنج؟ قال: بلى! قال: فهل رأيت شاهاً يدخل على شاه؟ قال: لا! قال: فمن حملك على أن سلمت نفسك إلى من هو أقوى منك؟ ثم سيَّرَه إلى خراسان، وملك قزوين وصلب عددا كبيرا من أصحابه الباطنية، ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة والمعتزلة والنجوم، وأخذ عدا ذلك مائة حمل من الكتب.
قال ابن كثير: وفيها (سنة عشرين وأربعمائة) ورد كتاب من محمود بن سبكتكين أنه أحل بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلا ذريعا، وصلبا شنيعا، وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي، فحصل منها ما يقارب ألف ألف دينار، وقد كان في حيازته نحو من خمسين امرأة حرة، وقد ولدن له ثلاثا وثلاثين ولدا بين ذكر وأنثى، وكانوا يرون إباحة ذلك. (البداية والنهاية: 11 / 468)
علي البار: وهاجم الباطنية في قزوين شمال إيران ونفى المعتزلة إلى خراسان وأحرق كتب الفلسفة والمعتزلة والنجوم وأخذ عدا ذلك مائة حمل من الكتب.
وبهذه الفتوحات صارت له دولة قوية الأركان واسعة الأرجاء، فشمر لجهاد الهند ونشر الإسلام في ربوعه.
7 – مع السلاجقة:
السلاجقة الذين كانوا في بر بخارى: قوم لهم قوة وعقل وتدبير، لكن القدر قدرهم في تلك المفاوز والجبال، وكان محمود رحمه الله يعرف خطرهم على دولته، لذلك كان يهمه أمرهم، والسلطان مسعود بن محمود لما تولى الحكم بعد أبيه، لم يكن كثير الاهتمام بقضية السلاجقة، فلم يستطع منعهم، بل اسطاعوا نقب الردم وخرجوا فأخرجوا مسعودا من شمال ملكه، وإليكم البيان:
ابن خلكان:طغرلبكأبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق الملقب بركن الدين طغرلبك أول ملوك السلاجقة؛ كان هؤلاء القوم قبل استيلائهم على المماليك يسكنون فيماوراء النهر في موضع بينه وبين بخارى مسافة عشرين فرسخاً، وهم أتراك، وكانوا عدداً يجل عن الحصر والإحصاء، وكانوا لا يدخلون تحت طاعة سلطان، وإذا قصدهم جمع لا طاقة لهم به دخلوا المفاوز وتحصنوا بالرمال فلا يصل إليهم أحد، فلما عبر السلطان محمود بن سبكتكين إلى ما وراء النهر، وجد زعيم بني سلجوق قوي الشوكة كثير العدة، يتصرف في أمره على المخاتلة والمراوغة وينتقل من أرض إلى غيرها ويغير في أثناء ذلك على تلك البلاد، فاستماله وجذبه، ولم يزل يخدعه حتى أقدمه إليه، فأمسكه وحمله إلى بعض القلاع واعتقله، وخرج في إعمال الحيلة في تدبير أمر أصحابه، واستشار أعيان دولته في شأنهم، فمنهم من أشار بإغراقهم في نهر جيحون؛ وأشار آخرون بقطع إبهام كل رجل منهم ليعتذر عليهم الرمي والعمل بالسلاح، واختلفت الآراء في ذلك، وآخر ما وقع الاتفاق عليه أن يعبر بهم جيحون إلى أرض خراسان ويفرقهم في النواحي، ويضع عليهم الخراج، ففعل ذلك.
فدخلوا في الطاعة واستقاموا، وأقاموا على تلك الحالة مدة، فطمع فيهم العمال وظلموهم وامتدت إليهم أيدي الناس وتهضموا جانبهم وأخذوا من أموالهم ومواشيهم، فانفصل منهم ألفا بيت، ومضوا إلى بلاد كرمان، وملكها يومئذ الأمير أبو الفوارس ابن بهاء الدولة عضد الدولة بن بويه، فأقبل عليهم وخلع على وجوههم، وعزم على استخدامهم فلم يستتموا عشرة أيام حتى مات أبو الفوارس، وخافوا من الديلم، وهم أهل ذلك الإقليم، فبادروا إلى قصد أصبهان ونزلوا بظاهرها، وصاحبها علاء الدولة أبو جعفر بن كاكويه، فرغب في استخدامهم، فكتب إليه السلطان محمود يأمره بالإيقاع بهم ونهبهم، فتواقعوا وقتل من الطائفتين جماعة، وقصد الباقون أذربيجان وانحاز الذين بخراسان إلى جبل قريب من خوارزم، فجرد السلطان محمود جيشاً وأرسله في طلبهم، فتتبعوهم في تلك المفاوز مقدار سنتين، ثم قصدهم محمود بنفسه ولم يزل في أثرهم حتى شردهم وشتتهم.
ثم توفي محمود عقيب ذلك وقام بالأمر بعده ولده مسعود، فاحتاج إلى الاستظهار بالجيوش، فكتب إلى الطائفة التي بأذربيجان لتتوجه إليه، فجاءه منهم ألف فارس، فاستخدمهم ومضى بهم إلى خراسان، فسألوه في أمر الباقين الذي شتتهم والده محمود، فراسلهم وشرد عليه لزوم الطاعة، فأجابوه إلى ذلك وأمنهم، وحضروا إليه ورتبهم على ما كان والده قد رتبهم أولاً، ثم دخل مسعود بلاد الهند لاضطراب أحوالها عليه، فخلت لهم البلاد وعادوا إلى الفساد، وبالجملة فإن الشرح في هذا يطول.
وجرى هذا كله والسلطان طغرلبك المذكور وأخوه داود ليسا معهم، بل كانا في موضعهم من نواحي ما وراء النهر، وجرت بينهما وبين ملكشاه صاحب بخارى وقعة عظيمة قتل فيها خلق كثير من أصحابهما، ودعت حاجتهما إلى اللحاق بأصحابهما الذي بخراسان فكاتبوا مسعوداً وسألوه الأمان والاستخدام، فحبس الرسل وجرد جيوشاً لمواقعة من بخراسان منهم، فكانت مقتلة عظيمة، ثم إنهم اعتذورا إلى مسعود وبذلوا له الطاعة وضمنوا له أخذ خوارزم من صاحبها، فطيب قلوبهم وأفرج عن الرسل الواصلين من جهة ما وراء النهر وسألوه أن يفرج عن زعيمهم الذي اعتقله أبوه محمود في أول الأمر، فأجابهم إلى سؤالهم وأنزله من تلك القلعة، وحمل إلى بلخ مقيداً فاستأذن مسعوداً في مراسلة ابني أخيه طغرلبك وداود -المقدم ذكرهما- فأذن له، فراسلهما. وحاصل الأمر أنهما وصلا إلى خراسان ومعهما أيضاً جيش كبير، فاجتمع الجميع، وجرت لهم مع ولاة خراسان ونواب مسعود في البلاد أسباب يطول شرحها.
وخلاصة الأمر أنهم استظهروا عليهم وظفروا بهم، وأول شيء ملكوه من البلاد طوس، وقيل الري، وكان تملكهم في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، ثم بعد ذلك بقليل ملكوا نيسابور، إحدى قواعد خراسان، في شهر رمضان في السنة المذكورة، وكان السلطان طغرلبك المذكور كبيرهم، وإليه الأمر والنهي في السلطنة، وأخذ أخوه داود المذكور مدينة بلخ، وهو والد ألب أرسلان -الآتي ذكره إن شاء الله تعالى- واتسع لهم الملك واقتسموا البلاد، وانحاز مسعود إلى غزنة وتلك النواحي، وكانوا يخطبون له في أول الأمر، وعظم شأنهم إلى أن أرسلهم الإمام القائم بأمر الله، وكان الرسول الذي أرسلهم إليهم القاضي أبا الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، مصنف “الحاوي” في الفقه ثم ملك بغداد والعراق، في سادس عشر شهر رمضان المعظم، سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وأوصاهم بتقوى الله تعالى والعدل في الرعية والرفق بهم وبث الإحسان إلى الناس.
وكان طغرلبك حليماً كريماً محافظاً على الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة، وكان يصوم الإثنين والخميس ويكثر من الصدقات ويبني المساجد، ويقول: أستحي من الله سبحانه وتعالى أن أبنِ لي داراً ولا أبنِ إلى جانبها مسجداً. ومن محاسنه المسطورة أنه سير الشريف ناصر بن إسماعيل رسولاً إلى ملكة الروم، وكانت إذا ذاك امرأة كافرة، فاستأذنها الشريف في الصلاة بجامع القسطنطينية جماعة يوم الجمعة، فأذنت له في ذلك، فصلى وخطب للإمام القائم، وكان رسول المستنصر العبيدي صاحب مصر حاضراً فأنكر ذلك، وكان من أكبر الأسباب في فساد الحال بين المصريين والروم.
ولما تمهدت له البلاد وملك العراق وبغداد، سير إلى الإمام القائم وخطب ابنته، فشق على القائم ذلك واستعفى منه، وترددت الرسل بينهما، ذكر ذلك في “الشذور” سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، فلم يجد من ذلك بداً فزوجه بها، وعقد العقد بظاهر مدينة تبريز، ثم توجه إلى بغداد في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، ولما دخلها سير طلب الزفاف وحمل مائة ألف دينار برسم حمل القماش ونقله، فزفت إليه ليلة الإثنين خامس عشر صفر بدار المملكة، وجلست على سرير ملبس بالذهب، ودخل إليها السلطان.